الفنون المعمارية في العصر العباسي الثاني
الاطار التاريخي :
لانجد فنا يميز العصر العباسي الثاني ، بل أن هذا التعبير له مغزاه السياسي فقط .
ونقصد بهذا العصر المرحلة الثانية من حياة الخلافة العباسية ، منذ أن بدأ الضعف يدب إلى سلطة الخلفاء ويتسلط عليهم القواد من الفرس والاتراك ، وتأخذ أراضي الدولة بالتجزئة والانقسام ، وتظهر الدويلات العديدة في الشرق والغرب ، وينتهي هذا العصر بسقوط بغداد والقضاء على الخلافة العباسية على يد المغول في عام ٦٥٦ / ١٢٥٨ .
ويرجع كتاب التاريخ السياسي بداية هذا الضعف إلى عهد المتوكل على الله سنة ٢٣٢ / ٨٤٦ . وبسبب الغموض الذي يشوب تاريخ الشام في هذا العهد فقد رأينا أن نقسمه إلى ثلاث فترات متمايزة :
الفترة الأولى : وتمتد بين منتصف القرن الثالث الهجري ، وحتى ظهور السلاجقة في أواخر القرن الخامس . وكان الوضع في الشام خلالها تسوده الفوضى والتجزئة والصراع على النفوذ بين مراكز القوى العديدة. و كانت الشام بصورة عامة تتبع الدول المستقلة التي قامت في مصر ، وهي على التوالي الدولة الطولونية (۱) والأخشيدية (۲) ثم الخلافة الفاطمية (١) . ومع ذلك فقد كانت تظهر من حين لآخر ، ولا سيما في الشمال وحلب ، دويلات مستقلة كالدولة الحمدانية ( من ٣٣٣ / ٩٤٤ إلى ۱۳۹۲ / ۱۰۰۱ ) والدولة المرداسية ) من ٤١٥ / ١٠٢٥ إلى ٤٧٣ / ۱۰۸۰ ) .
عاصرت الأولى الدولة الاخشيدية وعاصرت الثانية الخلافة الفاطمية . و كان الصراع شديداً على الشام بين حكام مصر من جهة وحكام بغداد من جهة ثانية . و كان يسهم في هذا الصراع، تارة القرامطة القادمون من الجزيرة العربية الذين ظهروا كقوة عربية ثائرة وتارة البيزنطيون الذين كانوا ينتهزون فرصة تجزؤ الدولة الاسلامية فيتوسعون على حساب الأراضي السورية في الشمال والساحل ، وتصل حملاتهم أحياناً إلى دمشق (۲) .
الفترة الثانية : وتمتد قرابة قرن يبدأ بظهور السلاجقة في الشام في عام ٤٦٨ / ۱۰۷٥ وينتهي بقيام الدولة الأيوبية في عام ٥٦٩ / ١١٧٤ .
والسلاجقة سلالة من الأتراك المسلمين المتبعين لمذهب السنة ، موطنهم الأصلي بلاد التركستان أو بلاد ( ماوراء النهر ) . وقد نجحوا في اقامة دولة في خراسان في عهد أول سلاطينهم ( طغرلبك ) سنة ٤٢٩ / ١٠٤٨ تعترف بسيادة الخلافة العباسية الاسمي ، ثم سيطروا على بغداد ، وفرضوا نفوذهم على الخلافة العباسية سنة ٤٤٨ / ١٠٥٦ . ومنح طغرلبك لقب سلطان من الخليفة العباسي. وفي عهد خلفه السلطان آلب ارسلان حدث توسع السلاجقة في الجزيرة والشام ، بغية القضاء على الدويلات المستقلة فيه وعلى النفوذ الفاطمي واعادة الشام إلى الخلافة العباسية ورافق ذلك هجرة الاتراك أو الغز وانسياحهم على شكل كتائب عسكرية في نواحي الشام ، شماله وجنوبه . وأدى ذلك إلى استيلاء أحد قوادهم المدعو « أتسز بن أوق » على دمشق وطرد الفاطميين منها و من قسم من فلسطين ، وأقامة دولة تابعة للسلاجقة سنة ٤٦٨ / ١٠٧٦ ثم انتزع الملك منه بعد أن قتله الأمير ( تتش » ابن السلطان ألب ارسلان فأقام دولة وراثية شملت منطقة حلب أيضاً . وقد تجزأت بعد وفاته بين أولاده . وانتقل الحكم في دمشق إلى أتابكه (۱) ظهير الدين طغتكين الذي أقام دولة تابعة أيضاً للسلاجقة واستمر الحكم في أسرته إلى عام ٥٤٩/ ١١٥٤ ، السنة التي أخذ فيها نور الدين محمود دمشق. وكان قد خلف أباه الاتابك عماد الدين زنكي في حكم حلب سنة ٥٤١ / ١١٤٥ . وكان هذا والياً للسلاجقة على الموصل، ومد سلطته إلى سائر الجزيرة والمنطقة الشمالية من سورية . وحرر الكثير من المعاقل والمدن من يد الفرنج (۲) وأصبح نور الدين بعد أخذ دمشق ملكاً على الجزيرة والشام خاضعاً للسيادة السلجوقية والخلافة العباسية معاً . وقد اتسع ملكه فشمل مصر ، حين أرسل جيشاً لانقاذها من خطر الفرنج ، يقوده أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، أنهى هذا الأخير الخلافة الفاطمية في مصر وحكمها باسم نور الدين وخطب للخليفة العباسي على المنابر .
الفترة الثالثة : وتبدأ باقامة الدولة الايوبية في مصر والشام على يد صلاح الدين يوسف بن أيوب . وكان صلاح الدين قائداً نور الدين ، اشترك مع عمه أسد الدين شيركوه في احتلال رأينا واصبح سلطاناً على مصر والشام بعد وفاة نور الدين سنة ٥٦٩ / ۱۱۷۳ . وضم اليهما الجزيرة واليمن. وكانت الدولة الايوبية مستقلة تماما الا أنها مرتبطة اسميا بالخلافة العباسية .
وتابع الايوبيون سياسة النضال ضد الصليبيين لتحرير ما احتلوه من بلاد الشام . واستمرت دولتهم في الشام حتى الغزو المغولي بقيادة هولاكو وسقوط دمشق بأيديهم سنة ٦٥٨ / ١٢٥٩ . وفي اثر ذلك دخل المماليك دمشق يحررونها من المغول بقيادة السلطان سيف الدين قطز . وكان المماليك ، وهم قواد الجيش من الارقاء المحررين عند الايوبيون ، قد أحدثوا انقلابا في سنة ٦٤٨ / ١٢٥٠ مصر للاستيلاء على السلطة وقضوا على الدولة الأيوبية .
هذه خلاصة الاوضاع السياسية السائدة في بلاد الشام خلال العهد العباسي الثاني الذي ميزنا فيه ثلاث فترات سياسية ، كان لها اثرها على الحياة الحضارية والفنية . وقد ظهرت خلالها فنون مزدهرة نسبت إلى الفاطميين ، والسلاجقة ، والأيوبيين. سنرى فيما يلي خصائص كل فن من هذه الفنون الثلاثة وما تخلف من آثارها المعمارية .
تعليق