احلام

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • احلام


    ناتسومي سوسيكي 23 سبتمبر 2023
    ترجمات
    ناتسومي سوسيكي (1867 ـ 1916)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    تقديم وترجمة: إسكندر حبش.
    من دون أدنى شك، يعد الروائي ناتسومي سوسيكي (1867 ـ 1916) أفضل ممثل للحداثة اليابانية، ومحلل تناقضاتها الأكثر وضوحًا. فعلى عكس عدد من معاصريه، كان يرفض كلًا من تجاوزات التغريب، كما الانسحاب إلى القيم التقليدية.
    ولد في إيدو عام 1867، عشية عصر ميجي. تلقى أولًا تعليمًا كلاسيكيًا متينًا (حتى أنه كان يكتب الشعر الصيني لغاية نهاية حياته)، لكنه اختار الأدب الإنكليزي كي يدرسه عندما التحق بجامعة طوكيو. وهناك التقى بالشاعر شيكي ماساوكا، الذي جعله يكتشف شعر الهايكو. بعد دراساته العليا، قام بتدريس اللغة الإنكليزية في عدد من المدارس الثانوية الإقليمية.
    في عام 1900، أرسلته وزارة التربية والتعليم إلى لندن. وعلى الرغم من صعوبات التكيّف الجادة، استغل سوسيكي إقامته لفرض برنامج دراسة موسوعية على نفسه. لم يكن يشعر بالسعادة من محاضرات دبليو جيه كريج، المتخصص في أدب شكسبير، لذا مال إلى قراءة الفلاسفة الإنكليز، أو القاريين، وعلماء الاجتماع، وعلماء النفس، وشارك في التفكير النظري حول أسس الأدب.
    بعد عودته إلى اليابان عام 1903، حلّ مكان لافساديو هيرن في جامعة طوكيو، حيث قام بتدريس تاريخ الأدب الإنكليزي والنظرية الأدبية: تم دمج هذه الدورات لاحقًا في كتاب "رسالة في الأدب" (1907). نشر قصائد في مجلة Hototogisuالتي أسسها شيكي ماساوكا، لكن كان لنشره وقبل أي شيء آخر "أنا قطة" عام 1905، بمثابة دخوله إلى المهنة الأدبية. في هذا العمل ذي البراعة الأسلوبية العظيمة، يصف القط، وهو ابن عم بعيد لــ كاتر ألمر هوفمان، عالم المثقفين والموظفين المدنيين الصغار في فترة ميجي، بنبرة صفيقة أو شرسة بالتناوب. وإذا كان كتاب "ولد" (1906) يرتبط بالوريد الساخر عينه، فإن "وسادة من عشب" (1906) قدم نوعًا جديدًا تمامًا، والذي يصفه المؤلف نفسه بأنه "رواية هايكو".
    في عام 1907، ونظرًا لرغبته في تكريس نفسه بالكامل للأدب، تخلى سوسيكي عن مهنة التدريس، وانضم إلى صحيفة أساهي، حيث بدأت أعماله تصدر فيها على شكل حلقات مسلسلة. وبعد أن تلمس طريقه مع رواية "الخشخاش" (1907)، بدا أن سوسيكي وجد ضالته مع كتاب "القاصر" (1908). لتأتي ثلاثيته "سانشيرو" (1908)، و"لاحقًا" (1909)، و"الباب" (1910)، وتعلن عن ميلاد موهبة كبيرة في عالم الأدب الياباني.
    بيد أنه أصيب في ذاك العام (1910) بمرض خطير، وقد لزم ذلك فترة طويلة من التداوي والنقاهة، ما لعب دورًا في بداية مرحلة جديدة من إنتاجه الأدبي تميزت بالسخرية الاجتماعية التي أفسحت في المجال لتحليلات ذات كثافة سيكولوجية أكبر. كذلك تميزت هذه المرحلة الجديدة من الكتابة بموضوعات الأنانية والوحدة والفراغ الروحي، مثلما ظهرت في ثلاثية جديدة تألفت من (بعد الموتى ـ 1912، الرجل الذي يذهب ـ 1912-1913، كوكورو... القلب ـ 1914).
    بعد أن نهشه المرض الذي حمله في نهاية المطاف في عام 1916، قضى سوسيكي الأشهر الأخيرة من حياته بين إعداد رواية ضخمة "النور والظلام"، ولكنها بقيت غير مكتملة، وبين تأليف القصائد الصينية.
    هذه الأحلام، التي نترجم هنا بعضها (لا كلها)، كانت صدرت لأول مرة في عام 1908 في مجلة أساهي، بعد فترة وجيزة من صدور روايتيه "القاصر" و"العصفور". في أعمال هذه الفترة، نكتشف عند الكاتب الرغبة في استكشاف حالات الوعي اللاشعورية.


