بشار حاتم
ليفهم المرء ما يدور في الشرق الأوسط أو العالم العربي اليوم من صراعات وتدخلات وتناقضات ويقيم الأحداث بشكل منصف بعيدا عن الإعلام المغرض، فهو مطالب على الأقل بنبش تاريخ المنطقة من بداية القرن العشرين لغاية اليوم.
يفصل كتاب الخبير والباحث اللبناني المختص في شؤون الشرق الأوسط الدكتور (جورج قرم) للقارئ تاريخ الشرق الأوسط كمركز للتعددية الإثنية والدينية ومركز كل حضارة قديمة ويوضح ملابسات انحطاط المنطقة وغرقها في الفوضى السياسية اليوم وتعرضها للاستغلال والتدخلات الاستعمارية باختصار وامتياز ويوفر عليه الوقت لفهم تاريخ منطقتنا التي تعج بالنزاعات، من حيث انه يقدم أسئلة وإشكالات لفهم تشكل الشرق الأوسط الحديث وسياساته مع إبراز المساحات الجغرافية واللغوية والثقافية التي ارتكز عليها تاريخ المنطقة.
يلقي الكاتب الضوء في بداية كتابه على التعريفات الجغرافية والبشرية لمنطقة الشرق الأوسط، حيث اكتسبت المنطقة عدة تسميات منها المشرق والشرق الأدنى والشرق الأوسط وشمال أفريقيا وقد هيمن تعبير "الشرق الاوسط" على المنطقة وبقيت حدود المنطقة تتنوع بحسب المؤلفين أو المؤسسات. وانطلاقا من هذه التسمية يدخل الكاتب تحت تعبير (الشرق الأوسط ) فقط في الحيز الجغرافي الخاص ببلدان المشرق العربي وتركيا وإيران. تشرح الخصائص الجغرافية للشرق الأوسط من أوجه عدة تاريخه وملامحه الحضارية.
عرف الشرق الاوسط تنوعا كبيرا في الأنظمة والبنيات السياسية في إطار الإمبراطوريات والممالك الكبرى التي يمتد تاريخها إلى ستة آلاف سنة ومنها ولدت الدينات التوحيدية الثلاث وهنا أيضا ازدهرت الحضارة الإغريقية والهيلينية وأن الحضارات الثلاث الكبرى من المنطقة العربية والفارسية والتركية قد تاثرت بشكل قوي بعضها ببعض في التوليفة الرائعة التي حولتها إليها الثقافة الإسلامية الكلاسيكية في القرون الأولى لوجودها. وأصبحت اللغة العربية عندها لغة الثقافة العليا الكوسموبوليتية. وقد ورثت بدورها الثقافة الارامية والسريانية ولو من ناحية القرابة الألسنية.
ولأن الشرق الأوسط ملتقى بشري وجغرافي، فقد أرسيت فيه أسس أولى المواقع المدينية في حوض ما بين النهرين وفي وادي النيل. وقد ظهرت منذ الألف الرابع قبل المسيح، الأديان والكتابة مما سمح بنشوء الحضارة. تسمح الاكتشافات الأثرية الحديثة بتحديد مواقع تواجد التجمعات السكنية الصغيرة الأولى المعروفة في تاريخ البشرية في حوض الفرات في الألفين العاشر والتاسع قبل المسيح.
يشكل الشرق الأوسط حسب المؤلف، منطقيا كونه ملتقى قارات ، أرض امتزاج بشري كبير بين شعوب من الصنف السامي والصنف الهندو- أوروبي، بل وأيضا من الصنف الإفريقي عبر وادي النيل والنوبة. وتعبير السامية الذي استنبطه المستشرق الألماني شلوزل يعني مجموعة لغات متقاربة يرتبط أصلها باللغة السومرية وكتاباتها المسمارية.
