معرض لصور عن "ذاك المكان" ببرلين: منظومة السجن
سوسن جميل حسن
فوتوغراف
(هيثم الموسوي)
شارك هذا المقال
حجم الخط
"ذاك المكان" هو عنوان كتاب صدر منذ سبع سنوات عن دار "كتب" للنشر، أعدّه اللبناني عمر نشّابة، جاء بمثابة عمل توثيقي لجولة على ثلاثة وعشرين سجنًا لبنانيًّا، ومن هذا الـ "المكان"، وثق المصور الصحافي اللبناني هيثم الموسوي لسجون لبنان في الفترة الواقعة بين 2009 و2011، بمجموعة كبيرة من الصور، تم عرضها في برلين بين الثامن والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر والثالث عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2022، كجزء من محتوى عرض The Place، في Lab Berlin Art، والقيّمان على المعرض هما شارلوت بانك، والفنان اللبناني صلاح صولي.
التقطت الصور، كما هو واضح وكما ينبغي أن يكون حصل، بموافقة الأطراف ذات العلاقة مجتمعة؛ السجناء/ إدارة السجون/ السلطة الحكومية/ المصور، ما يعني أننا نشاهد جانبًا وحيدًا من المنظومة كلها، منظومة السجن، بما ينضوي تحتها من جرائم وقوانين ومحاكمات وبنى اجتماعية وأمكنة وحياة خاصة، فهي مأخوذة في لحظة مرصودة وليست في لحظات يكون السجين فيها مغيّبًا تمامًا عن الفعل أو القرار في الموافقة أو عدمها، أو لحظات خاطفة، خارجة عن مراقبة الإدارة أو رضى المساجين، لذلك كانت الصور تبدو مثلما لو أنها حياة خاصة في أمكنة خاصة تجري بصورة طبيعية ضمن مسارها المشروط بالظروف المؤهلة لها، ومع هذا يمكننا تفكيكها والتقاط ما وراء الظاهر من الوجوه والأجساد والأمكنة والأنشطة التي يقوم بها السجناء أو السجينات، بشكل فردي أو جماعي، ومن خلال تصوير مبنى السجون، من حيث الهندسة والجدران والمهاجع والغرف الإفرادية، وعوامل الإهمال والزمن على المباني التي جعلتها بمثابة خرابات تفوح من صورها روائح الرطوبة والعفن.
ليست المقالة بصدد عرض لتاريخ السجون، وما يسمّى بالعدالة العقابية، وتطورهما حتى وقتنا الراهن، إنما يمكن الاستدلال من خلالها على ما صرّح به ميشيل فوكو في كتابه "المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن": "أن تكون العقوبات بصورة عامّة والسجن من مستلزمات تكنولوجيا الجسد السياسية، هذا ما علّمني إياه ربما الحاضر، أكثر مما علمني إياه التاريخ"، وهو يتوخى في كتابه "تاريخ الحاضر" بالنسبة إلى العقوبات والسجن.
بالتمعن في صور المعرض عن سجون لبنان، يمكن استخلاص نتيجة أن غالبيتها تعود لسجناء مدنيين، أو لأصحاب جرائم أو جنح، وليسوا معتقلين سياسيين، إلّا إذا توقفنا عند بعضها الذي يبرز سلوكيات لها علاقة بانتماء ديني أو طائفي، كصورة لمعتقلين يؤدّون صلاة جماعية في أحد المهاجع، وأخرى لمعتقلات يصلّين صلاة إسلامية أيضًا، أو صورة أخرى يظهر فيها ثلاثة شبان، أحدهم يغطي جسده الوشم بمساحات واسعة، وعلى صدره عبارة بالوشم "أي شريعة حلّلت ذبح الحسين بن علي (ع)"، بالإضافة إلى بعض الرموز الدينية التي تتدلى على الصدور بواسطة سلاسل، من صلبان ومصاحف وسيوف مزدوجة، هذا لا يعطينا فكرة عن السجين وما هو جرمه الذي تمت عقوبته بالسجن بسببه بالطبع.