    الليلة الأولى
    حلمت حلمًا.
    كنت جالسًا، ذراعاي متصالبتان، إلى جانب سرير امرأة مستلقية على ظهرها، تخبرني بصوت هادئ أنها ستموت. كان شعرها الطويل الأشعث يغطي الوسادة ويؤطر شكل وجهها البيضاوي الرقيق. لا حرارة الدم الذي نخمّنه تحت بياض خديّها، ولا تجسد شفتيّها ينذران باقتراب الموت. ومع ذلك، سمعت صوتها الهادئ يخبرني أنها ستموت. لذلك انتهى بي الأمر بالاعتقاد بأنها كانت تقول الحقيقة. ثم انحنيت على وجهها، وأغرقت بصري فيه، سألتها: "أحقًا ذلك؟ هل ستموتين؟". "بالتأكيد"، أجابت وهي تفتح عينيها، عينيها السوداوين الكبيرتين المبللتين اللتين تصطف حولها رموش طويلة. في أعماق بؤبؤيها الكحيلين، استطعت أن أميز انعكاس صورتي.
    عندما حدقت في وهج عينيها المظلم بعمق شديد لدرجة أنها أصبحَتْ شفافة، أصبحتُ أشك في أنها كانت حقًا على وشك الموت. لذا، قرّبت وجهي برفق من الوسادة، سألتها: "قولي، إن هذا ليس صحيحًا، لن تموتي؟".
    أبقت عينيها السوداوين مفتوحتين على وسع حدقتيهما كما لو كانت تحارب النوم، أخبرتني بهدوء أن موتها لا مفر منه.
    عندما سألتها بجديّة، إذا كانت تستطيع تمييز وجهي، أجابت بابتسامة:
    "وجهك؟ لكن بالطبع، إنه ينعكس هنا، في عينيّ!".
    صمتَت، وسحبتُ وجهي بعيدًا عن الوسادة. ما زلت جالسًا بالقرب من سريرها، وذراعاي متشابكتان، ما زلت أشك في أنها على وشك الموت حقًا.
    بعد ذلك بقليل، تكلمتْ مرة أخرى: "عندما أموت، ستقوم بدفني. سوف تحفر قبرًا بمحارٍ لؤلؤي كبير، ولتحديد موقع قبري، ستصنع شاهدة بجزء من شهاب. وسوف تنتظرني عند حافة القبر، لأني سأعود". سألتها متى ستعود.
    "هل ترى الشمس؟ إنها تشرق، ومن ثم تغرب. تستيقظ مرة أخرى، قبل أن تغرب من جديد. هل يمكنك أن تنتظرني مطولًا مثل الشمس الحمراء وهي تعبر السماء من الشرق إلى الغرب لتضيع عند غروب الشمس؟".
    أومأت برأسي "نعم". عندها، رفعت صوتها الهادئ قليلًا، وقالت لي بنبرة حازمة: "انتظرني مئة سنة. لمدة مئة عام، ابقَ بالقرب من قبري في انتظاري. سأعود لرؤيتك، أعدك".
    أجبتها ببساطة أنني سأنتظر. ثم بدأ انعكاسي الذي بدا بوضوح في قاع بؤبؤي عينيها السوداوين يظهر مشوشًا، ويغور مثلما تختفي صورة تعكسها المياه عندما تسبب موجة في زعزعة السطح. سرعان ما أغمضت عينيها، لتترك رموشها الطويلة دموعها تنساب على خديها... كانت ميتة.
    حينذاك، نزلت إلى الحديقة وبدأت الحفر بالصَدَفة الملساء والحادة لمحارة لؤلؤية كبيرة. مع كل حركة، كانت قشرة ظهر الصدفة تلمع في ضوء القمر. انبعثت من الحفرة رائحة تراب رطب. سرعان ما انتهيت من الحفر. وضعت المرأة في القبر، ثم دفنتها برفق. في كل مرة كنت أنهال بالتربة عليها، كان القمر يتلألأ على ظهر الصدفة.
    ثم أحضرت شهابًا وضعته على الأرض برقة. لقد كان مستديرًا تمامًا: لا بدّ أنه فقد زواياه في سقوطه الطويل عبر السماء. برفع النجمة بهذه الطريقة لوضعها على القبر، قمت بتدفئة يدي وقلبي قليلًا.
    جلست على الطحلب، واعتقدت أنه كان عليّ أن أنتظر مئة عام كما الآن، كتفت ذراعيّ وحدقت في الشاهدة المستديرة.