بعد المقدمة التاريخية والجغرافية عن الشرق الأوسط، ينتقل الكاتب إلى التحولات التي حدثت في المنطقة لا سيما الإمبراطوريات والخلافات والغزوات والفتوحات والحملات الاستعمارية وصولا إلى الاحتلالات التي غيرت وجه المنطقة وفتحت أبواب الصراع فيها ، ويبحث الكاتب واقع التنافسات الأوروبية وما ترتب عليها من تقسيمات جديدة للشرق الأوسط ما بين الغزو المغوبي والحملات الصليبية وحملات نابليون مرورا بالاحتلالات الانجليزية والفرنسية لمصر والعراق وسوريا ولبنان وصولا إلى الحرب العالمية الأولى ومت ثم غزو فلسطين وكيف أصبح الشرق الأوسط تحت السيطرة الفرنسية ـ الانجليزية المباشرة ما بين ١٩١٩ و ١٩٥٩ ومن ثم تحول منطقة الشرق الأوسط الى منطقة تنافس كبير بين الأميركيين والروس في ظل الحرب الباردة.
وبالتطرق إلى تاريخ الشرق الأوسط الحديث الذي يهمنا على وجه التحديد والذي نركز عليه في هذا الملخص ، يرى الكاتب أن الغزوات الأوروبية التي طالت الشرق الأوسط لم يكن هدفها الحضارة وإنما كانت ولا زالت قائمة على المنافسة ومن أجل المزايا الاستراتيجية والاقتصادية ومن القرن التاسع عشر أصبحت الاحتياطات الهائلة من النفط في المنطقة موضوع نزاع متزايد ومساومات استعمارية بين الفرنسيين والانجليز من أجل اقتسام الهيمنة التي باتت اشبه بطريدة مطموع فيها وبذلك أصبح الشرق الأوسط الخزان الذي عنه لمواد الطاقة الذي ستركن إليه أوروبا ومن ثم أميركا لتأكيد الهيمنة عليه. ثم أصبح توطيد الكيان الصهيوني وحماية احتلالاتها في قلب اهتمامات صانعي القرار الغربيين منذ أواسط القرن العشرينةوقد قلب الغربيون بهذا أوضاع كل البنى الاجتماعية- السياسية التي عمرها آلاف السنين في المنطقة وخلقوا توترات داخلية خطيرة في قلب المجتمعات المحلية وشكلت هذه الأخيرة منبع حركات العنف والرفض لهذه الأوضاع.
ويشرح جورج قرم رؤيته للحروب التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط اعتبارا من حرب حزيران ١٩٦٧ التي شكلت منعطفا مع ظهور الحركات الفلسطينية بينما ساعدت حرب تشرين ١٩٧٣ على تعاظم الدور السعودي وعلى تفجر لبنان بينما كان قيام الثورة الإسلامية في إيران عام ١٩٧٩ ثم الحرب العراقية ـ الإيرانية التي أعقبتها مقدمة لصعود الحركات المتطرفة. وكانت حرب الخليج الأولى بداية وضع العراق تحت الوصاية، في الوقت الذي لم يؤد فيه سقوط الاتحاد السوفييتي إلى تراجع النزاعات في الشرق الأوسط وإنما إلى زيادة تأججها. وليقوم بالنتيجة الشرق الأوسط الجديد حسب المنظور الأميركي الصهيوني انطلاقا من عام ١٩٩٠ بعد أن ضعفت السيطرة الأوربية عليه.
في الفصل الخامس يغوص الكاتب في موضوع السيطرة الأوربية على الشرق الأوسط ويرى أن الاشكال الوحشية للاستعمار الأوروبي واستخفافه في تطبيق مبادئ الديمقراطية في تدخلاته في الشرق الأوسط لا تزال تشكل اليوم كابحا قويا أمام انتشار الأفكار الديمقراطية في هذا الجزء من العالم وأن انتشار القيم الديمقراطية الفردية وتراجعها أحيانا يسيران منذ مئتي عام على إيقاع نمط التدخلات الأوربية التي اعقبتها التدخلات الصهيونية والأمريكية المفرطة التي تغذي حركات الرفض والانغلاق على الهوية وعلى القيم على حساب الحركات الحداثوية ومن ثم كان للاتحاد السوفيتي وقعا سلبيا على تطور الاتجاهات الديمقراطية في المنطقة. وفي كل فترة الانتداب الفرنسي- البريطاني تم إحباط التطلعات القومية العربية ( التحديثية) والديمقراطية في كل مكان.
