هذا وسوف نعود إلى موضوع تأريخ المباني خلال دراسة الفن المعماري المتمثل في القصرين ، الصغير والكبير .
أ - القصر الصغير :
ما يزال هذا البناء يحتفظ بالقسم الأكبر من أسواره ، حتى ارتفاع . وهو مبني بالحجر الكلسي الجيد النحت ويلاحظ بأن حجارته أصغر من حجارة المباني البيزنطية ، و يبلغ ارتفاع مداميكه ۰,۳۳ متراً فقط . وكان يعلو الاسوار ممر دفاعي عرضه ١,٦٠ متراً خلف ستارة من الآجر سمكها ٠,٥٠ متراً تهدم أكثرها وبقيت الاجزاء المجاورة للباب الرئيسي .
أما مخطط القصر فهو قريب من مربع طول ضلعه حوالي / ٧٠ / متراً. تتوزع الأبراج في زواياه وفي أضلاعه برجان في كل ضلع وله باب رئيسي يتوسط الواجهة الغربية ، يقع بين برجين وتقدر فتحته بثلاثة أمتار ، يؤدي الباب إلى دهليز مسقوف . وفي الداخل باحة سماوية يحيط بهارواق وحولها الغرف وهي مسقوفة بعقود من الآجر وأكثرها متهدم ، وقد عثر في الباحة والأروقة على بلاط من الحجر . لكن الزخارف المألوفة كالفريسك والفسيفساء غير موجودة في هذا القصر فهي تشبه بوابة قصر الحير الغربي التي تقدم وصفها ، ولكنها تختلف عنها في التفاصيل والزخارف .
فالباب مستطيل ينتهي ! بساكف الحجر يعلوه قوس عائق نصف من سد الفراغ بينهما بحجارة صقيلة ويلاحظ بأن ساكف دائري الباب وحجارة القوس مزخرفة بخطوط محفورة اصطلح على تسميتها بالقولبات (۱) ، وتؤلف شريطاً يطوق البرحين أيضاً في مستوى ساكف الباب .
وعلى جانبي الباب محرابان صغيران تحدهما سويريتان وفي طاستهما نحيتة على شكل الصدفة ، وليس لهذين المحرابين وظيفة ما ، فهما للتجميل والزخرفة فقط (الصورة رقم ۱۸) .
وتوجد فوق الباب شرفة دفاعية بارزة روشن (۲) مؤلفة من سقاطتين (۳) لصب الزيوت المغلية. ويعتبر هذا الروشن أقدم نموذج من نوعه في العمارة العسكرية العربية .
ونشاهد في أعلى الواجهة جداراً من الآجر ( ستارة ) نقوش جصية تتألف من مجموعة محاريب زخرفية تعتمد على سويريات جدارية مزدوجة ، تظهر فيها عروق نباتية ، كما يتخلل مداميك الحجر في نهاية الجدار شريط من الآجر يتألف من مربعات بارزة تتجاور رؤوسها فتؤلف عنصراً زخرفياً يعكس تأثيرات الفن الساساني .
وأبراج السور مملوءة، أي خالية من الغرف ، سوى في أعلاها ، فانها تحتوي على غرفة صغيرة للمراقبة مسقوفة بقبة من الآجر . وتتصل هذه الغرف بالممر الدفاعي الذي مر ذكره .
ب ) القصر الكبير :
لابد أن القصر الكبير هو المدينة المقصودة في النص التاريخي المار ذكره ، المنقوش على حجر المسجد . لاسيما وأن مخططه وتنظيمه الداخلي لا يعطيه صفة القصر ، بل يجعله أشبه بمدينة صغيرة . وهي على شكل مربع ، طول ضلعه / ١٦٠ / متراً .
وفي أسواره المزودة بالابراج أربعة أبواب رئيسية متقابلة موزعة على جهات السور الاربع ، وبعض هذه الابواب من بالرواشن ، ويمتد من كل باب شارع . فتتقاطع الشوارع الاربعة وسط المدينة .