    بعد فترة وجيزة، ومثلما تنبأت المرأة، ظهرت الشمس في الشرق... شمس حمراء كبيرة. ثم، كما توقعت، اختفت عند الغرب. وبينما كان يغرق في هالة من النار، عددت لنفسي: "واحد".
    ثم ارتفع النجم القرمزي ببطء في السماء. وبينما كان يغور في صمت، عددت، "اثنان".
    لا أعرف كم من شمس حمراء عددتها بهذه الطريقة. لقد أحصيت فعلًا، أحصيت وأحصيت بلا هوادة، الشمس الحمراء عينها التي كانت تمرّ من فوقي. بيد أن المئة عام لم تنسَب بعد. في النهاية، وبينما أنا أتأمل الحجر الدائري الذي أصبح الآن مغطى بالطحالب، تيقنت بأن المرأة خدعتني.
    ثم، وبعد أن خرج من تحت الشاهدة، بدأ جذع أخضر ينمو بشكل غير مباشر في اتجاهي. نما بشكل واضح حتى ارتفاع صدري. ثم، عند طرف الجذع المتأرجح برفق، ظهر برعم دقيق مائل قليلًا حاملًا بتلات ناصعة البياض. فاح من زهور الزنبق، التي كانت تهدي نفسها إليّ، عطر تغلغل في أعماق كينونتي. بعد ذلك، سقطت من القبة الزرقاء، قطرة من ندى لمست الزهرة، التي تمايلت، ولم يكن يسندها سوى وزن تويجتها الثقيل. حينئذ قربت شفتيّ لأقبّل البتلات البيضاء التي كان الندى البارد ينساب منها. بعدها، حين رفعت رأسي، تاه نظري في السماء: وحيدة، كانت تومض نجمة الصباح.
    فهمت فجأة أن العام المئة قد حلّ.

    الليلة الثانية
    حلمت حلمًا.
    غادرت جناح الرئيس، وأخذت الممر للعودة إلى غرفتي، حيث وميض ضوء المصباح الشاحب. وضعت إحدى ركبتيّ على وسادة، وانحنيت لأعيد إليها الحياة، لكن رأس الفتيل الشبيه بتويجة متوهجة سقط على حامل البرنيق محدثًا ضجة مكتومة. غمر الوهج المفاجئ الغرفة بأكملها.
    تزين لوحة لـــ بوسون[1] القاطع الورقي. لون حبر في المقدمة، والصفصاف الباكي يتلاشى في البعيد؛ على الجسر، بإمكانك أن ترى صيادًا، متجمدًا من البرد، يمشي، مائلًا قبعته المصنوعة من القش... على الكوة علقت لوحة كاكيمونو تمثل مونجو[2] وهو يجتاز الأمواج. لا تزال أعواد البخور تنشر عطرها، في زاوية مظلمة من الغرفة، ثمة رائحة قوية. ساد صمت عميق فوق المعبد الهائل الذي بدا مهجورًا.
    عندما نظرت إلى الأعلى، تولّد لدي انطباع بأن الظل المستدير الذي ألقته كرة المصباح على السقف المظلم كان حيًا.
    احتفظت بركبة واحدة على الأرض، رفعت زاوية من الوسادة بيدي اليسرى بينما كانت اليمنى تتلمس ما حولها: نعم، كان "هو" بنفسه حيث كنت أتوقعه. بعد أن شعر باطمئنان، أعدت الوسادة إلى مكانها وجلست عليها بهدوء.
    قال لي الرئيس: "يجب أن يكون الساموراي قادرًا على بلوغ مرحلة الإشراق. لكن بما أني أراك بعيدًا عن الهدف على الرغم من كل جهودك، أشك في أنك ساموراي حقيقي. أنت لست رجلًا، أنت قمامة!".ثم أضاف ضاحكًا بصوت عالٍ: "آه، هذا يسيء إليك، هاه! حسنًا، إذا لم تكن سعيدًا، فقط أثبت لي أنك حققت مرحلة الإشراق!" وعند هذه الكلمات أدار لي ظهره فجأة... الوقح! أريد بأي وسيلة أن أصل إلى الـــ ساتوري[3] قبل أن تدق ساعة الغرفة المجاورة مشيرة إلى الساعة التالية. عندها سأذهب إلى الرئيس، وسأبادل الإشراق برأسه. من دون إضاءة لا أستطيع قتل الراهب[4]. يجب أن أنجح بأي ثمن، لأنني ساموراي؛ وإلا سأقتل نفسي. هذا، نعم، سأموت بشكل نظيف، لأنه لا يوجد شك في أن الساموراي ينجو من الإذلال.