ينتقل الكاتب إلى موضوع الشرق الأوسط في ظل الحرب الباردة والنفط والنزاع العربي - الصهيوني وكيف بقت المنطقة حلبة صراع وملتقى طرق مواصلات حيويا للانتشار السريع للقوات العسكرية وأصبحت بالتالي السيطرة على الشرق الأوسط عنصرا أساسيا لمجمل سياسة الدفاع الغربية. فضلا عن ذلك جعل تطور الصناعة النفطية في الشرق الأوسط من هذه المنطقة أكبر خزان طبيعي للطاقة البخسة الثمن وأصبحت السيطرة عليها حيوية لحسن سير الاقتصادات الغربية. وإذا كانت الشركات الأوربية هيمنت على استغلال النفط العراقي والإيراني، فإن الشركات الأمريكية حصلت في العام ١٩٤٥ على الاحتكار الحصري لاستغلال الاحتياطات السعودية الضخمة.
لقد دعم الاتحاد السوفيتي في البداية وبقوة إنشاء الكيان الصهيوني واعتبر ستالين في الواقع أن الصهيونية وهي بمعظمها ذات اتجاه اشتراكي وتنحدر من أوروبا الوسطى ، تحمل إمكانية ثورية على مستوى المنطقة وهي محمية تقليدية للفرنسيين والإنكليز. إلا أن الاتحاد السوفيتي تخول عن الكيان الصهيوني الجديد منذ أواسط الخمسينيات من القرن العشرين وتوجه إلى مساندة الحركات القومية العربية، بينما وجد الكيان الصهيوني حلفاء أكثر وثوقا ومساندة في القوى الاستعمارية الأوربية القديمة.
وحسب الدكتور قرم فإن اهداف القوى العظمى المتناقضة منعت أي شكل من أشكال التعاون الإقليمي الفعال والضروري لتأمين استقرار المنطقة وتطورها الاقتصادي واخذ الصراع العربي الإسرائيلي أبعادا مأساوية واستمر توظيف الدين الإسلامي لمواجهة زحف الشيوعية في المجتمعات المحلية وكل هذه العوامل ساهمت في تأجيج الصراع في المنطقة لا سيما دعم العنف في لبنان في محاولة لوضعه تحت السيطرة الصهيونية الغربية.
ومن أجل التصدي للمد الشيوعي قامت أمريكا بتشجيع السعودية على توظيف الحركات الإسلامية في محاولة لاحتواء نفوذ الاتحاد السوفيتي وقد توجت هذه الجهود بالنجاح في عام ١٩٦٩ عندما أنشئ في مكة مؤتمر منطقة الدول الإسلامية ونظرا للقدرات المالية التي كانت تتمتع بها السعودية منذ ١٩٧٣ ، باتت هذه المنظمة منافسا خطيرا لحركة بلدان عدم الانحياز المناهضة لأمريكا. كان هدف المنظمة المعلن هو محاربة الإلحاد الماركسي والمادي وتأكيد القيم الإسلامية والتشجيع على تضامن الدول الإسلامية. وأنشأ المؤتمر منظمات تضامن مختلفة وبدأ بتمويل الحركات الأصولية في كل مكان.
بعد نجاح هذه التجربة شجعت أمريكا رجال الدين على السلطة في إيران وقيام ثورة ١٩٧٩ ولكن بعد استقرار الخميني في إيران تفاجئت القوى الإمبريالية بوقوف السلطة في إيران ضدها ، وهذا ما مهد إلى اشتعال الحرب الإيرانية العراقية. خرج العراق من الحرب مثقلا بالديون وهو ما غذى حقد صدام على الكويت الغنية وبعد الاجتياح العراقي للكويت تمت محاصرة العراق ووضعه تحت الوصاية الغربية. وقد مرت فترة التسعينيات بين الوعود الزائفة والحصارات الجائرة والمخططات الخبيثة ليتشكل الشرق الأوسط الجديد على الطريقة الأمريكية: هيمنة وديمقراطية وإرهاب! واخذت أمريكا تختلق الذرائع تلو الأخرى من أجل التدخل في الشرق الأوسط والسيطرة على ثرواته حتى اليوم بمساعدة حلفائها. وحين اجتاحت القوات الأمريكية العراق، قامت بنسف تراثه وحل أجهزته الأمنية وقامت بتغذية العنف في الدولة العراقية واخضاعه للهيمنة وهي إرادة واعية لمنع العراق من أن يعود يوما ما دولة مستقلة.ثم أخذت القوى الإمبريالية تزعزع استقرار لبنان وتطوق سوريا تدريجيا وتسوقها نحو الفوضى.
