فيلم "مؤامرة القاهرة".. صراع السلطة من داخل الأزهر
طارق صالح يكشف خفايا أكبر المؤسسات الدينية دون رؤى استشراقية.
عالم مليء بالمؤامرات والمخاطر
بين السلطة السياسية والسلطة الدينية في العالم العربي علاقات قديمة متشابكة، قد يتخللها النفور أحيانا بينما غالبا هي في انسجام. فبعزل كل منهما عن الأخرى لا تختلفان في إدارة شؤونهما، فكما للسياسة ألاعيبها فللمؤسسات الدينية كذلك ألاعيب لنيل المصالح الخاصة وافتكاك زمام السلطة فيها. عوالم من النادر أن نجد عملا فنيا ينقدها دون تحيّز أو تبسيط أو تعميم، كما فعل فيلم “مؤامرة القاهرة”.
يمثل تورط الشاب الساذج آدم دون قصد في صراعات السلطة داخل مؤسسة الأزهر رفيعة المستوى، نقطة تحول في أحداث فيلم “مؤامرة القاهرة “التي تجري على ضفاف نيل القاهرة.
وعلى الرغم من بساطة السياق الأولي للقصة، يتمكن المخرج طارق صالح من تقديم إثارة سياسية فريدة وعميقة التأثير تترسخ في واقع مصر المعاصر ثم تتغير حياة آدم بشكل جذري عندما يتورط دون إرادته في سلسلة من المناورات الدقيقة التي تستهدف تعيين خليفة جديد للإمام الأكبر في الأزهر، الذي توفي فجأة وترك خلفه فراغا كبيرا. يجد آدم نفسه في صراعات معقدة تتجاوز إطار حياته العادية وتجره إلى عالم مليء بالمؤامرات والمخاطر.
مقاربة للواقع المصري
يقدم الفيلم تطورا دراميا مشوقا يسلط الضوء على تحديات مصر المعاصرة، بينما يكشف عن الجوانب المظلمة للسلطة والصراعات الخفية التي تحدث خلف الكواليس. تمتزج مكونات الإثارة والتشويق مع رسالة سياسية عميقة تجعل من “مؤامرة القاهرة” عملا فنيّا يترك أثرا قويا في نفوس الجمهور ويفتح نوافذ جديدة نحو فهم التوترات والتحديات التي تعصف بالمجتمع، باستخدام طرح جذاب للشخصيات وتطور درامي متقن.
يحقق الفيلم رصيدا كبيرا في عالم السينما المصرية والعربية، ويثبت أن القصص البسيطة قد تحمل في طياتها عمقا وتعقيدا يمكن أن يشكلا مادة خصبة للتفكير والحوار في المجتمعات الحديثة.
في قلب الإسلام السني، يتناول فيلم “مؤامرة القاهرة” في المقام الأول موضوع السلطة، حيث يسلط بشكل أساسي الضوء على المنافسة بين شخصيتين بارزتين، الأولى دينية تمثلها مؤسسة الأزهر، والثانية سياسية وممثلة في جهاز الأمن الوطني. يتمحور الصراع بينهما حول تعيين الإمام الأكبر الجديد، وتبيِّن القصة منذ البداية أهمية هذا التحدي والرهان المرتبط به. فالأزهر يمثل إحدى أبرز الجامعات اللاهوتية في عالم الإسلام السني، وهو أيضا من أبرز المؤسسات الدينية المميزة في مصر. ولذلك، يتمتع الإمام الأكبر بسلطة أخلاقية واسعة. ويسعى الجهاز السياسي إلى السيطرة على هذه السلطة من خلال وضع الإمام الجديد تحت تأثيره، وهذا ما يمثل تحدِّيا مهمّا أمام المؤسسة الدينية.
يجد المخرج السويدي ذو الأصل المصري طارق صالح نفسه تحت ضغوط قمعية شديدة من النظام المصري، وهذا ما يظهر بوضوح في إبداعه السينمائي. ورغم عدم ذكر اسم الرئيس عبدالفتاح السيسي بوضوح في الفيلم، إلا أن تواجده يتجلّى من خلال العديد من الصور التي تبرز تمجيده، وتملأ الشوارع التي يتقدم فيها الشخصيات. هذه الصور تشير إلى أن جذور القصة تمتد في مصر ما بعد الثورة، حيث يتعامل الفيلم مع تأثير القمع والسيطرة.