    عند هذه الفكرة، لم أستطع منع يدي في أن تنزلق تحت الوسادة لأسحب غمد الخنجر القرمزي. أمسكت بالمقبض بإحكام، وانتزعت الغمد خارجًا بضربة واحدة قاسية، لأكشف عن النصل البارد الذي كان يلمع في عتمة الغرفة. يبدو أن تدفقًا مخيفًا للطاقة ينساب من يدي ويتركز على طرف السلاح، كما لو كان يبلور الرغبة في القتل. عندما رأيت، على مضض تقريبًا، تسع بوصات ونصف من نصلتي الحادة تنتهي بنقطة رفيعة مثل رأس الدبوس، أردت أن أضرب شخصًا ما. تدفق دمي كلّه إلى معصمي الأيمن، وضغطت على المقبض بشدّة حتى شعرت أنه كان ملتصقًا بيدي. كانت شفتاي ترتجفان...
    استبدلت الخنجر في غمده ووضعته على الحصيرة إلى يميني، ثم جلست في وضعية اللوتس...
    قال تشاو تشو/ Zhao Zhou[5]، "العدم"! بالتأكيد، ولكن ما هو العدم؟ آه! الراهب اللقيط! فكرت، وأنا أصرّ أسناني. ضغطت على فكيّ بشدة لدرجة أن أنفاسي الساخنة خرجت بعنف من أنفي، وأصيبت صدغي بالتوتر الشديد، ما جعلني أحس بالألم. فتحت عينيّ واسعًا بشكل غير متناسب. رأيت الكاكيمونو، ورأيت المصباح، ورأيت الحصائر، حتى أنني رأيت رأس بيضة الرئيس كما لو كان هناك. سمعت أيضًا الضحكة الساخرة التي هربت من فم الزواحف القديم. الوقاحة! مهما حدث، يجب أن أجعل رأس الإبريق هذا يطير! نعم، لقد اتخذ القرار، سأصل إلى لحظة الإشراق...
    بدأت أغمغم: "عدم، كلّ شيء عدم ..."، ولكن بغض النظر عن مقدار ما قررت عدم وجود شيء، فإن رائحة البخور لا تزال موجودة، كما لو كانت تستهزئ بي. بشرفي، ماذا يظن نفسه، هذا البخور؟
    حينذاك، أغلقت قبضتيّ ووجهت لنفسي ضربة مروعة في رأسي. ضغطت على أسناني حتى صرخت. شعرت بالعرق يتدفق على إبطي... كان ظهري متيبسًا مثل هراوة. فجأة أصيبت ركبتاي بألم شديد... أوه، يمكن أن تنكسرا، سخرت من نفسي بجنون! ومع ذلك كان الألم لا يطاق... والعدم الذي لم يأت بعد! شعرت أنه قادم، لكن ركبتيّ بدأتا تؤلماني في هذه الأثناء. يغتصبني الغضب. لقد غمرني الاستياء والحقد؛ تدفقت الدموع من عينيّ. كانت لدي رغبة مجنونة في الاندفاع بنفسي على صخرة عملاقة لسحق عظامي وتمزيق جسدي.
    ومع ذلك، بقيت أقاوم، وأنا جالس في وضعية اللوتس، لأقمع ألمًا يائسًا في صدري. هذا الألم، الذي شدّ كل عضلات جسدي، يغلي بداخلي كما لو أنه يريد أن يهرب عبر مسام بشرتي، لكنه لم يجد مخرجًا: كل شيء كان مسدودًا. كانت ذروة الرعب...

    "ضغطت على فكيّ بشدة لدرجة أن أنفاسي الساخنة خرجت بعنف من أنفي، وأصيبت صدغي بالتوتر الشديد، ما جعلني أحس بالألم"


    في النهاية، بدأت أصاب بالهذيان. كان لدي انطباع بأن المصباح، لوحة بوسون، الحصائر والرفوف كانت تطفو بين الوجود والعدم... ومع ذلك، لم يظهر العدم بعد. كانت جهودي بلا جدوى، وكنت جالسًا بغباء، عندما دقت عقارب الساعة في الغرفة المجاورة فجأة.
    جفلت. ومن ثم مددت يدي اليمنى صوب الخنجر، و... دقت الساعة مرة أخرى.

    الليلة الثالثة
    حلمت حلمًا.
    كنت أحمل طفلًا على ظهري. كان عمره ست سنوات، وكان ابني. بدا الأمر غريبًا جدًا: على الرغم من أنني فقدت عقلي، إلا أنني كنت أعرف أنه كان أعمى ورأسه حليق.
    سألته منذ متى وهو أعمى، أجابني: "منذ الأزل". كان لصوته انعطاف طفولي، لكنه تحدث مثل شخص بالغ، وبدا كأنه يخاطب شخصًا مساويًا له... المسار الضيق الذي كنت أسلكه كان محاطًا بحقول الأرز المخضوضرة. بين الحين والآخر كان الشكل الواضح للبلشون يتألق في الظلام.