يشير الكاتب في النهاية إلى الصعوبات المنهجية في كتابة تاريخ الشرق الأوسط على اتساع تعقيده وعمقه التاريخي وما زاد صعوبة المهمة هو أن معرفتنا بالشرق القديم لم تتطور إلا في القرنين الماضيين بفضل الاكتشافات الأثرية الأوروبية التي أظهرت أهمية الحضارات القديمة في المنطقة. وفي ضرورة العودة إلى المعايير الموضوعية والواقعية في كتابة التاريخ يرى جورج قرم أن من الضرورات الجوهرية عندما نتحدث عن الشرق الأوسط، التمييز جيدا بين مختلف أنواع التاريخ التي تتم فيها مقاربة المنطقة. ولا يمكن في الواقع خلط الأديان مع تاريخ السلالات الملكية أو الإمبراطورية ولا مع تاريخ المناطق الجغرافية وشعوبها المتعددة لغويا وثقافيا ودينيا.
ويتساءل الكاتب هل كانت أسباب انحطاط حضارات الشرق الأوسط، هي أسباب أنثروبولوجية أم تاريخية؟يشير جورج قرم إلى التقاليد الأوروبية التي تعيد أسباب تقهقر حضارات الشرق الأوسط إلى الأصل (السامي) للسكان أو إلى الإسلام. وغالبا ما دعم التحليل الماركسي نظريته حول الاستبداد الآسيوي بطرح مثال الإمبراطوريات الشرق - أوسطية. بيد أن هذه التحليلات كلها منقوصة حسب رأي المؤلف، لأنها تهمل العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي تشكل إلى حد كبير أحد المحركات الأساسية للتاريخ وتناقض مؤلفات بعض كبار المستشرقين المعجبين بالإسلام مثل لويس ماسينيون ولويس غارديه أو غوستاف لوبون. بل أن الجيل الجديد من الباحثين في شؤون الإسلام يرون فيةالنشاك السياسي للحركات الإسلامية الطريق الوحيد المتاح لانتقال مجتمعات الشرق اوسطية إلى الحداثة والتنمية في أعقاب الفشل التام للتجارب التحديثية تحت التأثير المباشر للأفكار الأوروبية.
وبعد أكثر من مائتي عام ما تزال المنطقة فريسة الاضطرابات السياسية والتخلف الاقتصادي. وليس من السهل استعراض نتائج الهيمنة الأوروبية ومن بعدها الأمريكية ولهذا يشدد الكاتب على التمييز بين الأسباب التاريخية للانحطاط وبين الأسباب الأنثروبولوجية التي ما تزال عالقة في الفكر الأوروبي ما إن يحاول شرح تفوقه الخاص وانحطاط الحضارات الأخرى.
يرى الكاتب أن التوغل الأوروبي شكل عاملا قويا في التغيير المتعدد الأبعاد في المنطقة منها موجة الإصلاحات في القرن التاسع عشر لا سيما في تركيا وقد أثر الفكر الأوروبي في جزء كبير من النخب المسلمة وتأثرهم بالتقدم العلني والثقافي في البلدان الأوروبية ولكن التأثيرات الأوربية كان لها وجه تآكلي سلبي بالدرجة الأولى على الصعيد الاقتصادي.
