القرصان
القرصنة piracy، هي أعمال سطو مسلح وقطع طرق في البحار والأجواء الدولية. تعرَّف القرصنة في القانون الدولي على أنها جريمة سلب ونهب crime of robbery بالعنف في أعالي البحار أو في مجالها الجوي لغايات ذاتية لا سياسية، يرتكبها ربان أو طاقم سفينة أو طائرة، أو مجموعة من ركابها خارج نطاق السلطة الشرعية jurisdiction لأي دولة، ومن دون تفويض من أي سلطة سيادية. ويسمى الضالعون في أعمال القرصنة «القراصنة» pirates.
تعد القرصنة جرماًً بحق الأمم والإنسانية، وخرقاً للقانون الدولي، مما يسمح لأية سفينة مهما كان انتماؤها أو علم الدولة الذي ترفعه بالاستيلاء على سفينة القراصنة وسوقها إلى أي ميناء في أي بلد لمحاكمة أفراد طاقمها، بغض النظر عن جنسيتهم، ومعاقبتهم عند ثبوت الأدلة، ومصادرة سفينتهم.
وتجدر الإشارة إلى أن الأعمال الحربية غير المشروعة، ونشاط المتمردين والثوريين وتجار العبيد، عدت من باب القرصنة في بعض القوانين الوطنية أو في نصوص معاهدات خاصة على عكس ما تراه بلدان أخرى.
لمحة تاريخية
واكبت أعمال القرصنة جميع مراحل التاريخ. وكانت تقع في حوض البحر المتوسط في العصور القديمة، وارتبط اسمها مع التجارة البحرية. ويمكن القول إن الفينيقيين وشعوب البحر مارسوا القرصنة، وكذلك فعل اليونان والرومان والقرطاجيون. وتابعهم في العصور الوسطى غزاة الفايكنغ Vikings (القرن 8ـ10م) والنورمان Normans (القرن10م)، الذين كانوا ينطلقون من الأراضي الإسكندنافية، فينشرون الرعب على سواحل أوربا الشمالية والغربية المطلة على بحار البلطيق والشمال والمانش والمحيط الأطلسي. ومورست القرصنة إثر الحروب الدينيّة الأوربية (1562ـ1568م) بعد أن هُجرت سفن القتال وسُرحت طواقمها، فتحول أفرادها إلى قراصنة كسباً للعيش. ويذكر في هذا المجال القراصنة الجوابون Corsairs الذين كانوا ينطلقون من الدول الأوربية ومن سواحل الشمال الإفريقي Barbary Coast في القرن 17م، ويجوبون البحار، حتى إن القراصنة الجزائريين ظهروا في بحر المانش وكان لهم جولات مع سكان سواحله. وقد اتخذ القراصنة علماً يميز سفنهم، وجعلوا الجمجمة وعظمتين متصالبتين شعاراً لهم (الشكل 1). ويُعتقد أن القرصان الفرنسي إيمانويل وين Emmanuel Wynne هو أول من رفع هذا العلم نحو عام 1700 في البحر الكاريبي. ولاشك في أن القصد من علم القراصنة هو زرع الرعب في قلوب بحارة السفن الأخرى، وإنذارهم بالمصير الذي يتهددهم في حال المقاومة.
ليس القراصنة سوى قناصة غنائم freebooters، غير أن ميدان عملهم هو البحر، وجرائمهم يُعاقَب عليها بموجب القانون الدولي. علماً أن اتحاد مدن هانزا التجارية Hanseatic League، والذي ربط عدداً من المدن في شمالي ألمانيا والبلدان المجاورة لها في القرن الثالث عشر لترويج التجارة، كان قد استخدم سفناً قتالية لحماية سفن هانزا التجارية في مواجهة قراصنة الشمال. وقد انقرضت القرصنة مع تطور السفن السريعة المجهزة بمحركات بخارية، وتعاظم قوة السلاح البحري للدول الكبرى.