تظهر اللقطات المتكررة في الفيلم استبداد الزعيم المصري، وليس فقط من خلال محاولته السيطرة على المؤسسات، بل من خلال إشارات أخرى أيضا. على سبيل المثال، يذكر أحد مساعديه المباشرين أنه يجب أن يبقى “الفرعون الوحيد” في البلاد، ممّا يوضح إصراره على التحكم المطلق.
رغم وجود بعض العيوب يظهر “مؤامرة القاهرة” كفيلم خيالي متقن يثير الاهتمام وينجح في إبلاغ رسالته
ولا يقتصر تصوير الاستبداد على الجانب السياسي، بل يمتد إلى قمع خدمات الأمن التي تنتهج أساليب وحشية مثل التلاعب بمختلف الأشكال واللجوء إلى التعذيب والإعدامات التعسفية.
وينسجم الفيلم بشكل كبير مع الواقع، حيث يظهر بوضوح تشابه بين شخصياته وبيئة مصر ما بعد الثورة، متعرضا للأنانية والنفاق والعنف لدى الشخصيات مختلفة الانتماءات.
فكرة السيناريو لا تقتصر بالفعل على مواجهة بسيطة وثنائية بين السلطة الدينية والسلطة الحكومية. بل يتجلى اهتمامه الأساسي في تصوير تعقيد التنافس والتوتر الذي يندلع داخل هذه المؤسسات، سواء كان ذلك من خلال المنافسة الشديدة بين الشيوخ الرئيسيين من أجل السيطرة على إدارة الأزهر، أو من خلال التفسيرات المتنوعة للإسلام التي تتصارع حولها الآراء بين الطلاب، وحتى من خلال الانشقاقات والصراعات التي تنشأ بين قادة جهاز الأمن الوطني.
كما يتضح أن كل الشخصيات في الفيلم تحرّكها بشكل كبير مصالحها الشخصية، وهذا يتجلى في التصرفات والقرارات التي تتخذها. حتى الذين يبدون أنهم يهتمون بأمور أعلى مثل سمعة الأزهر أو استقرار النظام العام، يظهِر الفيلم أن الدوافع الشخصية تلعب دورا حاسما في توجيه أفعالهم. هذا ما يجعل بعض الشخصيات أكثر براعة في إخفاء مصالحها وراء أهداف تبدو أرقى، وهذا يضفِي عمقا إضافيا على تفاصيل القصة.
السذاجة والسلطة
الشخصيات تحركها مصالحها الشخصية
يصور الفيلم شخصا شابا يتحرر من الوقوع في السذاجة، وهذا الجانب من القصة يعكِس مدى التطور والنمو الشخصي الذي تمر به الشخصية الرئيسية.
من الواضح أن الفيلم يتجنب بشكل واضح أيّ تبسيطات، وبدلا من ذلك يسلط الضوء على تعقيدات السلطة داخل كل مؤسسة. يعود نجاح الفيلم جزئيا إلى التوازن الذي يحقِقه بين تمثيله للواقع المصري المعاصر، من خلال اختيار الممثلين واستخدام لغة التصوير وتصميم الديكور والإعداد، بالإضافة إلى عناصره الخيالية والعالمية، والفيلم يمتاز بأنه يعمل على توازن جيد بين عناصره المحلية والعالمية، حيث يمكن للجمهور من مختلف الثقافات أن يستمتع به ويتفاعل معه.
ورغم أنه عمل خيالي، إلا أنه يأخذ جزئياته من الواقع لخدمة السرد السينمائي، وهذا شائع في الأفلام السياسية حيث يمكن استخدام الخيال للتعبير عن الرسائل والفكر.