وحسب الكاتب هناك عامل مهم له تأثير أساسي الشرق الأوسط وهو ظهور الحركة الصهيونية وتمددها نحو فلسطين وقد خلق ظهورها حالة من الصراع الدائم في المنطقة ويرى السيد جورد وجود حالة من سوء الفهم بين أوروبا والشرق العربي، وهي حالة زادت منها محاولة أوروبا إصلاح ما ألحقته باليهود من مظالم على حساب أرواح الفلسطينيين على الرغم من أن العرب لم يشاركوا بتلك المظالم. وقد نالت الحركة الصهيونية الدعم الأوروبي ومن ثم دعم الولايات المتحدة الأمريكية وحيث لا تشكل دينامية الصهيونية الأوربية بالنسبة إلى العرب ، إلا مظهرا جديدا من مظاهر الاعتداءات المتكررة للاستعمار الأوروبي.
وقد ساهمت هجمات ايلول ٢٠٠١ في صياغة عقيدة أمريكية جديدة تحذر من خطر يهدد البشرية يتجسد في إرهاب( إسلامي المصدر) متجاوزا حدود الأوطان واستحضر بوش في الكثيرمن خطاباته خطر الإسلام الفاشي وساهمت كتابات برنارد لويس أو صامويل هانتينغتون في تعميم هذه الرؤية التي تضع العالم العربي والمسلم في مواجهة العالم الغربي، فدعمت بذلك خط النفور النفسي القوي الذي يغذي الرهاب من الإسلام وإلى الجانب الآخر من خط الشرخ هذا وبالإضافة إلى الشعور بالاشمئزاز لما يحصل للفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال، أبصرت ضغائن عميقة جديدة النور في الرأي العام العربي والإيراني مع حربي الخليج وتم النظر إلى المصير الذي أخضع له الشعب العراقي منذ ١٩٩١ على أنه برهان جديد على غطرسة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين في سياساتهم في العراق أو حتى أيضا افغانستان.
إن محصلة تأثير أوروبا ومن بعدها الولايات المتحدة الأمريكية على الشرق الأوسط حسب الكاتب هي على الدرجة نفسها من التناقض في الشأن الاقتصادي كما في الشأنين الثقافي والسياسي. وكان من شأن سياسات التحديث الاقتصادي إغراق الدول الشرق اوسطية في الديون وفي التبعية التجارية والصناعية تجاه الدول الاوربية الكبرى وابقاء الاقتصادات الشرق اوسطية اقتصادات ريعية مغلقة ذات إنتاجية منخفضة ولا يمكن للاقتصاد الريعي تسريع الإصلاحات الديمقراطية. فللديمقراطية لم تظهر في أوروبا إلا مع نهاية الامتيازات الإقطاعية والريع الزراعي وصعود الصناعة التنافسية كما خلق فرصا كثيرة للعمل وحفز الإبداع ونوعية التعليم ، وهكذا فإن ما يحتاجه العرب اليوم التحرر من الهيمنة الغربية السياسية والعسكرية.
في الخاتمة يرى الدكتور جورج قرم أن تقسيمات الدول في الهلال الخصيب وشبه الجزيرة العربية باستثناء لبنان واليمن وعمان هي من فعل الاستعمار وادى تقسيم حوض بلا ما بين النهرين بين العراق وسوريا بصفة خاصة إلى القضاء على الوحدة القديمة لهذه المنطقة من دون أن يعيد بالتالي جمع الحيز الفينيقي والكنعاني القديم على ساحل البحر المتوسط في كيان واحد مع مواقع المدن العريقة البيزنطية- العربية- الارامية التابعة للصحراء السورية والمنتشرة ما بين لبنان وسوريا والأردن وفلسطين والمناطق المتاخمة لها في العراق وتركيا. وأما بالنسبة لفلسطين فقد طرأ تعديل قسري على سكانها بفعل الهجرة اليهودية الوافدة من أوروبا الشرقية وروسيا وشمال أفريقيا ولا يزال الفلسطينيون العرب من دون وطن وخاضعين للاحتلال الاسرائيلي. وأن مصادر شرعية إسرائيل مستمدة من التاريخ الأوروبي للاضطهادات المعادية للسامية وليس في الشرق الأوسط ولذلك لا يزال المجتمع الإسرائيلي مرتبطا في شكل وثيق بالمجتمعات الأوروبية والأمريكية.