وعثر في الداخل على مجموعة من الدور ، أو القصور الصغيرة ، وعلى أثار معصرة ومسجد يحتل الزاوية الجنوبية الشرقية للمدينة . يتألف المسجد من حرم فيه ثلاثة أروقة موازية للقبالة يقطعها رواق عمودي على المحراب ( مجاز قاطع ) . وصحن يحيط به أروقة ، وهي كأروقة الحرم مؤلفة من أقواس حجرية قائمة على عضائد .
ونلاحظ بأن تخطيط هذا المسجد شبيه بجامع الوليد في دمشق . أما المئذنة فهي مربعة الشكل ولكنها منفردة إذ تقع بين القصرين .
لقد قدر الاستاذ غرابار أن تكون المدينة ( القصر الكبير ) أحدث عهداً من القصر الصغير لما يلاحظ من اختلاف بينهما من حيث تفاصيل العناصر المعمارية وأسلوب البناء . فرصف الحجارة في أسوار المدينة منفذ بعناية أقل والمداميك أكثر ارتفاعاً ( ٠,٧٠) متراً ، والواجهات خالية من الحليات المعمارية القولبات التي شاهدناها في واجهة القصر كما أن أقواس الأبواب ( القوس العاتق ) ليس من النوع النـ بل هو قوس مدبب أو فارسي من النوع الذي شاع في بداية العهد العباسي .
كما فسر فقر القصر الصغير في الداخل وفقدان الزخارف كالفسيفساء والفريسك التي تشاهد عادة في القصور الأموية الأخرى ، بأن القصر لم يكتمل بناؤه في العهد الأموي ، وأكمل فيما بعد أي في العهد العباسي ، ویرى بأنه لم يكن قصراً بل خاناً .
نستبعد أن يكون القصر الصغير قد أكمل في العهد العباسي . لأن مثل هذا العمل العمراني لا يمكن أن يحدث إلا بوجود رغبة من صاحب سلطان ، وهذا لا يمكن أن يتأتى للمنطقة في العهد العباسي. فلقد عرفنا بأن و الزيتونة ، ظلت آهلة بالأمويين ، كما أن العباسيين وجهوا جهدهم إلى بناء الرافقة .
والمرجح لدينا أن يكون القصر الصغير قد بنى بكامله في العهد الأموي قبيل تولي هشام الخلافة ، وهذا ما يفسر فقره بالزخارف وحينما وجه هشام عنايته لانشاء قصور أخرى كالرصافة وقصر الحير الغربي وخربة المفجر ، تحولت الزيتونة إلى مقر ثانوي .
أما المدينة فقد حدث تأسيسها في أيام خلافة هشام ويشهد على ذلك النص التاريخي المار ذكره لتكون محطة للخليفة وحاشيته ولاسكان المزراعين والحامية ، ولكن بناء ها اكتمل في أواخر العهد الأموي . وإن الفترة الفاصلة بين بناء القصر والمدينة كافية لاحداث التطور الطفيف في التفاصيل المعمارية الملحوظة بين عمارة القصر والمدينة . هذا بالاضافة إلى ترمیمات جرت عليه في العهد العباسي .
ج ) المنشآت الأخرى : عثر خلال أعمال التنقيب الأخيرة التي أجرتها البعثة الاميركية برئاسة ( غرابار ) على حمام يقع خارج القصرين من جهة الشمال . وتدل التحريات على أنه حمام هام وواسع . بني قسمه السفلي بالحجر وقسمه العلوي بالآجر ، وكسي في الداخل بالرخام وكانت التدفئة تتم عن طريق البخار الذي يمر في فراغات تحت أرض الحمام ، وفق التقنية الشائعة في الحمامات الرومانية .
وهناك في الجهة الجنوبية الشرقية من موقع القصر بقايا أسوار مزارع وبساتين واسعة ، متقنة البناء شيدت بالحجر المنحوت والآجر ، مزودة بدعائم جدارية نصف دائرية تشبه الأبراج ، ويتخلل الأسوار قناطر المرور مياه الري .
وكانت المياه تصل إلى القصر و الحمام من نبع «الكوم الكائن إلى الشمال الغربي على مسافة ثلاثين كيلومتراً ، بواسطة قناة مبنية بالحجر المنحوت ، عثر على أقسام منها ، كما عثر في القصر الصغير على مستودعات للمياه تحت الأرض مبنية بالآجر .
تعليق