سجينة تحمل رضيعها، وأخرى تضع يدها على بطنها المنتفخ بحمل في شهوره الأخيرة، هل هذا الطفل وذاك الجنين يمثلان نموذجًا آخر للسجين من المهم دراسته ودراسة علاقة الفضاء الخارجي الذي يتشكل فيه، وبه؟ صورة لمجموعة سجينات تبدو عليهن جميعًا ملامح آسيوية من أولئك اللاتي جئن إلى لبنان بكثافة قبل الأزمة الحالية، ليشكلن عمالة منزلية بدأت أزمتها تتفاقم مع تفاقم الأزمة اللبنانية، سجينات يضحكن كما لو أنهن في جلسة لهو ومرح، هل يشكل السجن حالة خلاص بالنسبة لهنّ؟ وما كانت عليه حياتهن قبل السجن؟
مهجع صغير محشور فيه أجساد تقارب الثلاثين لرجال، تبدو غالبيتهم في سن الشباب، ومعظمهم مضطجع على الأرض، مثلما لو كانوا كتلة واحدة تسند بعضها البعض، تتخلل المساحات الضيقة حدّ أنها لا تتسع لموطئ قدم، بعض أباريق الشاي، أو الصحون، أو الكؤوس، صور لكوّات صغيرة في أبواب من الحديد تطل منها عينان أو الجزء العلوي من وجه، يقابله وجه آخر، أشخاص يقفون أمام شبك يقابلهم آخرون في الطرف الآخر، لا يسمح بتماس الأيدي، وآخرون يقفون أمام زجاج معشّق بالحديد يتكلمون مع آخرين في الخارج بواسطة سماعات هاتف، هذه هي سبل التواصل بين المساجين وذويهم، وصور أخرى لشبابيك على ارتفاع البناء تتدلّى منها ثياب رثة معلقة لتجف، ربما غسلها أصحابها، حديد كثير، بوابات، نوافذ، أبواب، كوّات، حديد وجدران ومهاجع لا تصلح للعيش البشري، مزدحمة حدّ الاختناق، وهناك زنازين ضيقة حدّ إمكان تسميتها انفرادية، لكن يبدو أنها تحوي أكثر من سجين.
"مع تفاقم الأزمة اللبنانية، ثمة سجينات يضحكن كما لو أنهن في جلسة لهو ومرح، فهل يشكل السجن حالة خلاص بالنسبة لهنّ؟ وما كانت عليه حياتهن قبل السجن؟" |
ما يلفت النظر في هذه الصور هو تأثيث المكان، بعد تأسيسه كهيكل هندسي أو بناء ليقوم بهذا الغرض، احتواء المحالين إليه لقضاء عقوبة ما، قد تكون صدرت بحكم قضائي، أو ربما بعضهم لم يحاكم حتى تاريخ التقاط الصور، لكن المكان يؤسسه المسجونون بما يتاح بين أيديهم، فيمنحون للمكان وجودًا ومعنى، لولا السجين ما كانت السجون ذات ماهية، ولولا تأثيث المكان ما اتخذ معناه ومفهومه، هناك رفوف في بعض المهاجع، وفرش على الأرض، وهناك علب كرتونية في بعضها علقها المساجين على الجدران لتصبح بمثابة خزائن خاصة لأغراضهم الحميمة، فما هي أغراض السجين الحميمة؟ يصبح المكان الذي لا يتجاوز المترين المربعين في مهجع صغير هو البيت بالنسبة للسجين، هو فضاؤه الحياتي، وهو ملاذه (في وجه ماذا؟) ربما هذا السؤال محير جدًّا، فمّمَ يهرب السجين؟ هل من ذاكرته؟ من ألمه؟ من حلمه؟ من أمله؟ من يأسه؟ من موته؟ ممَّ؟ لكن الحياة تسير وهم يمضون فيها من دون أن تكون حياة، لم تُمنح الحياة للمخلوقات كي يقضوها خارج رحابتها، كي يشكلوها على قدّ مضجعهم في مهجع أو زنزانة، توجد في إحدى زواياها حفرة بمثابة مرحاض، حيث ينامون ويأكلون ويشربون الشاي المعدّة على مواقد صغيرة فوق الخرق التي يجلسون عليها في انتظار اللاشيء.
ما هو الزمن بالنسبة للسجين؟ في صورة لسجين يجلس فوق فراشه في زنزانة صغيرة، يظهر فيها فراشان إضافيان، فوق أحدهما روزنامة معلقة على الحائط ومجموعة من الكتب عند الرأس، ترى هل يحسبون كم مضى من محكوميتهم، أو كم بقي لنهايتها، أم يوثقون علاقتهم بالزمن كي لا يصبحوا خارجه، كي يتعرفوا إلى أنفسهم وإلى من تركوهم قبل السجن، فيما لو خرجوا في يوم ما؟
ما هو دور السجن؟
وإلى ماذا يرمي حبس الفرد في ظروف لا إنسانية بحجة القصاص، العقوبة، والإصلاح؟