    "لقد وصلنا إلى الحقول"، قال صوت من خلف ظهري.
    ـ كيف تعرف ذلك؟ سألته وأنا أنظر من فوق كتفي.
    ـ "ألا تسمع صراخ طيور البلشون؟".
    ما أن تفوه بهذه الكلمات حتى علت صرختان.
    على الرغم من أنه كان ابني، إلا أن الخوف بدأ يغمرني. هل تعلم ماذا يمكن أن يحدث عندما تتحمل مثل هذا العبء؟ بحثت في الأفق، على أمل العثور على مكان يمكنني فيه التخلص من هذا المخلوق الغريب، عندما لمحت غابة كبيرة في وسط الظلام. في اللحظة التي اعتقدت فيها أنه يمكنني التخلص منه هناك، سمعت ضحكة مكتومة خلفي.
    "ما الذي يدفعك إلى الضحك؟".
    وبمثابة جواب، سألني الطفل:
    "هل أن وزني ثقيل يا أبي؟".
    وبما أنني أجبته بالنفي، أضاف قائلًا:
    "بعد وقت قليل، سيصبح وزني أثقل".
    ومن دون أن أجيب، واصلت السير في اتجاه الغابة، لكنني كنت أتقدم بصعوبة، لأن المسار كان يتعرج بشكل متقلب في وسط حقول الأرز. بعد ذلك بقليل، وصلت إلى مفترق طرق. توقفت لأستريح للحظة. عندها قال الصبي:
    "يجب أن تكون ثمة حدود هنا".
    في الواقع، ثمة حجر يبلغ طول جانبه ثماني بوصات، وارتفاعه يصل إلى خصري، ينتصب عند مفترق طرق. نقرأ عليه: "إلى اليسار هيجاكوبو، إلى اليمين هوتاوارا". على الرغم من الظلام، كانت الحروف المطلية باللون الأحمر الفاتح مرئية بوضوح. كانت فوسفورية مثل بطن السمندل.
    "خذ طريق اليسار"، أمرني الفتى.
    ناظرًا في الاتجاه المشار إليه، رأيت الغابة تلقي بظلال طويلة فوق رؤوسنا وقد بدت وكأنها تسقط من السماء. سكتّ لحظة مترددًا.
    قال القزم: "لا يوجد شيء يدعو للخجل". تخليت عن تفكيري، وبدأت أسير نحو الغابة. كنت أفكر في داخلي أنه بالنسبة إلى رجل أعمى فهو يعرف أشياء كثيرة، عندما قال الصوت خلفي: "إنه أمر محرج حقًا ألا أرى أي شيء!"
    ـ ليس عليك أن تتذمر بما أنني أحملك.
    ـ أشكرك على ذلك، لكن كما تعرف، يسخر الناس مني، وهذا شيء خبيث. حتى والدي يسخر مني، وهذا أمر أخبث بكثير.
    كنت مرهقًا. قمت بتسريع وتيرتي للوصول بسرعة إلى الغابة والتخلص من أعبائي.
    "تقدم إلى الأمام بعد، وسوف تفهم"، قال القزم؛ ومن ثم أضاف، كما لو كان يكلم نفسه: "في أي حال، كان مساء مثل اليوم".
    ـ ما الذي تقصده بقولك هذا؟ سألته بنبرة تشير إلى أنه بدأ بالتلميح.
    أجاب الآخر ساخرًا: "تعال، لا تلعب دور البريء، فأنت تعرف جيدًا ما أتحدث عنه". لذلك شعرت أنني أعرف الحقيقة. لم يكن كلّ شيء واضحًا بالنسبة إليّ، لكنني شعرت أنها كانت أمسية من هذا القبيل. أدركت أنني سأعرف مزيدًا فيما لو كنت لا أزال أسير. خمنت أيضًا أن العواقب ستكون رهيبة إذا تمّ تبديد اللغز. للحفاظ على راحة البال، اضطررت إلى تفريغ العبء بأسرع وقت ممكن، بينما لم أكن قد فهمت شيئا بعد. أسرعت الخطى.
    بدأ المطر يتساقط. كان الطريق يغوص ببطء في الظلام. منغمسًا في نوع من الهذيان، كان لدي يقين واحد فقط: كنت أحمل قزمًا غريبًا ملتصقًا بظهري، وكان هذا المخلوق يتألق مثل المرآة التي كانت ستعكس ماضي وحاضري ومستقبلي، من دون أن تترك أي شيء في الظل.
    أضف إلى ذلك كله أن القزم كان ابني، وكان ضريرًا. لم أعد أستطيع تحمل ذلك كله.
    "إنه هناك، إنه هناك! مباشرة أسفل هذه الشجرة!"، جاء الصوت الذي تردّد صداه واضحًا عبر ستارة المطر. توقفت بالرغم عني، ووجدت نفسي في أعماق الغابة. على بعد خطوات قليلة، ميزت شكلًا أسود: كان بالتأكيد الشجرة التي أشار إليها الصبي. "أبي، حدث ذلك فعلًا عند كعب هذه الشجرة، أليس كذلك؟ لم يسعني سوى أن أومئ.
    "لقد كانت السنة الخامسة من عصر بونكا، عام التنين، أليس كذلك"؟ كان هذا يحدث بالفعل في ذلك الوقت.



    "حسنًا إذًا! لقد مرت مئة عام بالضبط منذ أن قتلتني!".
    ما إن سمعت هذه الكلمات حتى سطع نور في داخلي، مبهرًا. قبل مئة عام، في سنة التنين، السنة الخامسة لعصر بونكا، في ليلة مظلمة مثل هذه، قتلت رجلًا أعمى عند سفح هذه الشجرة. وفي اللحظة التي أدركت فيها أنني قاتل، بدأ المخلوق المتشبث بظهري يزن مثل تمثال من حجر[6].

    الليلة الرابعة
    حلمت حلمًا.
    مقعد محاط بطاولات صغيرة وسط غرفة كبيرة ذات أرضية ترابية. في الطرف البعيد من المقعد، الذي كان أسود لامعًا، جلس رجل عجوز إلى طاولة صغيرة لتناول الساكي. لمرافقة الكحول، كان يأكل الخضار المطبوخة في صلصة الصويا. جعل المشروب لون وجهه زهريًا، لكن لم تظهر على بشرته اللامعة والناعمة أي تجاعيد. فقط لحيته الطويلة الشعثاء خانت عمره الكبير. على الرغم من أنني كنت لا أزال طفلًا، إلا أنني تساءلت عن العمر الذي يمكن لهذا العجوز أن يكون عليه... في اللحظة نفسها، عادت زوجة صاحب النُزُل، التي ذهبت لملء دلوها في أنبوب الخيزران خلف المنزل، بحملها، ومسحت يديها على مئزرها، وسألت الرجل العجوز:
    "كم عمرك يا جدي؟".
    ابتلع الرجل العجوز بداية جرعة من حساء الخضار، وأخرج من فمه كلامًا مقتضبًا: "لقد نسيت". وضعت صاحبة النُزُل يديها، التي كانت انتهت من مسحهما، في حزامها ووقفت ساكنة، محدقة في وجه الرجل العجوز. ابتلع فنجانًا كبيرًا من الساكي، وتنهَّد تنهيدة عميقة هربت عبر لحيته. عندما سألته صاحبة النزل عن مكان إقامته، قاطع تنهده وأجاب:

    "قدتُ معركة، وجدت نفسي للأسف إلى جانب المهزومين: لقد تم أسري وجُررت أمام القائد المنتصر"

    "في أعماق سُرّتي!".
    حينذاك عادت هذه المرأة الثرثارة، التي كانت لا تزال يداها عالقتين في حزامها، لتسأل:
    "وإلى أين أنت ذاهب هكذا؟".
    ابتلع الرجل العجوز كوبًا آخر من مشروب الساكي الساخن، مفرغًا فنجانه الضخم، ليقول بحسرة جديدة: "أنا ذاهب إلى هناك.
    ـ بخط مستقيم؟".
    كما لو كان يرغب في أن يجيب صاحبة الحانة، فقد عبر تنفسه الذي استنشقه العجوز، الحاجز الورقي، فقام ليمر من تحت الصفصاف الباكي، وليذهب مباشرة كي يضيع في قاع النهر. خرج العجوز من الماء. تابعته. كانت لديه قِربة صغيرة متصلة بحزامه، ويتدلى صندوق صغير بحمالة من جنبه. كان يرتدي سترة زرقاء فاتحة بلا أكمام وبنطالًا متناسقًا. فقط حذاؤه (تابي)[7] كان أصفر. يبدو وكأنه مصنوع من الجلد.
    توجه مباشرة إلى شجرة الصفصاف التي كانت تلعب تحتها مجموعة صغيرة من الأطفال. بابتسامة على وجهه، أخذ منديلًا أزرق فاتحًا من حزامه ولفه في جديلة طويلة ليضعه على الأرض. ثم رسم دائرة كبيرة حوله. ثم، من الصندوق الذي كان يتدلى من فوق كتفه، أخرج أحد المزامير النحاسية التي يستخدمها بائعو الحلوى. "والآن سيتحول هذا المنديل إلى ثعبان، انظروا، انظروا!" كرر. حدّق الأطفال في المنديل. فعلت مثلهم.
