Nida Kadhim 1939
ولد الفنان نداء كاظم في مدينة البصرة عام 1939م وأمضى دراسته الابتدائية والثانوية فيها، انتقلت عائلته إلى بغداد عام 1959 التحق مباشرة في معهد الفنون الجميلة قسم النحت فدرس على يد أساتذة النحت الكبار آنذاك مثل جواد سليم خالد الرحال وعبد الرحمن الكيلاني ومحمد الحسني .. وبعد تخرجه أسس مع الفنانين التشكيليين طالب مكي وصالح الجميعي وفائق حسين ( جماعة المجددين) عام 1965م وأصدروا بيانا فنيا وضح المهاد النظري لهم ٠
كتب الصديق سعد هادي عن تجربة الفنان نداء كاظم ٠٠٠
تمثال بدر شاكر السيّاب في البصرة أشهر أعماله ربّما، لكنّ نداء كاظم خلّد شعراء كثيرين... من الجواهري إلى سعدي يوسف. على مشارف سن الثمانين يخطط النحات العراقي المعروف لإنجاز ملحمة تجمع بين «غلغامش» و«نصب الحرية» رائعة أستاذه جواد سليم. لكن أين مكانة النحت في العراق اليوم؟
لا يخفي النحات العراقي نداء كاظم شعوراً ظل يراوده دائماً: على رغم حرصه على الاقتراب مظهرياً وروحياً من ملامح الشخصيات التي ينحتها، إلا أنّه كان يحاول التعبير من خلالها عن مشاكله وهواجسه وعذاباته أيضاً. كانت تلك التماثيل تمثّله هو بقدر ما تمثّل أشخاصها. تمثال الشاعر بدر شاكر السياب الذي اشتَهر أكثر من سواه وقد أنجزه عام 1969، يمثّل ما كان يعانيه كاظم في تلك الآونة، عدا تمثيله للسياب كشاهد على مرحلة تحوّل سيضيع العراق في دهاليزها لأكثر من ثلاثة عقود.
يقول عن ذلك التمثال الذي يبلغ ارتفاعه أربعة أمتار تقريباً إنّه كان تجربة أولى، لم يُعنَ فيها تماماً بالجوانب التقنية، بل أراد فقط أن يعبّر عن الشاعر في حركته المهزوزة. كان السياب يمشي في أواخر أيامه مرتعشاً، ولم يرد كاظم من خلال التمثال أن يعبّر عن استقراره. يتذكر أنّه كان تلميذاً للسياب في مدرسة «المعقل» في البصرة: «كان عصبيّ المزاج ولم يستمر في التدريس طويلاً، عندما كنت أراه يمشي مستنداً إلى عكاز، كنت أحيّيه فيردّ على تحيتي بنظرة غامضة. لو تسنّى لي الآن أن أنحت التمثال من جديد لنحتّ تمثالاً عملاقاً أضيفُ إليه تجارب السنين التي مرت وخيباتها».
هذا ما فعله مع النموذج الأول لتمثال الجواهري، وهو يحلم بأن يوضع على ضفاف دجلة التي تغنّى بها في قصائده. هنا، نحت رأساً عملاقاً ليعبر عن جبروت الشاعر الكامن في الداخل. والجواهري قال له، حين كان يشتغل في تمثاله: «ما أجمل الطين الذي نصنع منه نحن البشر». الآخرون ممن نحتهم: سعدي يوسف، مظفر النواب، رشدي العامل، قالوا له شيئاً شبيهاً عن الطين. الأشكال الأولى التي ينجزها النحات على الطين تغري الآخرين دائماً. لها سمات جمالية لا تتوافر في المواد الأخرى، لكل مادة خصوصيتها. الخشب الذي بدأ معه تجاربه الأولى من أصعب الخامات، إنّه مادة تفرض على النحات الانسياق لها، وأي خطأ تقني قد يجبره على تغيير معالم الشكل مناقضاً فكرته الأساسية التي انطلق منها. النحاس صعب ويحتاج إلى الكثير المهارة. أما البرونز فهو وسيط صناعي يجسّد ما يصنعه النحات على الطين. وقد كانت لنداء الريادة في تأسيس مصهر حكومي للبرونز في العراق، وكان تمثال السياب الإنجاز الأول لذلك المصهر.