وتعتبر المملكة السعودية هي أيضا دولة حديثة وقد تأسست عبر الغزو العسكري ولم يكن بإمكان الدولة كما بالنسبة لجاراتها الخليجية أن تحوز على ثقلها السياسي والاقتصادي لولا ثرواتها النفطية التي يستغلها الغربيون منذ الحرب العالمية الثانية.
ولهذا فإن الشرق الأوسط هو اليوم كناية عن مجموعة دول من دون بوصلة، لا تسمح تركيباته المتنافرة بتأمين الحد الأدنى من الاستقرار. وتزيد الترسانات الحربية التي تكدسها دول المنطقة وبشكل رئيسي الترسانة النووية الإسرائيلية، من خطورة الوضع وكذلك القيود المختلفة على التصنيع ، كما ان البطالة التي تنتشر سريعا تغذي سنويا حركات إسلامية متعددة الانتماءات بأفواج جديدة. ولا يمكن التأمل بتطبيق للقانون الديمقراطي الحديث، الذي يمكنه وحده حل مشاكل الشرعية الداخلية والإقليمية لهيكليات الدولة في الشرق الأوسط بالإضافة إلى علاقاتها بالعالم الخارجي، إلا إذا طبقت الديمقراطيات الأوروبية والأمريكية نفسها القانون في شكل متماسك ومنهجي في علاقاتها مع هذه الدول. ولكن القوى الديمقراطية حسب الكاتب لا تستند إلى المفاهيم الحديثة لاحترام حقوق الإنسان أو إلى بنود القانون الدولي المنصوص عليها في الأمم المتحدة في علاقاتها مع العالم الثالث، إلا بطريقة انتقائية وظرفية ولا تستحضر هذه القوى حقوق الإنسان إلا بمقتضى مصالحها الضيقة من أجل ممارسة الضغط على هذا أو ذاك من الأنظمة الشرق اوسطية ممن تعتبر سياستها الإقليمية غير متماشية مع المصالح الغربية وفي المقابل لا تتم أبدا مضايقة تلك الأنظمة التي تحذو تقليديا حذو الغرب ، حتى لو انتهكت المبادئ الأساسية للديمقراطية. ونرى إلى أي مدى يتم تطبيق القانون الدولي بصورة غير عادلة، سواء تعلق الأمر بالنزاع العىبي- الإسرائيلي أو بالوضع العراقي واللبناني. وهكذا فإن المبادئ الديمقراطية التي طالما أملت بها شعوب الشرق الأوسط منذ مطلع القرن التاسع عشر، فقدت وفي شكل كبير مصداقيتها بفعل التلاعبات الاستعمارية ومن بعدها الاستخدام الانتقائي لهذه المبادئ من قبل الدول الديمقراطية نفسها في علاقاتها مع دول المنطقة. وستبقى هذه المعركة قائمة طالما استمر الغرب الديمقراطي في تغليب المصالح العليا لدوله، بدلا من التسويق الفاعل للقيم الديمقراطية في علاقتها مع دول الشرق الأوسط. ومن المحتمل في انتظار حدوث تغييرات رئيسة في هذا المجال أن تستمر ألاعيب القوة والمناقسة مع كل ما تجره معها من من ظواهر الطغيان والتخلف التي تميز الانحطاط الكبير الآخذ في الازدياد في المنطقة. وسيستمر وفق السيد قرم الدين في أن يكون حاجبا لشهية التسلط للدول ذات المطامع الإقليمية والتي تغرف حججا سهلة وانتقائية من التاريخ الغني لهذا الحيز الذي كان مهدا للحضارة. وفي حال استمرار فقدان الحداثة الديمقراطية في الشرق الأوسط، فإن أحدا لن يتمكن من التنبؤ بأي من القوى الإمبراطورية العريقة في تاريخ المنطقة يمكن أن تعود إلى الانبعاث وتحت أي شكل من الأشكال لإعادة المنطقة إلى سابق مجدها.