    "انظروا، انظروا! احترسوا، هل أنتم جاهزون؟" قال الرجل العجوز، وهو يعزف على المزمار ويستدير حول الدائرة التي رسمها. لم تتحرك عيناي عن المنديل الذي بقي بلا حراك بشكل يائس. كان الرجل العجوز لا يزال ينفخ في آلته كالمجنون، وهو يستمر في الدوران. بدا الأمر كما لو أنه بالكاد يلامس الأرض بطرفي صندله، كما لو كان يخشى إزعاج المنديل. بدا خائفًا أحيانًا، وأحيانًا مستمتعًا.
    في النهاية، توقف فجأة عن العزف، وفتح الصندوق وألقى بالمنديل الذي كان يمسكه برفق من أحد طرفيه.
    "الآن بعد أن أصبح في الصندوق، سيتحول إلى ثعبان! ستشاهدون ما عليكم أن تروه!" وعند هذه الكلمات، انطلق الرجل العجوز. مر على الصفصاف ونزل مباشرة إلى النهر. وبما أنني أردت أن أرى الثعبان، تبعته فوق الطريق الضيق. كان لا يزال يمشي، وهو يردد من حين لآخر: "سترون!" أو: "سيتحول إلى ثعبان!" وصل أخيرًا إلى النهر وهو يتمتم:
    انظروا، سوف يتحول إلى ثعبان لأن
    المزمار لا يكذب أبدًا
    نظرًا لعدم وجود جسر، أو قارب، اعتقدت أنه سوف يتوقف على الضفة، ويريني الأفعى... لكنه استمر في المشي ودخل النهر. الماء، الذي وصل ركبتيه في البداية، سرعان ما ارتفع إلى خصره... ثم اختفى صدره في التيار. لكنه استمر في التقدم، وهو يهمهم:
    دائمًا بشكل أعمق!
    دائمًا بشكل مستقيم!
    يحلّ الليل!
    وهكذا اختفت اللحية والوجه والرأس والغطاء الواحد تلو الآخر تحت الماء...
    مقتنعًا بأن الرجل العجوز سوف يريني الأفعى عندما يخرج إلى الضفة الأخرى، بقيت بلا حراك، تائهًا في ارتعاش القصب. انتظرت.
    لكن العجوز لم يخرج أبدًا.

    الليلة الخامسة
    حلمت حلمًا.
    حدث ذلك في العصور القديمة جدًا، القريبة كثيرًا من عصر الآلهة. بعد أن قدتُ معركة، وجدت نفسي للأسف إلى جانب المهزومين: لقد تم أسري وجُررت أمام القائد المنتصر.
    في تلك الأيام، كان رجال المعارك طويلي القامة، ويحملون لحى متدفقة. من أحزمتهم الجلدية كانت السيوف مستقيمة مثل العصي. بدلًا من الأقواس، كانوا يمتلكون أغصانًا سميكة من الوستارية [نوع من نبات] لا يعرف خشبها الخام الطلاء. كانت أسلحتهم بدائية.
    متوجًا على جرة كبيرة مقلوبة كانت تستخدم كمقعد له، أمسك زعيم العدو في يده اليمنى قوسًا استقرت نهايته على الأرض.
    نظرت إلى وجهه، ولاحظت أن حاجبيه الكثيفين يلتقيان عند جذر أنفه. لأنه، بالطبع، لم تكن شفرات الحلاقة موجودة بعد.
    كوني سجينًا، لم يكن لدي مقعد: كنت ببساطة جالسًا على العشب. كنت أرتدي حذاء من القش. في ذلك الوقت، كانت الأحذية تصل إلى الركبة، وتنتهي بـــ شراشيب من الخيوط الحرة التي تقع على الجزء العلوي، وتتأرجح مع إيقاع المشي.
    قام قائد العدو بفحص وجهي على ضوء نيران المخيم، وسألني ما إذا اخترت الموت أو العيش. يُملي العرف أن يتمّ طرح هذا السؤال على جميع السجناء.
    من اختار الحياة يعد بالخضوع الكامل؛ من يطلب الموت يتحدى المنتصر. أجبته أنني أختار الموت. ألقى القائد القوس الذي كان يتكئ عليه على العشب وسحب السيف الذي كان يحمله في جانبه. ألقت الريح ألسنة اللهب التي بدت وكأنها تقفز نحو السلاح. حينذاك، فتحت يدي اليمنى مثل ورقة القيقب، ووجهت كفي نحو قائد العدو، ورفعتها إلى مستوى عيني. كان ذلك يعني: "انتظر!" أعاد السيف إلى غمده بصوت عنيف.