لا يتناول الحديث هنا المعتقلات التي تضم عشرات الآلاف من سجناء الرأي، أو المعتقلين السياسيين، فلهذه السجون حديث آخر، بما يتجلى فيه سلوك السلطة تحت عنوان بعيد عن هذه المصطلحات، فهي ليست بإصلاحية، ولا تقوم على عقاب نتيجة محاكمة تستند إلى جسد القانون، ولا قصاص بما يمكن أن ينتهي بهدف محدّد، هو نوع آخر من الأداء المدروس القائم على ديناميكيات مدروسة يمكن وصفها بجرائم موصوفة، قد يكون القتل بطرق مختلفة أقلها شراسة وقسوة. لكن الحديث يدور حول سجناء مدنيين، ارتكبوا ما يعاقب عليه القانون الجزائي، بدعوى تحقيق العدالة العقابية، فكيف يمكن تفكيك اللغة البصرية التي خاطب بواسطتها المصور وعي الجمهور؟ مثلما خاطبت كتابة فوكو وعي القراء؟ أو مثلما خاطب أدب السجون لمعتقلين سابقين وعي القراء؟ لا بدّ من المحاولة بعد أن يتورّط المشاهد في هذه الصور ويصبح مدعوًّا إلى محاولة تفكيكها، والبحث عمّا وراءها، عن الغائب أو المغيّب، عن مفهوم السجن بالنسبة لمجتمعاتنا وأنظمتنا وثقافتنا، فإذا تمعنّا في احتمالات الجريمة والعقوبة المناسبة لها، بحسب قانون العقوبات في كل بلد، ربما يكون من بين هؤلاء المحكومين من هو محكوم بالإعدام أو المؤبد، فما الفرق بين الإعدام والمؤبّد؟ المؤبد موت بطيء، إعدام يتكرّر كل لحظة بالنسبة إلى السجين، كيف يتعامل مع فكرة الموت؟ وما هي الحياة بالنسبة إليه إذا لم يكن أمامه إلّا الانسداد في وجه أحلامه وطموحاته؟ حتى المحكوم في جناية أو جرم يستوجبان الحبس لمدة محدودة، فإنه يثير تساؤلات عن معنى إجبار الشخص على العيش في حياة ضمن منظومة مفروضة عليه، وسلبه القرار في اتخاذ أي مبادرة تخص حياته، وحبسه ضمن حياة أخرى، وزمن غير زمنه، وشروط تتنافى مع الإنسانية، وتحت المراقبة؟
ماذا تعني المراقبة والمعاقبة؟ لا بد من الاعتراف بأن السؤال يبقى مفتوحًا حتى وقتنا الراهن، وربما إلى ما بعده، وما يمكن أن يجلب المستقبل القادم على البشرية من معانٍ جديدة بالنسبة لهذين المفهومين، وطرق ممارستهما استنادًا إلى الزمن القائم في وقته. كذلك إذا كان لهذا السؤال أن ينفتح على علوم كثيرة، عدا كونه سؤالًا فلسفيًا، عالجه فوكو في كتابه هذا، بطريقة أدت في النتيجة إلى رصد دلالات تداولية لكل ملفوظات الخطابات التداولية، للخطابات المألوفة عن القانون والجريمة والمحكمة والبراءة والإدانة، لتأخذ مواقعها الأصلية بالنسبة لتشابكات السلطة والمعرفة، فكيف يمكن الحفر في المصطلحات بالنسبة لواقعنا العربي الحالي، من حيث هذه المفاهيم والسلوكيات، حول الجريمة والعقاب والقانون والمحكمة وغيرها، وسؤال السجون في بلداننا؟
بل يحيلنا سؤال المراقبة والمعاقبة، بدعوى تحقيق العدالة العقابية، إلى سؤال أهم، وهو سؤال العدالة بأوجهها الأخرى، وهل هي متحققة؟ العدالة الاجتماعية مثلًا، العدالة في التمثيل السياسي، العدالة في ضمان الحقوق وعدم التمييز، مفهوم العدالة واسع ودقيق ومهم في حياة الشعوب، فكيف يمكن الحديث عن عدالة عقابية في ظل أنظمة تنعدم فيها العدالات الأخرى، وفي دول فاشلة أو قمعية تشيح حكوماتها النظر عن الفساد بكل أشكاله، وتترك المجتمع لمشاكله واستنقاعه وفقره وبؤسه وجوعه، لتزدهر فيه كل أشكال الجريمة، ثم تستخدم سلطاتها وأدواتها السلطوية المباشرة التي تجسدها المعتقلات أو كل ما هو على شاكلتها، من حيث الهندسة (الرقابية العقابية) والجاهزية التأهيلية أو الانضباطية، وهي تبرز كنماذج رئيسية عن نوعية مجتمع ما، والمؤسسة الانضباطية هي نموذج المشروع الثقافي الغربي، كما يعتبر فوكو، فما هو مشروع النموذج الثقافي الخاص بمجتمعاتنا ودولنا؟ أخمّن أنه ليس الانضباطية بمفهومها الغربي كما حلّله فوكو، بمعنى تأهيل الخاضعين للعقوبات، أو حتى المستشفيات والمصحات والمدارس والثكنات وغيرها من المؤسسات، وتأهيل الخارجين عن فضاء السجون من خلال هذه الرسائل التي ترسلها الأنظمة لضبط الفضاء العام، فنماذج السجون لدينا تفتقر إلى الحد الأدنى من شروط السجون في العالم المتحضّر، الذي تتوفر فيه فرص إعادة التأهيل، أو تخليص المرتكب من دوافع وأسباب فشله وارتكابه، بينما لدينا العديد من النصوص القانونية في الدول العربية تتنافى مع التطورات الحديثة للمنظومة العقابية، وهي بالتالي قاصرة عن علاج العديد من الإشكالات المطروحة، خارج السجن وداخله، وأهمها المعاملة اللاإنسانية والظروف المشينة داخل السجون، هذا إذا استثنينا المعتقلات لسجناء الرأي أو السياسيين.
من صور السجون اللبنانية بعدسة هيثم الموسوي: