لقد كان (بابنيانوس) في السابعة والثلاثين من عمره حين أعدم ومع ذلك فان التراث العظيم الذي تركه لـم يتركه أي فقيـه آخـــر فـــــي الامبراطورية الرومانية !!!.
وفي عهد (زنوبيا ) ملكة تدمر كان مستشارها ومعلمها ( لونجينوس الحمصي) (٢٧٣ - ٢١٤ ) م . .
وعندما خسرت المعركة أمام الامبراطور الروماني (أورليان ) ووقعت أسيرة في يده، أمر باعدام ( لونجينوس) ، ولم يجرؤ الامبراطور : النظر اليه خشية أن يحمله منظره الوقور على الصفح عنه !!! . لقد كان أثر حمص السياسي والفكري كبيرا في الامبراطورية الرومانية حتى قال الشاعر اللاتيني ( جوفنال ) سنة ( ٦٠ - ١٤٠) م "أن العاص يصب في التيبر حاملا لغته وعاداته .
كانت الوثنية، كما رأينا ، عريقة في أهالي حمص ولذلك لم تدخل المسيحية بسهولة اليها .
ودفعت أعمال العنف ضد المسيحيين الأوائل، بعض المؤمنين من المسيحيين الى مغادرة حمص والهجرة الى منطقة (كيليكيا). وكان من بين الذين هاجروا ( يوحنا السرياني) فرزقه الله ولدا اتخذ المسيحية معتقدا له حتى أصبح من الكهنة البارزين في تلك المنطقة مما دعا أحب المسيحية في روما لانتخابه ( بابا ) وبقي في منصبه ذلك من ( ١٥٥ - ١٦٦ ) م . وعرف باسم البابا انيست (anicet).
عندما بدأ المسلمون حروب التحرير في بلاد الشام استولوا على دمشق المرة الأولى ۱۹ أيلول سنة ( ٦٣٤) م . الموافق لعشرين رجب ۱۳هـ .
ثم استولى أبو عبيدة وخالد بن الوليد على حمص بعد أن حاصراهـا مـن مطلع كانون الأول ( ٦٣٥) م الى منتصف آذار ( ٦٣٦) م ، ولعل البعض يتساءل لم نستعمل كلمة ( حروب التحرير ) وجوابنا على ذلك أنه يجب أن نميز في المناطق المحررة بين السكان الأصليين وهم على الغالب الفلاحون ادة في قراهم الذين يعملون في الأرض وبين فئة الحكام وكبار القـ العسكريين ، فالاولون سريان أي عرب بالمعنى الواسع للكلمة وكانوا مضطهدين من قبل الفئة الثانية وهم روم بيزنطيون ، وقد عبر عن مشاعر الفئة الأولى من الفلاحين ميخائيل السوري بقوله "ان الله المنتقم قد أرسل الينا العرب لينقذونا من الرومان، ان كنائسنا لم ترجع الينا فق احتفظ كل بما يملك ولكن العرب حررونا من وحشية البيزنطيـ بين وحقدهم علينا" (١).
وخير دليل على ذلك، تلك المعاملة الكريمة التي عامل بهـا أبـو عبيدة أهالي حمص عندما غادر العرب المسلمون المدينة فأثناء فتـح حمـــــص جمع الجزية من السكان المحليين لقاء اعفائهم من الخدمة العسكرية ــف وحمايتهم من الاعداء، ولكن بما أن العرب سيغادرون المدينة والموق لا يسمح لهم بحماية سكانها ، فقد جمع أبو عبيدة السكان وأعاد اليهم الأموال التي أ أخذها منهم جزية وقال لهم: "نحن لسنا بقادرين على مساعدتكم والدفاع عنكم وأنتم الآن أحرار بأنفسكم" فأجابه أهل حمص ان حكمك لنا وعدالتك أعز لدينا من الظلم والقوة التي كنا نعيش وكتب أبو عبيدة الى أمراء الالوية الأخرى التي انسحب "(4) بها من قبل " منها العرب المسلمون بأن يعيدوا الى الناس الجزية التي جمعوهـا منهم، وقد تم تنفيذ ذلك من قبل كل أمير قبل تحركه للانضم الى أبي عبيدة في الجابية .