وفي السنة ذاتها، أنجز إسماعيل فتاح تمثالاً للرصافي بجهود ذاتية، كانت هناك قاعدة صناعية توازي الإنجاز الفني في العراق. كل تماثيل العراق كانت تنجز في الخارج، «نصب الحرية» لجواد سليم مثلاً أنجز في إيطاليا. وعلى رغم حرص جواد على متابعة كل صغيرة وكبيرة في النصب العملاق، إلا أنّ مواصفات التنفيذ لم تكن دقيقة، فأدى ذلك مع عدد آخر من التداخلات إلى التعجيل برحيله عام 1961 وهو في الأربعين. كان نداء قد تتلمذ على يده لسنة واحدة قبل سفره إلى فلورنسا لإنجاز النصب، ثم عمل معه على إكماله حين عاد إلى العراق. وحين توفي، طُلب منه أن يجلس إلى جوار تابوته في السيارة التي أقلّته إلى المقبرة، لأنّه لم ينجب ابناً، وقد ظل نداء كاظم يعترف دائماً بأبوّته: «قبل جواد، لم يكن هناك نحت في العراق. ما صنعه كان أشبه بالمعجزة، وتولّدت بعده سلالة طويلة من النحاتين».
أستاذه الآخر كان الإيطالي الشهير مارينو ماريني الذي كان يتردد عليه في محترفه في روما حين كان يدرس النحت هناك في السبعينيات، وقد تعلّم منه كيف يصنع النحات أسلوبه. أحدهم قال له قبل ذلك إنّه يمتلك أسلوباً كوزموبوليتياً، فيما كان نداء يعتقد أن الأسلوب هو الإحساس الكامن في داخل المادة. أما الآن فينظر إلى كل ما أنجزه كمرحلة متتالية الفصول من التجارب: «ما زال التجريب يستهويني، وما زلت أنجز كل أعمالي بنفسي، بما في ذلك صب البرونز، لكنني حذر الآن. لا أحبذ أن يطّلع الآخرون على تجاربي قبل أن تكتمل، فالأفكار النحتية سهلة الالتقاط والتقليد».
يجد كاظم أنّه من الصعب التحدث عن وضعه كنحات في ظل الوضع الراهن في العراق. «قبل الاحتلال، كان النحاتون مجبرين بشكل أو بآخر على استنساخ شخصيّة صدام. أما الآن فلا أحد يعتني بهم. إنّهم ضائعون في الفوضى، النحت فنّ الدولة قبل كل شيء، فيما الدولة الآن على بعد فراسخ من النحت. بعض القوى الظلاميّة تنظر إليه على أنّه رجس وزندقة، وقد دمرت الكثير من الشواهد النحتية بزعم أنّها من مخلّفات النظام السابق! بل إن بعض غلاة الأصوليّة ينظر إلى التراث النحتي في بلاد الرافدين، السومري والبابلي والآشوري، من منطلق ديني، ويطالب بالتخلّص منه. النحت والفن عامةً لا ينمو في أجواء كهذه. نحن بحاجة إلى فضاء من الحرية للتعبير عما أنجزناه خلال العقود الماضية. لديّ الكثير من الأفكار لكن مَن يساعدني على تنفيذها؟ ينبغي لي أن أتخطى مرحلة الإنجاز بالطين. فالطين كمادة نحتية لا يدوم إلا أياماً، فمن يوفر لي تكاليف المرحلة التالية؟».
يشير نداء إلى الكثير من القوالب التي يحتفظ بها لتماثيل أعلام الثقافة في العراق، وقد نفذها في مراحل زمنية متتابعة، وظلت تتكاثر من حوله: «لا أدري إلى متى ستبقى هكذا. مجرد ملامح على جفصين متآكل، كنت أحلم دائماً بأن أعيد تنفيذها على البرونز، وأن أقيم لها متحفاً دائماً في مكان ما. ولكن ذلك الحلم تبخّر تماماً، ما يساعدني على العيش أنّني في صراع دائم مع ذاتي ومع المحيط الخارجي. أبحث باستمرار وأفكر بأساليب جديدة لتنفيذ أفكاري النحتية. أفكر حالياً بإنجاز ملحمة نحتية تلتقي مع «غلغامش» في المضمون ومع «نصب الحرية» لجهة البناء.
وجوه كثيرة خلّدها خلال مسيرته الإبداعية، مثل تمثالي السياب والفراهيدي في البصرة، وتمثال أبي تمام في الموصل، والمرأة العراقية في بغداد، وتمثال أبي جعفر المنصور... وأبدع الكثير من البورتريهات لشعراء وأدباء ومثقفين عراقيين مثل الجواهري والمخزومي وعبد الملك نوري ويوسف الصائغ... نسأله: هل تفكر في إنجاز تمثال لوجهك بالطريقة ذاتها التي تحرص عليها كما تقول في تعاملك مع الآخرين: أي أن تكشف عن أعماقك وعن جوهر شخصيتك الحقيقي؟ لا يرد مباشرةً، بل يشير إلى أنّه رغم وقوفه على مشارف الثمانين ، لا يستعجل ذلك. يجد أنّ ثمة متسعاً لمواصلة حواره مع الطين، فهو وحده القادر على التعبير عما يختزنه أو يفكّر به.
اعداد هاشم حنون - كندا ٢٠٢٠
ولد الفنان نداء كاظم في مدينة البصرة عام 1939م وأمضى دراسته الابتدائية والثانوية فيها، انتقلت عائلته إلى بغداد عام 1959 التحق مباشرة في معهد الفنون الجميلة قسم النحت فدرس على يد أساتذة النحت الكبار آنذاك مثل جواد سليم خالد الرحال وعبد الرحمن الكيلاني ومحمد الحسني .. وبعد تخرجه أسس مع الفنانين التشكيليين طالب مكي وصالح الجميعي وفائق حسين ( جماعة المجددين) عام 1965م وأصدروا بيانا فنيا وضح المهاد النظري لهم ٠
كتب الصديق سعد هادي عن تجربة الفنان نداء كاظم ٠٠٠
تمثال بدر شاكر السيّاب في البصرة أشهر أعماله ربّما، لكنّ نداء كاظم خلّد شعراء كثيرين... من الجواهري إلى سعدي يوسف. على مشارف سن الثمانين يخطط النحات العراقي المعروف لإنجاز ملحمة تجمع بين «غلغامش» و«نصب الحرية» رائعة أستاذه جواد سليم. لكن أين مكانة النحت في العراق اليوم؟
لا يخفي النحات العراقي نداء كاظم شعوراً ظل يراوده دائماً: على رغم حرصه على الاقتراب مظهرياً وروحياً من ملامح الشخصيات التي ينحتها، إلا أنّه كان يحاول التعبير من خلالها عن مشاكله وهواجسه وعذاباته أيضاً. كانت تلك التماثيل تمثّله هو بقدر ما تمثّل أشخاصها. تمثال الشاعر بدر شاكر السياب الذي اشتَهر أكثر من سواه وقد أنجزه عام 1969، يمثّل ما كان يعانيه كاظم في تلك الآونة، عدا تمثيله للسياب كشاهد على مرحلة تحوّل سيضيع العراق في دهاليزها لأكثر من ثلاثة عقود.
يقول عن ذلك التمثال الذي يبلغ ارتفاعه أربعة أمتار تقريباً إنّه كان تجربة أولى، لم يُعنَ فيها تماماً بالجوانب التقنية، بل أراد فقط أن يعبّر عن الشاعر في حركته المهزوزة. كان السياب يمشي في أواخر أيامه مرتعشاً، ولم يرد كاظم من خلال التمثال أن يعبّر عن استقراره. يتذكر أنّه كان تلميذاً للسياب في مدرسة «المعقل» في البصرة: «كان عصبيّ المزاج ولم يستمر في التدريس طويلاً، عندما كنت أراه يمشي مستنداً إلى عكاز، كنت أحيّيه فيردّ على تحيتي بنظرة غامضة. لو تسنّى لي الآن أن أنحت التمثال من جديد لنحتّ تمثالاً عملاقاً أضيفُ إليه تجارب السنين التي مرت وخيباتها».
هذا ما فعله مع النموذج الأول لتمثال الجواهري، وهو يحلم بأن يوضع على ضفاف دجلة التي تغنّى بها في قصائده. هنا، نحت رأساً عملاقاً ليعبر عن جبروت الشاعر الكامن في الداخل. والجواهري قال له، حين كان يشتغل في تمثاله: «ما أجمل الطين الذي نصنع منه نحن البشر». الآخرون ممن نحتهم: سعدي يوسف، مظفر النواب، رشدي العامل، قالوا له شيئاً شبيهاً عن الطين. الأشكال الأولى التي ينجزها النحات على الطين تغري الآخرين دائماً. لها سمات جمالية لا تتوافر في المواد الأخرى، لكل مادة خصوصيتها. الخشب الذي بدأ معه تجاربه الأولى من أصعب الخامات، إنّه مادة تفرض على النحات الانسياق لها، وأي خطأ تقني قد يجبره على تغيير معالم الشكل مناقضاً فكرته الأساسية التي انطلق منها. النحاس صعب ويحتاج إلى الكثير المهارة. أما البرونز فهو وسيط صناعي يجسّد ما يصنعه النحات على الطين. وقد كانت لنداء الريادة في تأسيس مصهر حكومي للبرونز في العراق، وكان تمثال السياب الإنجاز الأول لذلك المصهر.
وفي السنة ذاتها، أنجز إسماعيل فتاح تمثالاً للرصافي بجهود ذاتية، كانت هناك قاعدة صناعية توازي الإنجاز الفني في العراق. كل تماثيل العراق كانت تنجز في الخارج، «نصب الحرية» لجواد سليم مثلاً أنجز في إيطاليا. وعلى رغم حرص جواد على متابعة كل صغيرة وكبيرة في النصب العملاق، إلا أنّ مواصفات التنفيذ لم تكن دقيقة، فأدى ذلك مع عدد آخر من التداخلات إلى التعجيل برحيله عام 1961 وهو في الأربعين. كان نداء قد تتلمذ على يده لسنة واحدة قبل سفره إلى فلورنسا لإنجاز النصب، ثم عمل معه على إكماله حين عاد إلى العراق. وحين توفي، طُلب منه أن يجلس إلى جوار تابوته في السيارة التي أقلّته إلى المقبرة، لأنّه لم ينجب ابناً، وقد ظل نداء كاظم يعترف دائماً بأبوّته: «قبل جواد، لم يكن هناك نحت في العراق. ما صنعه كان أشبه بالمعجزة، وتولّدت بعده سلالة طويلة من النحاتين».
أستاذه الآخر كان الإيطالي الشهير مارينو ماريني الذي كان يتردد عليه في محترفه في روما حين كان يدرس النحت هناك في السبعينيات، وقد تعلّم منه كيف يصنع النحات أسلوبه. أحدهم قال له قبل ذلك إنّه يمتلك أسلوباً كوزموبوليتياً، فيما كان نداء يعتقد أن الأسلوب هو الإحساس الكامن في داخل المادة. أما الآن فينظر إلى كل ما أنجزه كمرحلة متتالية الفصول من التجارب: «ما زال التجريب يستهويني، وما زلت أنجز كل أعمالي بنفسي، بما في ذلك صب البرونز، لكنني حذر الآن. لا أحبذ أن يطّلع الآخرون على تجاربي قبل أن تكتمل، فالأفكار النحتية سهلة الالتقاط والتقليد».
يجد كاظم أنّه من الصعب التحدث عن وضعه كنحات في ظل الوضع الراهن في العراق. «قبل الاحتلال، كان النحاتون مجبرين بشكل أو بآخر على استنساخ شخصيّة صدام. أما الآن فلا أحد يعتني بهم. إنّهم ضائعون في الفوضى، النحت فنّ الدولة قبل كل شيء، فيما الدولة الآن على بعد فراسخ من النحت. بعض القوى الظلاميّة تنظر إليه على أنّه رجس وزندقة، وقد دمرت الكثير من الشواهد النحتية بزعم أنّها من مخلّفات النظام السابق! بل إن بعض غلاة الأصوليّة ينظر إلى التراث النحتي في بلاد الرافدين، السومري والبابلي والآشوري، من منطلق ديني، ويطالب بالتخلّص منه. النحت والفن عامةً لا ينمو في أجواء كهذه. نحن بحاجة إلى فضاء من الحرية للتعبير عما أنجزناه خلال العقود الماضية. لديّ الكثير من الأفكار لكن مَن يساعدني على تنفيذها؟ ينبغي لي أن أتخطى مرحلة الإنجاز بالطين. فالطين كمادة نحتية لا يدوم إلا أياماً، فمن يوفر لي تكاليف المرحلة التالية؟».
يشير نداء إلى الكثير من القوالب التي يحتفظ بها لتماثيل أعلام الثقافة في العراق، وقد نفذها في مراحل زمنية متتابعة، وظلت تتكاثر من حوله: «لا أدري إلى متى ستبقى هكذا. مجرد ملامح على جفصين متآكل، كنت أحلم دائماً بأن أعيد تنفيذها على البرونز، وأن أقيم لها متحفاً دائماً في مكان ما. ولكن ذلك الحلم تبخّر تماماً، ما يساعدني على العيش أنّني في صراع دائم مع ذاتي ومع المحيط الخارجي. أبحث باستمرار وأفكر بأساليب جديدة لتنفيذ أفكاري النحتية. أفكر حالياً بإنجاز ملحمة نحتية تلتقي مع «غلغامش» في المضمون ومع «نصب الحرية» لجهة البناء.
وجوه كثيرة خلّدها خلال مسيرته الإبداعية، مثل تمثالي السياب والفراهيدي في البصرة، وتمثال أبي تمام في الموصل، والمرأة العراقية في بغداد، وتمثال أبي جعفر المنصور... وأبدع الكثير من البورتريهات لشعراء وأدباء ومثقفين عراقيين مثل الجواهري والمخزومي وعبد الملك نوري ويوسف الصائغ... نسأله: هل تفكر في إنجاز تمثال لوجهك بالطريقة ذاتها التي تحرص عليها كما تقول في تعاملك مع الآخرين: أي أن تكشف عن أعماقك وعن جوهر شخصيتك الحقيقي؟ لا يرد مباشرةً، بل يشير إلى أنّه رغم وقوفه على مشارف الثمانين ، لا يستعجل ذلك. يجد أنّ ثمة متسعاً لمواصلة حواره مع الطين، فهو وحده القادر على التعبير عما يختزنه أو يفكّر به.
اعداد هاشم حنون - كندا ٢٠٢٠