    أخبرته أنني أريد أن أرى حبيبتي مرة أخرى قبل أن أموت، لأن الحب كان موجودًا بالفعل في تلك الأوقات البعيدة. وعد زعيم العدو بالانتظار حتى ظهور الديك الأول عند الفجر. كان عليّ أن أتصل بها: إذا لم تصل قبل أن يصيح الديك، فسأقتل من دون أن أراها مرة أخرى...
    كان القائد، الذي لا يزال متوجًا فوق الجرة، يحدق بثبات في ألسنة اللهب.
    كنت جالسًا فوق العشب، حذاءاي فوق بعضهما البعض، منتظرًا محبوبتي.
    يتقدم الليل...
    بين الحين والآخر، كانت جذوع الأشجار تتفتت بقرقعة، وألسنة اللهب المجنونة تتدحرج وتندفع نحو قائد العدو الذي تتألق عيناه تحت حاجبيه السوداوين. لذلك يأتي أحدهم ويرمي جذوعًا جديدة في النار. سرعان ما بدأت النار تتأجج، وبدا أن هذه الطقطقة المتهورة تدفع الظلام إلى الخلف.
    في تلك الأثناء، حررت المرأة التي كنت أنتظرها حصانًا مربوطًا بشجرة بلوط خلف منزلها. داعبت رقبته ثلاث مرات، ثم قفزت على ظهره. كانت تركب بدون سرج. اصطدمت أرجلها البيضاء الطويلة بجانبي مطيتها التي اندفعت خببًا. من دون شك أذكوا نيران المخيم، لأن المرأة كانت تميز هالته، في الأفق. ركض الحصان في اتجاه ذاك الضوء، طار عبر الظلام، وبدا أن منخريه يبصقان النار. أثارت المرأة جانبيه بلا هوادة. كان الحصان يركض بسرعة كبيرة لدرجة أن دحرجة حوافره ارتفعت إلى السماء. انتشر شَعر الفارسة الطويل مثل راية ترتجف في الريح، ويطفو في الظلام. لكنها لم تصل إلى نار المخيم بعد.
    فجأة، على حافة الطريق المظلم، مزق صياح الديك الليل. تدحرجت المرأة بقفزة واحدة على ظهر مطيتها وشدّت لجامها بعنف. غرس الحصان حوافره الأماميتين في الصخرة التي احتفظت بالبصمة...
    علا صياح الديك مرة ثانية.
    أطلقت المرأة صرخة وأفلتت اللجام، لكن ركبتي الحصان هربتا. لكن الدابة والفارسة أسرعتا من فوق الصخرة ليقعا في هوة سحيقة انفتحت تحتهما. لا تزال الصخرة تحمل آثار حوافر. إنها جنيّة شريرة [8] قلدت صياح الديك. من الآن فصاعدًا، طالما أن الصخرة تحمل آثار حوافر، سأكره الجنيّات.

    هوامش
    [1] بوسون (1716 ـ 1784): شاعر هايكو، شارك في الحركة التي تدعو إلى العودة إلى باشو. رسام، يصقل ببراعة أسلوب "بونجينجا".
    [2] مونجو (Sk. Mañjuśri) : أحد البوديساتفات الثلاثة الرئيسية. هو ممثل هنا على حيوان أسطوري يتجه نحو بوتالا.
    [3] فهم، إدراك، هو مصطلح من بوذية تشان، سون، زن وثين، والذي يشير إلى اليقظة الروحية. الصحوة على معرفة الحقيقة في البوذية اليابانية.
    [4]. البونز، الراهب البوذي.
    [5] تشاو تشو، بحسب مومنكان، هذا الراهب الصيني أجاب بــ"عدم" على السؤال: "هل يمكن أن يكون للكلب طبيعة بوذا؟".
    [6] جيزو، باللغة اليابانية. أي ما يعادل Ksitigarbha الهندية، Jizô هو بوديساتفا الرحمة: هو منقذ الأطفال والمخلوقات الذين يعانون من آلام الجحيم. والتماثيل الحجرية الموضوعة على طول الطرق تمثله على شكل راهب حاج، أو طفل.
    [7] من أنواع الجوارب المنقسمة عند إصبع القدم الكبيرة.
    [8] إلهة الشر في الأساطير القديمة، كانت تحمل اسم Ama nō Sagume ومن ثم أصبحت شخصية مألوفة في الفولكلور الياباني، أما نو ساغومي فترمز إلى روح التناقض. تتصدى لتصرفات الرجال وتخدعهم بتقليد أصواتهم كي تقودهم إلى الضلال.
    • المترجم: إسكندر حبش
يعمل...
X