الفصل الثالث
العصر العباسي
فنون العمارة في العصر العباسي الأول
١ _ الخصائص العامة
كان طبيعياً بعد انتصار العباسيين على الأمويين بمؤازرة العنصر الفارسي وانتقال مركز الدولة من الشام إلى العراق ، أن تظهر التأثيرات الفارسية والرافدية على الفنون وعلى العمارة العربية الاسلامية ، ظهرت في العادات والتقاليد وأنظمة الحكم . وبظهور هذه التأثيرات أخذ الفن العربي الاسلامي اتجاهات جديدة ، واختلفت مظاهره وعناصره عما كانت عليه في العهد الأموي .
ويبالغ بعض مؤرخي الفن والمستشرقين في تقدير مدى التأثيرات الفارسية ، إلى حد القول بأن الخلفاء العباسيين أصبحوا ورثة الأكاسرة ملوك ( كتيز يفون ) . والحقيقة أن العراق وبلاد الرافدين لهما تقاليد في العمارة ، يفرضها الاقليم، ومواد البناء التقليدية ، كما سبق أن ذكرنا .
وكان لهذين العاملين الأثر الأكبر في طبع العمائر العباسية بطابع يميزها عن العمائر الأموية .
إضافة لذلك ، فان الحضارة العربية وما رسخته فيها الثقافة الاسلامية كان لها الأثر الكبير في تطوير الفنون الرافدية والفارسية وفي خلق أسلوب فني جديد مطبوع بطابع الحضارة العربية عرف بالفن العباسي ، كانت له خصائص عامة نجدها في سائر نتاج الدولة الاسلامية في كل أقطارها ، في العراق وفارس ، وفي الشام ومصر وأفريقيا ، لاسيما في العهد العباسي الأول الذي يبدأ من منتصف القرن الثامن ويمتد إلى أواخر القرن العاشر ، الفترة التي كانت الدولة خلالها محافظة على وحدتها، ونلخص هذه الخصائص في النواحي التالية :
۱ - من حيث مواد البناء : كان يغلب على العمائر استعمال اللبن والآجر . الأول في الأسوار والجدران والثاني في العقود والقباب وكسوة الجدران الخارجية .
٢ - من حيث الهندسة والتخطيط والعناصر المعمارية : شاع في المباني استخدام الأواوين ذات العقود والسقوف المعقودة بالاقباء والقباب ، والأقواس المدببة ( المنكسرة ) في وسطها ، من النوع الذي اصطلح على تسميته بالقوس الفارسي. واستعمل المخطط المربع في المساجد ، والأروقة المزدوجة المحيطة بصحون المساجد . وظهرت المآذن المخروطية ذات الأدراج الحلزونية من الخارج . ودخل مظهر الحصون على الجوامع الكبيرة ، فزودت أسوارها بالابراج الدائرية ، ولكن دون أن يكون لهذه الأبراج أية قيمة دفاعية ، فهي فقط من أجل الدعم والمظهر الفني .
٣ - من حيث العناصر الزخرفية : كانت النقوش الحصية هي العنصر السائد في زخرفة المباني. ومواضيعها نباتية وهندسية وحيوانية ويدخل في عداد الزخارف الهندسية الأسلوب الذي يعتمد على تغيير أوضاع ألواح الآجر بحيث تحدث أشكالا هندسية زخرفية ، وهذه سمة من سمات الفن الساساني . واستخدم الخزف الملون كذلك كعنصر زخرفي في كسوة الجدران ، نجد نموذجاً له في محراب جامع القيروان . وقد جلبت ألواحه من العراق في عهد ابن الأغلب ( القرن الثالث الهجري ) . وكان التصوير من العناصر الزخرفية الهامة عثر على نماذج لصور الأشخاص والحيوانات في قصر الجوسق الخاقاني في سامراء ( شيده المعتصم سنة ٨٣٦ للميلاد ) . وكانت السقوف الخشبية تزين بالنقوش والأصباغ الملونة .