وتجمعت القوات العربية من جميع أنحاء المناطق المحررة ف الجابية جنوبي دمشق وفي الاسبوع الثالث من آب (٦٣٦ ) م = الاسبوع الثاني من رجب (١٥) هـ . حدثت معركة اليرموك الفاصلة التي دامــــــــت ستة أيام كاملة والتي فتحت أبواب الشام كلها أمام العرب، بعد أن دمرت القوات البيزنطية تدميرا كاملا .
بعد معركة اليرموك دخل خالد مدينة دمشق فاستقبله أهلوهـ سلام مرحبين وذكروه بالمعاهدة التي كان قد عقدها معهم عند است المدينة أول مرة قبل سنتين فأكد لهم خالد أنهم مازالوا تحت حمايتها . ثم اتجه أبو عبيدة وخالد لتحرير القدس فرفرف السلام على المدينة المقدسة في نيسان سنة ٦٣٧م = ربيع الأول ١٦هـ . وبقي مرفرفـا عليهـا حتى سقوطها بيد الصليبيين ( ۱۰۹۹) م. ثم انطلق أبو عبيدة وخالــــــد لتحرير شمال الشام كله وعندما وصلا حمص رحبت بعودة العرب اليهاوبدأ بذلك فصل جديد من تاريخها .
وهنا نريد أن نقف للرد على مازعمه ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان ".. من أن خالد بن الوليد مات في المدينة ودفن بها وهو الأصح .. وأن الذي يزار بحمص انما هو قبر خالد بن يزيد بن معاوية (۱) دون أن يذكر سندا لروايته تلك، ويكفي للرد عليه، أن نورد روايتين من أوثق مصادرنا التاريخية وأشهرها : الأولى للطبري في كتابه (تاريخ الرسل والملوك) والثانية لأبي الفرج الأصبهاني في كتابه (الاغاني) .
أما رواية الطبري فأوردها في سياق أحداث سنة (٢١) هـ "قــــــال الواقدي في هذه السنة يعني سنة (۲۱) مات خالد بن الوليد بحمص وأوصى الى عمر بن الخطاب (۱) . وعندما وصل نعي خالد الى المدينة أخذت نساء بنی مخزوم يبكينه فسمعهن عمر بن الخطاب "فبكي وقال لتقل نساء بني مخزوم في أبي سليمان ماشئن ، فأنهن لا يكذبن، وعلى مثل أبي سليمان تبكي البواكي، فقال له طلحة بن عبيد الله، وكان عنده: انك واياه لكما قال عبيد بن الأبرص :
لا الفينك بعد الموت تندبني وفي حياتي مازودتني زادي بالاضافة الى أن خالد بن يزيد لو كان له قبر في حمص لنبشه العباسيون وأزالوا معالمه كما فعلوا بقبور الأمويين في الشام بعد القضاء عليهم. وعلى ذلك فموت خالد بن الوليد مؤكد في حمص، وقبره هو هو في مسجده القائم فيها ، وزعم ياقوت الحموي باطل لا يؤخذ به ولایع سول عليه.
شاركت حمص في الأحداث التاريخية التي جرت في عهد الأمـ فالعباسيين ، وعندما ضعفت الدولة العباسية وبدأت تنمو في أطرافها الشرقية والغربية الدويلات المستقلة عنها أخذت حمص تنتقل من أيدي العباسيين الى أيدي الطولونيين فالاخشديين فالحمدانيين، وكان منهم بعد سيف الدولة، ابنه سعد الدولة الذي ولى احد قادته ( بكجور) سنة ٣٦٥هـ = ٩٧٥ - ٩٧٦ م. على حمص فعمرها وترك أثرا فيها هو جامع (الدمل ) الواقع بالقرب من مقام أبي الهول والمطل على شارع أبي الهول من ناحية الجنوب . وكان له مأذنة عليها كتابة كوفية تعد من النفائس ذكرهـــــا (محمد كرد علي) على النحو التالي: " ولاتزال في حمص منارة مأذنة من بناء بكجور الذي استولى على المدينة سنة ٣٦٧هـ = ۹۷۷م. وعليها (١), کتابة مفيدة في باب الهندسة العربية .