وبالنسبة إلى التصوير الذي يقدمه الفيلم للواقع السياسي والاجتماعي في القاهرة يبدو أنه يحاول تجنب الاستشراق والتبسيط الزائد. على سبيل المثال، عندما يتحدث شيوخ الأزهر في الفيلم عن استقلالية الجامعة عن وصاية الدولة، يمكن اعتبار هذا التصوير مبالغا فيه لأغراض درامية، حيث يظهر التنافس والتشابك داخل المؤسسات بشكل أكثر تعقيدا، كما يتجنب التصوير الاستشراقي الذي يميل إلى تصوير الأنظمة العربية بصورة ثابتة كمستبدة أو عنيفة، بينما يحاول طارق صالح أن يظهر تعقيدات الشخصيات وتنوعها ومواقفها بشكل أكثر واقعية وإنسانية.
يبدي المخرج مهارة كبيرة في استخدام رموز الإثارة السياسية، وهذا تجلى بوضوح من خلال فيلمه السابق “القاهرة السرية” والذي حقق نجاحا كبيرا من الناحية النقدية والجماهيرية في عام 2017.
بطل ساذج في ورطة
في “مؤامرة القاهرة”، يتجاوز الفيلم بالتأكيد التبسيط ويتناول تعقيدات السلطة والعلاقات السياسية بشكل أفضل باستخدام بطل الفيلم، آدم، ويظهِر المخرج نمط الشخصية الساذجة التي تورطت دون قصد في تجارب أكبر منها، وتدور الأحداث حول تطوره وتعلمه تحديات السلطة والنزاهة.
تمثيل توفيق برهوم لشخصية آدم يبرِز تجسيدا ممتازا لهذا الطابع، ما يسمح للمشاهدين بمشاركته في اكتشاف النفاق والعنف الكامن في الشخصيات البارزة، التي تجسد نوعا من السلطة والنزاهة.
فيما يتعلق بالعقيد إبراهيم الذي يؤدي دوره فارس، يتجلى التمثيل في إظهار ملامح شخصية الشرطي المعذب، الذي يتبنى دائما المبدأ أن الغاية تبرر الوسيلة. المظهر الخارجي القديم للشخصية، والتفاصيل مثل تسريحة شعره ونظاراته وملابسه، تسهم في بناء صورة هذا الشرطي والتباين بينه وبين زملائه حيث استخدام المخرج للعناصر الموسيقية والديكور وتمثيل الشخصيات يعكس عمق السيناريو والتفاصيل التي تضيف إلى واقعية الأحداث.
هذا التمركز في الماضي، الذي يتجلى من خلال شخصية العقيد إبراهيم، يعطي دلالات إضافية ويكرم الأفلام التي تناولت مواضيع الجريمة والتحقيقات.
في عالم مغلق
تجنب الاستشراق والتبسيط الزائد
يعزز المخرج طارق صالح التوتر المميز للشخصيات الرئيسية بشكل ماهر من خلال استخدام الموسيقى الكلاسيكية الفعّالة وإطار الفيلم الذي يجري في أجواء تشبه أفلام السجن. يتم تصوير الفيلم بشكل أساسي داخل جامعة الأزهر، ونظرا إلى تحديات تصويره في مصر، يتم تجسيد مكان الجامعة من خلال مسجد سليمانية في إسطنبول.
يبني المخرج هذا الإطار بشكل جيد ليعكس جوا سجنيا محيطا بالشخصيات عندما تتجول داخل الجامعة، ويتم تصويرها في مشاهد تشبه أفلام السجون، حيث تبدو البيئة ضيقة ومحجوزة. ويتم استخدام هذا الإطار لإثراء التوتر والاستقبال النفسي للشخصيات وللمشاهدين أيضا.
يشير النص إلى أن الشخصيات تترك الجامعة بشكل منتظم دون معرفة محددة إذا ما كانت لديها حقوق في ذلك، مما يزيد من جو التشويق وعدم اليقين.
من الجدير بالذكر أن تصوير المشاهد الخارجية محدود نسبيا، وهو ما يضيف للجو العام للفيلم إطارا يخدم رسالته التي تنطلق من فضاء مغلق.
الفيلم يتجاوز التبسيط ويتناول تعقيدات السلطة والعلاقات السياسية بشكل أفضل باستخدام بطل الفيلم الذي تطورت شخصيته
تم استخدام الليل والسيارات لتعزيز الشعور بالارتباك والضيق الذي يشعر به الشخص الرئيسي آدم، الذي يجد نفسه غريب الأطوار في مدينة القاهرة الكبيرة داخل جامعة الأزهر، يتم بناء تباين واضح بين المكان المغلق للشيوخ والمساحات الأكثر انفتاحا، وهذا يبرِز جوّ السجن والعزلة المحيطة بالشخصيات وتعقيد العلاقات داخل الجامعة.
تتمثل هذه التناقضات في تصميم الديكور والإضاءة والتصوير بشكل عام، كما أن تصوير المشاهد الداخلية في الأماكن المغلقة بخطط ضيقة يخلق شعورا بالقيود والحجز، ويعزز الجانب السجني من القصة. على سبيل المثال، عندما يتم تصوير آدم داخل حجرته يظهر غالبا من خلال شبكة سريره، مما يعزز من هذا الجو والمشاهد المتتالية في الساحة وتضيف عمقا إلى القصة وتسهم في بناء التصاعد والتوتر. كما أن استخدام تقنيات سينمائية مختلفة مثل بناء حوارات متزامنة يعزز من تجسيد الصراعات والتناقضات بين الشخصيات.
على الرغم من وجود بعض العيوب، يظهر “مؤامرة القاهرة” كفيلم خيالي متقن يثير الاهتمام وينجح في إيصال جو التوتر والقيود الذي تعيشه الشخصيات.
لقد فاز فيلم “مؤامرة القاهرة” بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان عام 2022، مما يبرهن على قوة القصة وأهميتها. ويركز الفيلم بشكل أساسي على شخصية آدم، الابن البسيط لصياد يحقق إنجازا كبيرا بالالتحاق بالجامعة الشهيرة الأزهر في قلب القاهرة.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
عبدالرحيم الشافعي
كاتب مغربي
طارق صالح يكشف خفايا أكبر المؤسسات الدينية دون رؤى استشراقية.
عالم مليء بالمؤامرات والمخاطر
بين السلطة السياسية والسلطة الدينية في العالم العربي علاقات قديمة متشابكة، قد يتخللها النفور أحيانا بينما غالبا هي في انسجام. فبعزل كل منهما عن الأخرى لا تختلفان في إدارة شؤونهما، فكما للسياسة ألاعيبها فللمؤسسات الدينية كذلك ألاعيب لنيل المصالح الخاصة وافتكاك زمام السلطة فيها. عوالم من النادر أن نجد عملا فنيا ينقدها دون تحيّز أو تبسيط أو تعميم، كما فعل فيلم “مؤامرة القاهرة”.
يمثل تورط الشاب الساذج آدم دون قصد في صراعات السلطة داخل مؤسسة الأزهر رفيعة المستوى، نقطة تحول في أحداث فيلم “مؤامرة القاهرة “التي تجري على ضفاف نيل القاهرة.
وعلى الرغم من بساطة السياق الأولي للقصة، يتمكن المخرج طارق صالح من تقديم إثارة سياسية فريدة وعميقة التأثير تترسخ في واقع مصر المعاصر ثم تتغير حياة آدم بشكل جذري عندما يتورط دون إرادته في سلسلة من المناورات الدقيقة التي تستهدف تعيين خليفة جديد للإمام الأكبر في الأزهر، الذي توفي فجأة وترك خلفه فراغا كبيرا. يجد آدم نفسه في صراعات معقدة تتجاوز إطار حياته العادية وتجره إلى عالم مليء بالمؤامرات والمخاطر.