٢ - الاثار المعمارية الهامة
تم تأسيس عدد من المدن في هذا العصر كبغداد التي أنشأها أبو جعفر المنصور سنة ١٤٥ للهجرة ( ٧٦٢ م ) على الضفة الغربية لنهر الدجلة ، ثم أضيفت اليها مدينة الرصافة على الضفة الشرقية ، ولكن لم يبق من بغداد ( العباسية ( مدينة السلام ) أي أثر (۱) .
كذلك شيد المنصور مدينة الرافقة (۲) (الرقة السورية التي سنتحدث عنها تفصيلا . وشيد المعتصم مدينة سامراء سنة ٢٢٨ / ٨٣٥ على الضفة الغربية لنهر الدجلة ، واشتهر منها جامعها الكبير ومئذنته ( الملوية ) ، ومسجد أبي دلف وقصور الخلفاء ( قصر الجوسق ، وقصر بلكوارة ، وقصر العاشق ) . وشيد الرشيد إلى الغرب من الرقة حصن هرقلة – كما يقول ياقوت الحموي في معجمه (۳) .
و من الآثار العباسية الهامة حصن الاخيضر وهو أشبه بالمدينة الحصينة يقع في طريق القوافل جنوبي غربي كربلاء ، شيد كما هو مرجح في منتصف القرن الثاني الهجري . و له شأن هام في دراسة تطور فن التحصين العربي .
ومن الآثار العباسية في مصر جامع ابن طولون الذي شيد سنة ٢٦٥ / ۹۳۱ وفق فن العمارة العباسية ، مستمداً الكثير من هندسته وخصائصه من جامع سامراء ولاسيما مئذنته الملوية .
ومازال هذا الجامع إلى الآن بحالة جيدة محافظاً على وضعه الأصيل .
آثار الرحبة :
تحدثنا المصادر التاريخية عن مدينة أحدثت في عهد المأمون هي رحبة مالك بن طوق التي أنشئت على ضفة الفرات اليمنى وكان لها قلعة نجد اليوم منطقة خرائب غير ظاهرة المعالم حول قلعة الرحبة القريبة من بلدة الميادين الحديثة الواقعة على ضفة الفرات اليمنى . وتبعد القلعة عن الميادين قرابة خمسة كيلو مترات وهي مبنية بالحجارة والآجر ونعتقد بأن هذه الخرائب هي مكان الرحبة التي جددت في عهد السلطان نور الدين محمود بن زنكي ( القرن السادس الهجري ) . أما رحبة مالك فقد تهدمت ، كما يقول أبو الفداء. وأقيمت في عصرنا فوق خرائبها مدينة الميادين الحديثة .
آثار الرقة العباسية :
تعتبر الرافقة العمل العمراني العباسي الوحيد في سورية الذي بقيت منه معالم واضحة . أسسها أبو جعفر المنصور سنة ١٥٥ / ٧٧١ ، على الضفة اليسرى لنهر الفرات إلى جوار الرقة القديمة . ويقول الطبري بنيت على شاكلة بغداد . لكنها في الواقع تختلف عنها ، فهي على شكل حدوة الفرس ، طرفها الجنوبي مستقيم . اشتهرت الرافقة بقصورها التي شيدها الرشيد والمعتصم وغيرهما من الخلفاء ، ولم يبق لهذه القصور من أثر ، وقد كشفت أعمال التنقيب التي أجرتها السلطات الأثرية باشراف الاستاذ نسيب صليبي (۱) في بعض الخرائب عدداً من هذا القصور خارج الأسوار . يمكن ! لتعرف على مخططاتها . وعثر بها على قطع كانت تزين الجدران والسقوف ، منها نقوش جصية جميلة ، ورسوم جدارية ملونة ، وأخشاب منقوشة ومدهونة بالألوان ، وبلاط من الزجاج يعتبر نادر الاستعمال في كل العصور . وكل هذه الأثار محفوظة في قاعة الرقة في المتحف الوطني بدمشق .