بعد الدولة الحمدانية حلت مكانها سنة ( ٤٠٦) هـ = ۱۰۱٥م ، الدولة = المرداسية نسبة لمؤسسها صالح بن مرداس أمير بني (كلاب) وحكمها منهم شبل الدولة نصر بن مرداس الذي أسكن في العام ٤٢٤ هـ ۱۰۳۲م في حصن (الصفح) قوما من الأكراد ليحرسوا الطريق بين حمص وبين طرابلس. فنسب الحصن البهم منذ ذلك الحين، حصن الأكراد ونسبت اليه القلعة التي تعلوه فقيل (قلعة الحصن ) ، وكان آخرهم في حمص وسلمية في ( ٤٧٥ ) هـ وما بعدها خلف بن ملاعب الملقب أيضـا بـ (سيف الدولة ) .
في أواسط القرن الخامس الهجري (٤٥١) هـ أي في أ أواسط القرن الحادي عشر الميلادي (۱۰۵۹) م. تعرض الشرق العربي لظهور قوة جديدة هـــــم (التركمان ) الذين قضوا على النفوذ الشيعي في بغداد ودعموا مذهب السنة ويعلل بروكلمان اعتناقهم مذهب السنة بقوله "حتى اذا اعتنق هؤلاء الاتراك الاسلام انحازوا الى السنة التي كان فحوى معتقدها الواضـ で الرصين يتلاءم وعقولهم البسيطة، فاقبلوا عليها واعتنقوها بكل ماف نفوسهم الفظة من قوة وحماسة" (٢).
بعد أن توطدت أركان دولة الترك في بغداد في عهد السلط ارطغرل اتجهوا نحو بلاد الشام فاستولوا على حلب ( ٤٦٣) هـ . وأزالوا منها الدولة المرداسية واستولوا على دمشق (٤٦٨) هـ . وخطبوا للعباسيين وأزالوا حكم الفاطميين عن داخل الشام الأسواحله .
ان اندفاع السلاجقة التركمان نحو بلاد الشام كان له نتائج كثيرة فكرية واجتماعية وسياسية فمن الناحية الفكرية كان التركمان سلاجق بغداد سنة متعصبين لسنتهم، وكانوا يعتمدون العنف والقمع والتهديد في سبيل اعادة الناس الى السنّة وترك التشيع، وقد حل التعصب محل التسامح في العصر السلجوقي واغلق باب الاجتهاد في الفكر العرب الاسلامي وران الجمود الفكري، وحل التقليد محل الابداع. ومن الناحية الاجتماعية أحدثت هجرة التركمان الى بلاد الشام، تأثيرا بشريا واجتماعيا كبيرا فقد أزالت الهجرة طبقة الارستقطراطية المحلية وأحلت محلها طبقات تركمانية جديدة كما أن الهجرة جلبت أعدادا وفيرة من التركمان ، اختلطوا بسكان البلاد المحليين في المدن أو طردوهم من أماكنهم في الريف" ( ١ ) والي هذه الحقبة من التاريخ تعود أغلب العائلات الحمصية بأصولهـ التركمانية ، بعد أن تعربت لغة .
استخلص تاج الدولة ( تتش) حمص من خلف بن ملاعب آخر الحكـــــــام المرادسيين وبقيت بيده الى أن قتل ( ٤٨٧) هـ = ١٠٩٤م. فخلفه ابنه تاج الملوك (رضوان ) في حلب وكانت حمص تابعة له. وفي سنة ( ٤٩٠) هـ عهد تاج الملوك بحمص الى أتابكـه ( جناح الدولة حسين ) الذي دفع شـــــر الصليبيين عن حمص بغرامة أداها البهم .
آلت حمص بعد ذلك الى نور الدين محمود الذي ورثها عن أبيه عماد الدين زنكي، وفي عهد نور الدين ضرب زلزال هائل بلاد الشام من أقصاها الى أقصاها فعمد نور الدين الى ترمیم واصلاح ماخربه الزلزال الكبير في حمص وفى غيرها من بلاد الشام (٥٥٢) هـ = ١١٥٧ م ومن أهم ماقام به في حمص، قبل ترميم جامعها الكبير، واعادة بنائه شراؤه النصف الشرقي من البيعة التي بقيت لأهل حمص المسيحيين منذ دخول العرب البها ، فاشتراها من المسيحيين وضمها الى المسجد وعـ وعرف منذ ذلك الوقت باسم (الجامع النوري الكبير ) .
أول من ولي حمص من السلالة الأبوبية (اسد الدين شيركوه) عــــــم صلاح الدين الأيوبي، الذي ذهب معه الى مصر وقضى على الخلافة الفاطمية هناك، وبعد وفاة أسد الدين، خلفه ابنه ناصر الدين محمد ثم نزعها منه نور الدين، وعندما استتب الأمر لصلاح الدين أعادها اليه، وبقي ناصر الدين محمد في حمص حتى وفاته ( ٥٨١ هـ = ۱۱۸۵م) فخلفه ولده (أســـــــــد الدين شيركوه ) الثاني الذي عرف بالملك المجاهد، والذي حكم حمص ستا وخمسين سنة هجرية - (٥٤) م وخلفه من بعده ابنه المنصور ابراهيم الذي توفي في دمشق ( ٦٤٥هـ = ۱۲۲۷م) ونقل الى حمص حيث دفن في جنوبها في مسجد الخضر) . وخلفه ابنه الاشرف موسى الذي توفي ( ٦٦٢ هـ ) دون عقب ودفن عند جده الملك المجاهد، وانقرض بموته بیت شیرکوه الأيوبي .
ورث المماليك حكم مصر والشام من الأيوبيين وبدأ حكمهم ( ١٢٥٠ ) م بـ (عز الدين ايبك) ، ويبدو أن شأن حمص انحط في عهدهم كثيرا، فالحروب الصليبية ثم الغزو المغولي الذي ضرب الشام في عهد تيمورلن ك) والطاعون الهائل الذي حصد سكان حمص فيما حصد من مدن الشام (٧٤٣هـ = ١٣٤٢م) وفتن الاعراب التي بدأت في تلك الحقبة والحقت أضرارا كبيرة بقرى حمص الشرقية مما أدى الى انحطاط شأن حمص فوق ماكان منحطـــا الثورات والروم والزلازل والصليبيين، فقل سكانها وخمل ذكرها "
استمر الوضع على هذا النحو حتى مجيء العثمانيين ( ١٥١٦ ) م بقيادة السلطان سليم الأول ، وقضائهم على ملك المماليك بالشام واضعافه في مصر بعد الاستيلاء عليها (١٥١٧)م.
عندما مر السلطان سليم بحمص، وهو في طريقه الى دمشق غادرها خارجا من الباب الذي عرف بعد ذلك بـ (الباب المسدود ) لانه أمر بسده، كعادة السلاطين العثمانيين، حتى لا يمر به أحد بعده وأنزل وراءه عائلات تركمانية لاتزال أغلب دورهم هناك حتى الوقت الحاضر . وكانت حمص في أول عهد العثمانيين لواء يتبع (ايالة ) طرابلس ثم تحولت في أواخر عهدهم الى قضاء يتبع لواء حماه المرتبط بـ (ايالة دمشق ) وظلت طيلة العهد العثماني مهملة يعيش سكانها حياة بسيطة متواضعة ويعانون من فتن الاعراب وتعدياتهم فتغلق أبواب الأسوار بعد الغروب ويأوي كل امرىء الى بيته لا يجرؤ على الخروج منه حتى جاء ابراهيم بن محمد علي حاكم مصر من ( ١٨٣٢ - ١٨٤٠م) فساد الههدوء وانتشر لواء الأمن في المنطقة وانتعشت قراها الشرقية، وتحسنت اقتصادياتها ومن آثار الحكم المصري في حمص (الدبويا ) ( ۳ ) التي عمرها باقتلاع الأحجار البازلتية التي كانت تستر سفوح القلعة كلها وتعمير (الدبويا ) بها وكان مكانها في موقع دار الحكومة ذات الأحجار البيضاء حاليا وبقي كذلك حتى مطلـ الخمسينات من هذا القرن .
عندما خرج المصريون ( ۱۸۴۰) م عادت حليمة الى عادتها . القديمة وعاد البدو الى الاعتداء على الأرياض الشرقية حتى أنهم كانوا يدخلون البلد من فينهبون ويقتلون ويسبون ثم ينسحبون ليعودوا مرة أخرى، ومن هنا أي المصريين يبدأ موضوع كتابنا هذا فكيف كانت حمص في ذلك الوقت ؟؟؟ .
تعليق