مقاربة للواقع المصري
يقدم الفيلم تطورا دراميا مشوقا يسلط الضوء على تحديات مصر المعاصرة، بينما يكشف عن الجوانب المظلمة للسلطة والصراعات الخفية التي تحدث خلف الكواليس. تمتزج مكونات الإثارة والتشويق مع رسالة سياسية عميقة تجعل من “مؤامرة القاهرة” عملا فنيّا يترك أثرا قويا في نفوس الجمهور ويفتح نوافذ جديدة نحو فهم التوترات والتحديات التي تعصف بالمجتمع، باستخدام طرح جذاب للشخصيات وتطور درامي متقن.
يحقق الفيلم رصيدا كبيرا في عالم السينما المصرية والعربية، ويثبت أن القصص البسيطة قد تحمل في طياتها عمقا وتعقيدا يمكن أن يشكلا مادة خصبة للتفكير والحوار في المجتمعات الحديثة.
في قلب الإسلام السني، يتناول فيلم “مؤامرة القاهرة” في المقام الأول موضوع السلطة، حيث يسلط بشكل أساسي الضوء على المنافسة بين شخصيتين بارزتين، الأولى دينية تمثلها مؤسسة الأزهر، والثانية سياسية وممثلة في جهاز الأمن الوطني. يتمحور الصراع بينهما حول تعيين الإمام الأكبر الجديد، وتبيِّن القصة منذ البداية أهمية هذا التحدي والرهان المرتبط به. فالأزهر يمثل إحدى أبرز الجامعات اللاهوتية في عالم الإسلام السني، وهو أيضا من أبرز المؤسسات الدينية المميزة في مصر. ولذلك، يتمتع الإمام الأكبر بسلطة أخلاقية واسعة. ويسعى الجهاز السياسي إلى السيطرة على هذه السلطة من خلال وضع الإمام الجديد تحت تأثيره، وهذا ما يمثل تحدِّيا مهمّا أمام المؤسسة الدينية.
يجد المخرج السويدي ذو الأصل المصري طارق صالح نفسه تحت ضغوط قمعية شديدة من النظام المصري، وهذا ما يظهر بوضوح في إبداعه السينمائي. ورغم عدم ذكر اسم الرئيس عبدالفتاح السيسي بوضوح في الفيلم، إلا أن تواجده يتجلّى من خلال العديد من الصور التي تبرز تمجيده، وتملأ الشوارع التي يتقدم فيها الشخصيات. هذه الصور تشير إلى أن جذور القصة تمتد في مصر ما بعد الثورة، حيث يتعامل الفيلم مع تأثير القمع والسيطرة.
تظهر اللقطات المتكررة في الفيلم استبداد الزعيم المصري، وليس فقط من خلال محاولته السيطرة على المؤسسات، بل من خلال إشارات أخرى أيضا. على سبيل المثال، يذكر أحد مساعديه المباشرين أنه يجب أن يبقى “الفرعون الوحيد” في البلاد، ممّا يوضح إصراره على التحكم المطلق.
رغم وجود بعض العيوب يظهر “مؤامرة القاهرة” كفيلم خيالي متقن يثير الاهتمام وينجح في إبلاغ رسالته
ولا يقتصر تصوير الاستبداد على الجانب السياسي، بل يمتد إلى قمع خدمات الأمن التي تنتهج أساليب وحشية مثل التلاعب بمختلف الأشكال واللجوء إلى التعذيب والإعدامات التعسفية.
وينسجم الفيلم بشكل كبير مع الواقع، حيث يظهر بوضوح تشابه بين شخصياته وبيئة مصر ما بعد الثورة، متعرضا للأنانية والنفاق والعنف لدى الشخصيات مختلفة الانتماءات.
فكرة السيناريو لا تقتصر بالفعل على مواجهة بسيطة وثنائية بين السلطة الدينية والسلطة الحكومية. بل يتجلى اهتمامه الأساسي في تصوير تعقيد التنافس والتوتر الذي يندلع داخل هذه المؤسسات، سواء كان ذلك من خلال المنافسة الشديدة بين الشيوخ الرئيسيين من أجل السيطرة على إدارة الأزهر، أو من خلال التفسيرات المتنوعة للإسلام التي تتصارع حولها الآراء بين الطلاب، وحتى من خلال الانشقاقات والصراعات التي تنشأ بين قادة جهاز الأمن الوطني.
كما يتضح أن كل الشخصيات في الفيلم تحرّكها بشكل كبير مصالحها الشخصية، وهذا يتجلى في التصرفات والقرارات التي تتخذها. حتى الذين يبدون أنهم يهتمون بأمور أعلى مثل سمعة الأزهر أو استقرار النظام العام، يظهِر الفيلم أن الدوافع الشخصية تلعب دورا حاسما في توجيه أفعالهم. هذا ما يجعل بعض الشخصيات أكثر براعة في إخفاء مصالحها وراء أهداف تبدو أرقى، وهذا يضفِي عمقا إضافيا على تفاصيل القصة.
السذاجة والسلطة
الشخصيات تحركها مصالحها الشخصية
يصور الفيلم شخصا شابا يتحرر من الوقوع في السذاجة، وهذا الجانب من القصة يعكِس مدى التطور والنمو الشخصي الذي تمر به الشخصية الرئيسية.
من الواضح أن الفيلم يتجنب بشكل واضح أيّ تبسيطات، وبدلا من ذلك يسلط الضوء على تعقيدات السلطة داخل كل مؤسسة. يعود نجاح الفيلم جزئيا إلى التوازن الذي يحقِقه بين تمثيله للواقع المصري المعاصر، من خلال اختيار الممثلين واستخدام لغة التصوير وتصميم الديكور والإعداد، بالإضافة إلى عناصره الخيالية والعالمية، والفيلم يمتاز بأنه يعمل على توازن جيد بين عناصره المحلية والعالمية، حيث يمكن للجمهور من مختلف الثقافات أن يستمتع به ويتفاعل معه.
ورغم أنه عمل خيالي، إلا أنه يأخذ جزئياته من الواقع لخدمة السرد السينمائي، وهذا شائع في الأفلام السياسية حيث يمكن استخدام الخيال للتعبير عن الرسائل والفكر.
وبالنسبة إلى التصوير الذي يقدمه الفيلم للواقع السياسي والاجتماعي في القاهرة يبدو أنه يحاول تجنب الاستشراق والتبسيط الزائد. على سبيل المثال، عندما يتحدث شيوخ الأزهر في الفيلم عن استقلالية الجامعة عن وصاية الدولة، يمكن اعتبار هذا التصوير مبالغا فيه لأغراض درامية، حيث يظهر التنافس والتشابك داخل المؤسسات بشكل أكثر تعقيدا، كما يتجنب التصوير الاستشراقي الذي يميل إلى تصوير الأنظمة العربية بصورة ثابتة كمستبدة أو عنيفة، بينما يحاول طارق صالح أن يظهر تعقيدات الشخصيات وتنوعها ومواقفها بشكل أكثر واقعية وإنسانية.
يبدي المخرج مهارة كبيرة في استخدام رموز الإثارة السياسية، وهذا تجلى بوضوح من خلال فيلمه السابق “القاهرة السرية” والذي حقق نجاحا كبيرا من الناحية النقدية والجماهيرية في عام 2017.
بطل ساذج في ورطة
في “مؤامرة القاهرة”، يتجاوز الفيلم بالتأكيد التبسيط ويتناول تعقيدات السلطة والعلاقات السياسية بشكل أفضل باستخدام بطل الفيلم، آدم، ويظهِر المخرج نمط الشخصية الساذجة التي تورطت دون قصد في تجارب أكبر منها، وتدور الأحداث حول تطوره وتعلمه تحديات السلطة والنزاهة.
تمثيل توفيق برهوم لشخصية آدم يبرِز تجسيدا ممتازا لهذا الطابع، ما يسمح للمشاهدين بمشاركته في اكتشاف النفاق والعنف الكامن في الشخصيات البارزة، التي تجسد نوعا من السلطة والنزاهة.