الجهاد في البحر وقرصنة التعبئة
تتنوع القرصنة زماناً ومكاناً وقانوناً، فقد كان المجاهدون المسلمون في البحرMuslim Rovers يجوبون البحر المتوسط لاصطياد السفن الأوربية. وازداد نشاطهم في عهد السلطان العثماني سليمان القانوني 1520ـ1566م، على يد أمراء البحر والملاحين وفي مقدمتهم خير الدين بربروس Barbarossa والي الجزائر الذي كان يقود أسطولاً عثمانياً من قواعده في تونس والجزائر لقطع الطرق البحرية على السفن الأوربية. وصار فيما بعد قائداً عاماً للأسطول العثماني.
استخدمت بعض المعاهدات والتشريعات الأوربية مصطلحات مختلفة لوصف نشاط السفن التي تعمل في أعالي البحار بتفويض من إحدى الحكومات؛ لشل مواصلات العدو البحرية والقضاء على إمكاناته. وهو ما يعرف بالقرصنة الفردية الخاصة privateering التي تقوم على تسخير سفن القراصنة الخاصة في المجهود الحربي للدولة باستئجارها ثم وضعها تحت حمايتها وتكليف ربابينها التعرض لسفن العدو، ولا سيما التجارية منها وأسرها أو تدميرها أو إعطابها والفوز بالغنائم، مما كان له أثر بالغ في قطع الإمدادات عن الطرف الآخر.
وقد لجأت الدول الأوربية إلى القرصنة الفردية الخاصة في صراعاتها بعضها مع بعض منذ القرن السادس عشر، غير أنها تحولت تدريجياً إلى قرصنة فعلية وللمصلحة الخاصة حتى صدور إعلان باريس Declaration of Paris لعام 1856م، والذي أبطل القرصنة الفردية الخاصة.
المجالات البحرية للقرصان
تفشت القرصنة، حين اختلت موازين الثروة، وتقدمت الملاحة وتسارعت الكشوف الجغرافية. فانتشرت في جميع بحار العالم مجموعات من الأفّاقين الخارجين على المجتمع بهدف الكسب غير المشروع، وكان ذلك ضرباً من الصراع بين الحق والباطل.
وكان البحر المتوسط المرتع الأول لنشاط القرصان، كما شهد المحيط الهندي وبحر الصين نشاطاً مماثلاً، وكان من ضحاياه سفن المسلمين التجارية التي كانت تجوب البحار في عصور الازدهار. ومع بداية العصور الحديثة، وتزايد نشاط البحريات الأوربية واستعمار العالم الجديد واتساع الحركة الاستعمارية، من جانب إسبانيا والبرتغال أولاً، ثم إنكلترا وفرنسا وهولندا وغيرهما لاحقاً، امتدت الخطوط الملاحية على المحيطات والبحار جميعاً، مما فسح المجال لاتساع نشاط القرصنة واعتراض السفن الحاملة للذهب والفضة والسلع الثمينة والتوابل وغيرها. وكانت المسالك البحرية المتجهة نحو أمريكا وإفريقيا ثم الهند أهدافاً مغرية للقراصنة خاصة الأوربيين منهم. كما كان حوض بحر الصين واليابان مسرحاً لمثل هذا النشاط.
دور القرصنة في التوسع الاستعماري وأشهر القراصنة
شكل القراصنة عبر التاريخ معيناً لا ينضب من القوى البشرية المؤهلة للعمل في البحر، لتمتعهم بالمهارة واللياقة البدنية والشجاعة لقاء إغراءات مختلفة. وقد استفاد ربابين البحر الذين عملوا تحت أعلام دول مختلفة من هذا المعين لاستكمال طواقمهم، على نحو ما فعل كريستوفر كولومبُس (1451ـ1506م) Christopher Columbus وأمِريكو فيسبوتشي (1454ـ1512م) Amerigo Vespucci، وفيرناند دي ماجلان (1480ـ1521م) Fernand de Magellan.