أما المدينة فأهم ما بقي منها اليوم أثار سورها ، وبابها المشهور . باب بغداد _ وجامعها الكبير .
كان للمدينة سوران السور الداخلي وهو أكثر ارتفاعاً وسماكة ما يقدر سمكه : ( ٥,٨٥ متراً ) وهذا يتفق مع ما وصفه به المقدسي في كتابه « أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ، قال : ( يسير على متنه فارسان ) وحول السور خندق يبلغ عرضه عند السطح حوالي ١٦ متراً .
ذكر المقدسي أنه كان للمدينة في عهده (القرن الرابع الهجري) بابان، نعتقد بأن أحدهما هو باب بغداد الذي مايزال قائماً في الزاوية الجنوبية الشرقية من سور المدينة. وكان الباب الآخر يقابله في الزاوية الشمالية الغربية ويدعى باب الرها ، ولكن لا أثر له اليوم .
يعتبر باب بغداد المبني بالآجر ( الصورة رقم ١٩ ) آبدة تاريخية هامة بل من أهم الآثار العباسية المتبقية في سورية . وهو مفتوح في برج يتصل بالسور ، وفتحة الباب تقع في الجدار الشرقي للبرج تبلغ سعتها ( ۱۱,۳۰ × ۳,۱۹) متراً. يعلو الباب قنطرة لها قوس من النوع الذي سميناه بالفارسي لانه ظهر في بلاد فارس أولا ثم انتقل إلى بلاد الرافدين والشام . له رأس في وسطه ، ولذا فقد سماه الأثريون القوس المكسور ، وفيه جزء شبه مستقيم ويرسم من عدة مراكز ، لامن مركز واحد كما هو الحال بالنسبة للقوس النصف دائري . ولذا فقد فضلنا أن نطلق على مثل هذه الأقواس ، الأقواس المركبة .
و كان على جانبي الباب محرابان زخرفيان . وفوق الباب سلسلة من المحاريب تزين واجهة البرج بقي منها ثمانية من أصل عشرة . وهذا الموضوع الزخرفي كان شائعاً كما رأينا في القصور الأموية .
وأقواس هذه المحاريب ثلاثية الفصوص تعتمد على سويريات جدارية ( ملصقة بالجدار ) .
يرجح أن يكون الباب ، في حالته الحاضرة ، مجدداً في عهد الرشيد ( في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري ) .
أما المسجد فيقع في قلب المدينة ، منزاحاً قليلا نحو الشمال ، له مخطط مستطيل أطواله ( ۱۰۸ × ۹۲ ) متراً . وكان له سور من اللبن سماكته ( ۱,۷۰ ) متراً وهو مدعم بالابراج النصف دائرية في الزوايا والأضلاع . وأن ما يشاهد اليوم من آثاره كالمئذنة وواجهة الحرم ذات الاحدى عشرة قنطرة وكلها مشيدة بالآجر ، فهي من عهد نور الدين محمود بن زنكي الذي قام بتجديد الجامع العباسي سنة ٥٦١ / ١١٦٥ .
ويمكن التعرف على مخطط الحرم من آثار الأعمدة التي تتألف صفين ، مما يدل على أنه كان يضم ثلاثة أروقة موازية للقبلة . ولا بد أن هذه الأروقة كانت مسقوفة بجملونات ( سقوف سنامية ) ، على شاكلة جامع دمشق الأموي. أما الأروقة المحيطة بالصحن فكانت مزدوجة قائمة على صفين من الأعمدة .
يلاحظ العالم ( كريزويل ) في هندسة الجامع ، بأنه ينتسب إلى فن معماري يعتبر مزيجاً بين العمارة الرافدية والعمارة السورية (الأموية ).. وهذا يتفق مع موقع الرقة على أطراف الجزيرة ، بين الشام والعراق .
تعليق