فيما يتعلق بالعقيد إبراهيم الذي يؤدي دوره فارس، يتجلى التمثيل في إظهار ملامح شخصية الشرطي المعذب، الذي يتبنى دائما المبدأ أن الغاية تبرر الوسيلة. المظهر الخارجي القديم للشخصية، والتفاصيل مثل تسريحة شعره ونظاراته وملابسه، تسهم في بناء صورة هذا الشرطي والتباين بينه وبين زملائه حيث استخدام المخرج للعناصر الموسيقية والديكور وتمثيل الشخصيات يعكس عمق السيناريو والتفاصيل التي تضيف إلى واقعية الأحداث.
هذا التمركز في الماضي، الذي يتجلى من خلال شخصية العقيد إبراهيم، يعطي دلالات إضافية ويكرم الأفلام التي تناولت مواضيع الجريمة والتحقيقات.
في عالم مغلق
تجنب الاستشراق والتبسيط الزائد
يعزز المخرج طارق صالح التوتر المميز للشخصيات الرئيسية بشكل ماهر من خلال استخدام الموسيقى الكلاسيكية الفعّالة وإطار الفيلم الذي يجري في أجواء تشبه أفلام السجن. يتم تصوير الفيلم بشكل أساسي داخل جامعة الأزهر، ونظرا إلى تحديات تصويره في مصر، يتم تجسيد مكان الجامعة من خلال مسجد سليمانية في إسطنبول.
يبني المخرج هذا الإطار بشكل جيد ليعكس جوا سجنيا محيطا بالشخصيات عندما تتجول داخل الجامعة، ويتم تصويرها في مشاهد تشبه أفلام السجون، حيث تبدو البيئة ضيقة ومحجوزة. ويتم استخدام هذا الإطار لإثراء التوتر والاستقبال النفسي للشخصيات وللمشاهدين أيضا.
يشير النص إلى أن الشخصيات تترك الجامعة بشكل منتظم دون معرفة محددة إذا ما كانت لديها حقوق في ذلك، مما يزيد من جو التشويق وعدم اليقين.
من الجدير بالذكر أن تصوير المشاهد الخارجية محدود نسبيا، وهو ما يضيف للجو العام للفيلم إطارا يخدم رسالته التي تنطلق من فضاء مغلق.
الفيلم يتجاوز التبسيط ويتناول تعقيدات السلطة والعلاقات السياسية بشكل أفضل باستخدام بطل الفيلم الذي تطورت شخصيته
تم استخدام الليل والسيارات لتعزيز الشعور بالارتباك والضيق الذي يشعر به الشخص الرئيسي آدم، الذي يجد نفسه غريب الأطوار في مدينة القاهرة الكبيرة داخل جامعة الأزهر، يتم بناء تباين واضح بين المكان المغلق للشيوخ والمساحات الأكثر انفتاحا، وهذا يبرِز جوّ السجن والعزلة المحيطة بالشخصيات وتعقيد العلاقات داخل الجامعة.
تتمثل هذه التناقضات في تصميم الديكور والإضاءة والتصوير بشكل عام، كما أن تصوير المشاهد الداخلية في الأماكن المغلقة بخطط ضيقة يخلق شعورا بالقيود والحجز، ويعزز الجانب السجني من القصة. على سبيل المثال، عندما يتم تصوير آدم داخل حجرته يظهر غالبا من خلال شبكة سريره، مما يعزز من هذا الجو والمشاهد المتتالية في الساحة وتضيف عمقا إلى القصة وتسهم في بناء التصاعد والتوتر. كما أن استخدام تقنيات سينمائية مختلفة مثل بناء حوارات متزامنة يعزز من تجسيد الصراعات والتناقضات بين الشخصيات.
على الرغم من وجود بعض العيوب، يظهر “مؤامرة القاهرة” كفيلم خيالي متقن يثير الاهتمام وينجح في إيصال جو التوتر والقيود الذي تعيشه الشخصيات.
لقد فاز فيلم “مؤامرة القاهرة” بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان عام 2022، مما يبرهن على قوة القصة وأهميتها. ويركز الفيلم بشكل أساسي على شخصية آدم، الابن البسيط لصياد يحقق إنجازا كبيرا بالالتحاق بالجامعة الشهيرة الأزهر في قلب القاهرة.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
عبدالرحيم الشافعي
كاتب مغربي