وقد استغلت الدول الأوربية بعض ربابين القراصنة في صراعها على اقتسام العالم الجديد في أمريكا وأوقيانوسيا والمحيطين الهادي والهندي وسعيها إلى السيطرة على الهند. وتطلبت الحروب الدينية وحركة الإصلاح الديني تمويلاً كبيراً، فسعت إسبانيا وخصوصاً في عهد فيليب الثاني (1527ـ1598م) Philip II وإيزابيلا Isabelle إلى احتكار تجارة العبيد من إفريقيا إلى أمريكا، وفرضت حصاراً بحرياً على سفن البلدان الأخرى، لتحمي سفنها التي كانت تحمل المعادن الثمينة والسلع النفيسة من أمريكا ولاسيما حوض البحر الكاريبي، إلى إسبانيا، ولكن بريطانيا في عهد الملكة إليزابيت الأولى (1558ـ1603م) وقفت لها بالمرصاد، وصادف أن تعرضت سفن تاجر العبيد القرصان الإنكليزي جون هوكينز John Hawkins إلى عاصفة بحرية في عام 1568 قبالة ساحل إفريقيا، فقرر تحويل نشاطه إلى البحر الكاريبي للتعرض للسفن الإسبانية بمباركة من الملكة إليزابيت. إلا أن الإسبان باغتوه وقتلوه، ونجا مساعده فرنسيس دريك Francis Drake الذي أعلم الملكة بما حصل، فكلفته متابعة المهمة. تحالف دريك مع السكان الأصليين، الذين وضعوا بتصرفه مراكبهم الصغيرة السريعة، وساعدوه في الوصول إلى المحيط الهادي عبر أدغال باناما الموحلة، لاقتناص السفن الإسبانية التي كانت تنقل الفضة من البيرو إلى الساحل الغربي لباناما. ونشطت أعمال القرصنة الإنكليزية على نطاق واسع، وساهم في ذلك القراصنة المعروفون بالبوكانيرز Buccaneers (نسبة إلى قديد اللحم والسمك المجفف)، الذين كانوا ينطلقون من سواحل جزر البحر الكاريبي.
قدم القرصان فرنسيس دريك أعمالاً جليلة لبريطانيا بتسييسه القرصنة وسيره على مسار ماجلان في الدوران حول جنوب القارة الأمريكية، لتحقيق الحلم الإنكليزي في السيطرة على الهند، وكان نشاطه مقدمة لظهور شركة الهند الشرقية. وكانت بعض مجوهرات التاج البريطاني من جملة ما قدمه هذا القرصان للملكة إليزابيت، التي منحته رتبة فارس ولقب النبالة Sir وقصراً. وقد لقي حتفه في إحدى غزواته قريباً من سواحل باناما.
هناك قراصنة آخرون قدموا خدمات لدولهم من أمثال نوت Nutt الذي ساعد على إعادة إنشاء البحرية الإنكليزية إبان عهد جيمس الأول (1566ـ1625م) James I، وكذلك القرصان الإنكليزي وليم دامبير (1652ـ1715م) Wiliam Dampier.
وتجدر الإشارة إلى أن طريق السفن الإسبانية الضخمة، كانت معروفة لقراصنة البوكانيرز، إذ كانت تتجه جنوباً مع الريح في توقيت معين من السنة، مسايرة سواحل أوربا وإفريقيا الغربية، ثم تنعطف غرباً بموازة مدار السرطان، بالاستفادة من التيار الاستوائي الشمالي، حتى جزر الأنتيل Antilles وحوض البحر الكاريبي. وكانت تعود مستفيدة من تيار الخليج Gulf Stream الدافئ، الذي يتجه شمالاً على طول سواحل أمريكا الشمالية، ثم يتجه شرقاً نحو أوربا. فكان البوكانيرز يتعرضون لها على خطوط الملاحة هذه في أوقات معينة من السنة. ثم يلجؤون إلى قواعدهم في حوض البحر الكاريبي.
القرصنة في النصف الثاني من القرن العشرين
وُصفت بعض أعمال الاختطاف hijacking التي تحمل طابع النضال السياسي في النصف الثاني من القرن العشرين بأنها قرصنة بموجب القانون الدولي، في معرض الإشارة إلى قيام منظمات نضالية ومنها فلسطينية باختطاف عدد من الطائرات أو السفن وأخذ طواقمها وركابها رهينة لحين استجابة سلطات معينة لمطالبهم. كما قامت إسرائيل وغيرها باعتراض طائرات مدنية سياحية وإجبارها على ترك خط سيرها والهبوط في مطاراتها لأغراض سياسية أيضاً.
وقد عمدت بعض الدول أخيراً إلى تزويد طائراتها ولا سيما المقاتلة بأجهزة تُظهر الرمز الدولي للقرصنة (طلباً للنجدة)، على شاشات راداراتها. ويذكر في هذا المجال قيام طائرة مقاتلة كندية في حزيران 2005م باعتراض طائرة ركاب «إيرباص» أوربية على خط لندن ـ نيويورك وإجبارها على الهبوط في كندا، لاعتقادها بوجود قنبلة على متن تلك الطائرة، ومجموعة من «القراصنة» الخاطفين، وذلك بعد أن ظهر الرمز الدولي المذكور على شاشة رادارالمقاتلة خطأ.
أما في البحر فيذكر على سبيل المثال، قيام جماعة من جبهة التحرير الفلسطينية (جناح أبي العباس) في تشرين الأول 1986م باختطاف باخرة الركاب الإيطالية أكيلي لاوروAchille Lauro في شرقي البحر المتوسط، وهو ما عد قرصنة في حينه.
القرصنة الأدبية والعلمية
ظهر في القرن العشرين نوع أخر من القرصنة يتمثل بانتحال أعمال أدبية علمية وفنية، أو ترجمتها من دون إذن مسبق أو إعادة نشرها كلاً أو جزءاً، أو الاستفادة من صورها ومخططاتها. وكذلك ما يتعلق باقتباس اختراع الآخرين وأفكارهم التقانية والتجسس عليهم، من دون ترخيص من أصحاب العلاقة.
وقد ساعد التطور العاصف للأتمتة وإدخال الإلكترونيات واستعمال شبكات الإنترنت إلى جانب انتشار الكتب والصحف والمجلات على ازدياد هذا النوع من القرصنة. وتتوسع دائرة القرصنة هذه لتصل إلى حد قيام بعض الدول بالقرصنة البينية للحصول على أفكار حول أسلحة ومعدات ذات قيمة استراتيجية.
وقد عمد الكثير من المنظمات الدولية والدول إلى سن قوانين ناظمة لحقوق النشر والتأليف والاختراع للحد من هذه الظاهرة وحماية للمُلكية.
هاني صوفي
القرصنة piracy، هي أعمال سطو مسلح وقطع طرق في البحار والأجواء الدولية. تعرَّف القرصنة في القانون الدولي على أنها جريمة سلب ونهب crime of robbery بالعنف في أعالي البحار أو في مجالها الجوي لغايات ذاتية لا سياسية، يرتكبها ربان أو طاقم سفينة أو طائرة، أو مجموعة من ركابها خارج نطاق السلطة الشرعية jurisdiction لأي دولة، ومن دون تفويض من أي سلطة سيادية. ويسمى الضالعون في أعمال القرصنة «القراصنة» pirates.
تعد القرصنة جرماًً بحق الأمم والإنسانية، وخرقاً للقانون الدولي، مما يسمح لأية سفينة مهما كان انتماؤها أو علم الدولة الذي ترفعه بالاستيلاء على سفينة القراصنة وسوقها إلى أي ميناء في أي بلد لمحاكمة أفراد طاقمها، بغض النظر عن جنسيتهم، ومعاقبتهم عند ثبوت الأدلة، ومصادرة سفينتهم.
وتجدر الإشارة إلى أن الأعمال الحربية غير المشروعة، ونشاط المتمردين والثوريين وتجار العبيد، عدت من باب القرصنة في بعض القوانين الوطنية أو في نصوص معاهدات خاصة على عكس ما تراه بلدان أخرى.
لمحة تاريخية
واكبت أعمال القرصنة جميع مراحل التاريخ. وكانت تقع في حوض البحر المتوسط في العصور القديمة، وارتبط اسمها مع التجارة البحرية. ويمكن القول إن الفينيقيين وشعوب البحر مارسوا القرصنة، وكذلك فعل اليونان والرومان والقرطاجيون. وتابعهم في العصور الوسطى غزاة الفايكنغ Vikings (القرن 8ـ10م) والنورمان Normans (القرن10م)، الذين كانوا ينطلقون من الأراضي الإسكندنافية، فينشرون الرعب على سواحل أوربا الشمالية والغربية المطلة على بحار البلطيق والشمال والمانش والمحيط الأطلسي. ومورست القرصنة إثر الحروب الدينيّة الأوربية (1562ـ1568م) بعد أن هُجرت سفن القتال وسُرحت طواقمها، فتحول أفرادها إلى قراصنة كسباً للعيش. ويذكر في هذا المجال القراصنة الجوابون Corsairs الذين كانوا ينطلقون من الدول الأوربية ومن سواحل الشمال الإفريقي Barbary Coast في القرن 17م، ويجوبون البحار، حتى إن القراصنة الجزائريين ظهروا في بحر المانش وكان لهم جولات مع سكان سواحله. وقد اتخذ القراصنة علماً يميز سفنهم، وجعلوا الجمجمة وعظمتين متصالبتين شعاراً لهم (الشكل 1). ويُعتقد أن القرصان الفرنسي إيمانويل وين Emmanuel Wynne هو أول من رفع هذا العلم نحو عام 1700 في البحر الكاريبي. ولاشك في أن القصد من علم القراصنة هو زرع الرعب في قلوب بحارة السفن الأخرى، وإنذارهم بالمصير الذي يتهددهم في حال المقاومة.
الشكل (1) العلم التقليدي للقراصة الجوابين الذين يعملون لحسابهم الشخصي |
الجهاد في البحر وقرصنة التعبئة
تتنوع القرصنة زماناً ومكاناً وقانوناً، فقد كان المجاهدون المسلمون في البحرMuslim Rovers يجوبون البحر المتوسط لاصطياد السفن الأوربية. وازداد نشاطهم في عهد السلطان العثماني سليمان القانوني 1520ـ1566م، على يد أمراء البحر والملاحين وفي مقدمتهم خير الدين بربروس Barbarossa والي الجزائر الذي كان يقود أسطولاً عثمانياً من قواعده في تونس والجزائر لقطع الطرق البحرية على السفن الأوربية. وصار فيما بعد قائداً عاماً للأسطول العثماني.
استخدمت بعض المعاهدات والتشريعات الأوربية مصطلحات مختلفة لوصف نشاط السفن التي تعمل في أعالي البحار بتفويض من إحدى الحكومات؛ لشل مواصلات العدو البحرية والقضاء على إمكاناته. وهو ما يعرف بالقرصنة الفردية الخاصة privateering التي تقوم على تسخير سفن القراصنة الخاصة في المجهود الحربي للدولة باستئجارها ثم وضعها تحت حمايتها وتكليف ربابينها التعرض لسفن العدو، ولا سيما التجارية منها وأسرها أو تدميرها أو إعطابها والفوز بالغنائم، مما كان له أثر بالغ في قطع الإمدادات عن الطرف الآخر.
وقد لجأت الدول الأوربية إلى القرصنة الفردية الخاصة في صراعاتها بعضها مع بعض منذ القرن السادس عشر، غير أنها تحولت تدريجياً إلى قرصنة فعلية وللمصلحة الخاصة حتى صدور إعلان باريس Declaration of Paris لعام 1856م، والذي أبطل القرصنة الفردية الخاصة.
المجالات البحرية للقرصان
تفشت القرصنة، حين اختلت موازين الثروة، وتقدمت الملاحة وتسارعت الكشوف الجغرافية. فانتشرت في جميع بحار العالم مجموعات من الأفّاقين الخارجين على المجتمع بهدف الكسب غير المشروع، وكان ذلك ضرباً من الصراع بين الحق والباطل.
وكان البحر المتوسط المرتع الأول لنشاط القرصان، كما شهد المحيط الهندي وبحر الصين نشاطاً مماثلاً، وكان من ضحاياه سفن المسلمين التجارية التي كانت تجوب البحار في عصور الازدهار. ومع بداية العصور الحديثة، وتزايد نشاط البحريات الأوربية واستعمار العالم الجديد واتساع الحركة الاستعمارية، من جانب إسبانيا والبرتغال أولاً، ثم إنكلترا وفرنسا وهولندا وغيرهما لاحقاً، امتدت الخطوط الملاحية على المحيطات والبحار جميعاً، مما فسح المجال لاتساع نشاط القرصنة واعتراض السفن الحاملة للذهب والفضة والسلع الثمينة والتوابل وغيرها. وكانت المسالك البحرية المتجهة نحو أمريكا وإفريقيا ثم الهند أهدافاً مغرية للقراصنة خاصة الأوربيين منهم. كما كان حوض بحر الصين واليابان مسرحاً لمثل هذا النشاط.
دور القرصنة في التوسع الاستعماري وأشهر القراصنة
شكل القراصنة عبر التاريخ معيناً لا ينضب من القوى البشرية المؤهلة للعمل في البحر، لتمتعهم بالمهارة واللياقة البدنية والشجاعة لقاء إغراءات مختلفة. وقد استفاد ربابين البحر الذين عملوا تحت أعلام دول مختلفة من هذا المعين لاستكمال طواقمهم، على نحو ما فعل كريستوفر كولومبُس (1451ـ1506م) Christopher Columbus وأمِريكو فيسبوتشي (1454ـ1512م) Amerigo Vespucci، وفيرناند دي ماجلان (1480ـ1521م) Fernand de Magellan.
وقد استغلت الدول الأوربية بعض ربابين القراصنة في صراعها على اقتسام العالم الجديد في أمريكا وأوقيانوسيا والمحيطين الهادي والهندي وسعيها إلى السيطرة على الهند. وتطلبت الحروب الدينية وحركة الإصلاح الديني تمويلاً كبيراً، فسعت إسبانيا وخصوصاً في عهد فيليب الثاني (1527ـ1598م) Philip II وإيزابيلا Isabelle إلى احتكار تجارة العبيد من إفريقيا إلى أمريكا، وفرضت حصاراً بحرياً على سفن البلدان الأخرى، لتحمي سفنها التي كانت تحمل المعادن الثمينة والسلع النفيسة من أمريكا ولاسيما حوض البحر الكاريبي، إلى إسبانيا، ولكن بريطانيا في عهد الملكة إليزابيت الأولى (1558ـ1603م) وقفت لها بالمرصاد، وصادف أن تعرضت سفن تاجر العبيد القرصان الإنكليزي جون هوكينز John Hawkins إلى عاصفة بحرية في عام 1568 قبالة ساحل إفريقيا، فقرر تحويل نشاطه إلى البحر الكاريبي للتعرض للسفن الإسبانية بمباركة من الملكة إليزابيت. إلا أن الإسبان باغتوه وقتلوه، ونجا مساعده فرنسيس دريك Francis Drake الذي أعلم الملكة بما حصل، فكلفته متابعة المهمة. تحالف دريك مع السكان الأصليين، الذين وضعوا بتصرفه مراكبهم الصغيرة السريعة، وساعدوه في الوصول إلى المحيط الهادي عبر أدغال باناما الموحلة، لاقتناص السفن الإسبانية التي كانت تنقل الفضة من البيرو إلى الساحل الغربي لباناما. ونشطت أعمال القرصنة الإنكليزية على نطاق واسع، وساهم في ذلك القراصنة المعروفون بالبوكانيرز Buccaneers (نسبة إلى قديد اللحم والسمك المجفف)، الذين كانوا ينطلقون من سواحل جزر البحر الكاريبي.
قدم القرصان فرنسيس دريك أعمالاً جليلة لبريطانيا بتسييسه القرصنة وسيره على مسار ماجلان في الدوران حول جنوب القارة الأمريكية، لتحقيق الحلم الإنكليزي في السيطرة على الهند، وكان نشاطه مقدمة لظهور شركة الهند الشرقية. وكانت بعض مجوهرات التاج البريطاني من جملة ما قدمه هذا القرصان للملكة إليزابيت، التي منحته رتبة فارس ولقب النبالة Sir وقصراً. وقد لقي حتفه في إحدى غزواته قريباً من سواحل باناما.
هناك قراصنة آخرون قدموا خدمات لدولهم من أمثال نوت Nutt الذي ساعد على إعادة إنشاء البحرية الإنكليزية إبان عهد جيمس الأول (1566ـ1625م) James I، وكذلك القرصان الإنكليزي وليم دامبير (1652ـ1715م) Wiliam Dampier.
وتجدر الإشارة إلى أن طريق السفن الإسبانية الضخمة، كانت معروفة لقراصنة البوكانيرز، إذ كانت تتجه جنوباً مع الريح في توقيت معين من السنة، مسايرة سواحل أوربا وإفريقيا الغربية، ثم تنعطف غرباً بموازة مدار السرطان، بالاستفادة من التيار الاستوائي الشمالي، حتى جزر الأنتيل Antilles وحوض البحر الكاريبي. وكانت تعود مستفيدة من تيار الخليج Gulf Stream الدافئ، الذي يتجه شمالاً على طول سواحل أمريكا الشمالية، ثم يتجه شرقاً نحو أوربا. فكان البوكانيرز يتعرضون لها على خطوط الملاحة هذه في أوقات معينة من السنة. ثم يلجؤون إلى قواعدهم في حوض البحر الكاريبي.
القرصنة في النصف الثاني من القرن العشرين
وُصفت بعض أعمال الاختطاف hijacking التي تحمل طابع النضال السياسي في النصف الثاني من القرن العشرين بأنها قرصنة بموجب القانون الدولي، في معرض الإشارة إلى قيام منظمات نضالية ومنها فلسطينية باختطاف عدد من الطائرات أو السفن وأخذ طواقمها وركابها رهينة لحين استجابة سلطات معينة لمطالبهم. كما قامت إسرائيل وغيرها باعتراض طائرات مدنية سياحية وإجبارها على ترك خط سيرها والهبوط في مطاراتها لأغراض سياسية أيضاً.
وقد عمدت بعض الدول أخيراً إلى تزويد طائراتها ولا سيما المقاتلة بأجهزة تُظهر الرمز الدولي للقرصنة (طلباً للنجدة)، على شاشات راداراتها. ويذكر في هذا المجال قيام طائرة مقاتلة كندية في حزيران 2005م باعتراض طائرة ركاب «إيرباص» أوربية على خط لندن ـ نيويورك وإجبارها على الهبوط في كندا، لاعتقادها بوجود قنبلة على متن تلك الطائرة، ومجموعة من «القراصنة» الخاطفين، وذلك بعد أن ظهر الرمز الدولي المذكور على شاشة رادارالمقاتلة خطأ.
أما في البحر فيذكر على سبيل المثال، قيام جماعة من جبهة التحرير الفلسطينية (جناح أبي العباس) في تشرين الأول 1986م باختطاف باخرة الركاب الإيطالية أكيلي لاوروAchille Lauro في شرقي البحر المتوسط، وهو ما عد قرصنة في حينه.
القرصنة الأدبية والعلمية
ظهر في القرن العشرين نوع أخر من القرصنة يتمثل بانتحال أعمال أدبية علمية وفنية، أو ترجمتها من دون إذن مسبق أو إعادة نشرها كلاً أو جزءاً، أو الاستفادة من صورها ومخططاتها. وكذلك ما يتعلق باقتباس اختراع الآخرين وأفكارهم التقانية والتجسس عليهم، من دون ترخيص من أصحاب العلاقة.
وقد ساعد التطور العاصف للأتمتة وإدخال الإلكترونيات واستعمال شبكات الإنترنت إلى جانب انتشار الكتب والصحف والمجلات على ازدياد هذا النوع من القرصنة. وتتوسع دائرة القرصنة هذه لتصل إلى حد قيام بعض الدول بالقرصنة البينية للحصول على أفكار حول أسلحة ومعدات ذات قيمة استراتيجية.
وقد عمد الكثير من المنظمات الدولية والدول إلى سن قوانين ناظمة لحقوق النشر والتأليف والاختراع للحد من هذه الظاهرة وحماية للمُلكية.
هاني صوفي