يمثّل الحصول على جائزة "نوبل" في أيّ حقل قمّة الإنجاز البشريّ. لكنّ السؤال الطبيعيّ الذي يلي ذلك: ماذا بعد هذه القمّة؟ لدى البعض، ومن بين هؤلاء كبار المشاهير، إنّه الجنون. أودى هذا الأمر بمسيرة أعظم المبدعين إلى نهاية سيّئة. لا يعني هذا أنّ جميع من نالوا جائزة "نوبل" واجهوا الإخفاق المهنيّ أو النفسيّ، لكنّ العيّنة التي يقدّمها الدكتور في الفيزياء توم هارتسفيلد معبّرة.
تحت عنوان "مرض نوبل: لماذا يُجنّ بعض أعظم العلماء في نهاية المطاف" كتب هارتسفيلد في موقع "بيغ ثينك":
إنّ الحصول على جائزة "نوبل" في العلوم قد يكون الإنجاز الأكثر شهرة في العالم. يصبح الحائزون على الجائزة متحدّثين باسم مجالاتهم، أو يمكنهم قيادة المعاهد أو رئاسة الوكالات الحكومية. لكن الشهرة تترافق مع سلبيات.
غالباً ما يُطلب من الفائزين بالجائزة التعليق على أشياء بعيدة جداً من نطاق خبرتهم. يمكن أن يكون هذا محفوفاً بالمخاطر، خصوصاً إذا كان الموضوع يتعلق بموضوع ذي اهتمام عام واسع، مثل السياسة أو الدين أو... الكائنات الفضائية.
على الرغم من أنه لم يكن حائزاً على جائزة نوبل، وجد ستيفن هوكينغ نفسه بانتظام في مثل هذه المواقف – وغالباً ما كان يقول أشياء غبيّة بشكل لا يصدق (يشير هارتسفيلد مثلاً إلى توقع هوكينغ أن تكون الأرض بعد 600 عام كرة نارية غير قابلة للسكن بفعل الاكتظاظ السكاني والكهرباء وقوله إنّ الذكاء الاصطناعيّ "قد يكون أسوأ حدث في تاريخ حضارتنا".
من أينشتاين إلى واينبرغ
ثمّة أيضاً مخاطر مهنية. في حين أنّ معظم العلماء الناجحين يهاجمون المشاكل التي يمكن حلّها، غالباً ما يجد الحائز على جائزة نوبل صعوبة في التركيز على أي شيء سوى أعظم التحديات الكبرى. لقد حقق ألبرت أينشتاين العديد من الاكتشافات المذهلة التي كان من الممكن أن يفوز بفضلها بأربع جوائز نوبل أخرى؛ بدلاً من ذلك، أمضى سنواته الأخيرة في مطاردة نظريّات موحّدة كبرى لكلّ شيء لا جدوى منها.
وعلى نحو مماثل، أمضى ستيفن واينبرغ، وهو عملاق آخر في هذا المجال، عقوداً من الزمن غارقاً في نظرية الأوتار ملاحقاً "النظرية النهائية" الخاصة به. وقد وصف ريتشارد هامينغ الحائز على جائزة نوبل الأمر على هذا النحو: "الآن لا يستطيع (فائز آخر) أن يعمل إلّا على حل المشاكل الكبرى".
المشكلة مع المشاكل الكبرى هي أنّها تؤدّي في كثير من الأحيان إلى إصابة الحائز على جائزة نوبل بما يسمى "مرض نوبل" الذي يصف الغطرسة والثقة غير المبرّرة بالنفس المرافقة للفوز بالجائزة.
قصّة شوكلي... من الصعود إلى الانهيار
كان ويليام شوكلي أحد مخترعي الترانزستور الحديث بحالته الصلبة في مختبرات "بيل". (لقد تأكّد من أن يعرف الجميع ذلك من خلال ادعاء الفضل في عمل مساعديه، وإقحام نفسه في صورهم الدعائية، ومحاولة استبعادهم من براءة الاختراع). ولهذا السبب، من بين اكتشافات أخرى، حصل شوكلي على حصة من جائزة نوبل سنة 1956 مع زميله جون باردين.
باردين المعروف بطبيعته المتواضعة والهادئة سئم من سلوك شوكلي وترك مختبرات بيل ليصبح أستاذاً. في هذا المنصب، ركّز على مشكلة الموصليّة الفائقة. وقد أكسبه عمله الجديد جائزة نوبل الثانية في الفيزياء. لكنّ شوكلي أصيب بمرض نوبل. أسّس أول شركة للترانزستور في ما أصبح يعرف باسم وادي السيليكون، وقد اجتذبت سمعته ومواهبه الفكرية كبار الفيزيائيين الشباب للعمل فيها. مع ذلك، أطلق الفوز بالجائزة العنان لأسوأ سمات شوكلي. تضخّم جنون العظمة لديه لدرجة أنّه أجبر موظفيه على الخضوع لأجهزة كشف الكذب. وفي ظلّ حاجته الأنانية لأن يُنظَر إليه على أنه عبقريّ عظيم، جعلهم يعملون على أفكاره الرائعة غير العمليّة وأهانهم علناً عندما فشلت هذه المهام. أخيراً، أجبرت غطرسته من أسماهم "الثمانية الخونة" من أتباعه الموهوبين على الاستقالة. أصبح هؤلاء الرجال مشهورين بعملهم الرائع: تأسيس شركة "إنتل" واختراع تكنولوجيا الرقائق الحديثة، وإنشاء دارات متكاملة.
بعد هذه الكارثة، عاد شوكلي إلى المجال الأكاديمي لكنّه ترك مجال الفيزياء تدريجياً ليغوص في أسئلة حول العرق والذكاء ممّا أدّى في النهاية إلى أن يصبح متحدّثاً عاماً باسم مجال "تحسين النسل". لقد طلّق زوجته الأولى بسبب جيناتها "المتدنّية" المزعومة التي جعلت أطفاله أقلّ ذكاء، وتبرّع بالحيوانات المنويّة لبنك خاصّ للحيوانات المنويّة حائز على الجائزة، وتم منعه من دخول الحرم الجامعيّة. بحلول وقت وفاته، كان شوكلي معروفاً على نطاق واسع بأنّه مجنون وسخر منه المراسلون.
من العلم إلى العرّافين
بريان جوزيفسون هو فيزيائيّ آخر حصد الجائزة عن العمل الفردي الذي قام به في سن 22 عاماً والذي شكّل أطروحته للدكتوراه. لم يشكك أحد في ذكاء جوزيفسون أو حكمه في متابعة أفكار جديدة. لذلك، اكتسب اهتماماً بالتأمل التجاوزيّ ممّا دفعه على ما يبدو إلى قضاء نصف قرن في دراسة ودعم التخاطر والباراسيكولوجي (علم النفس الموازي) والتحريك الذهني (psychokinesis) وغيرها من المواضيع التي يحبها أنصار "العصر الجديد".
لا يرتدع جوزيفسون بالانتقادات الساحقة من أقرانه. يواصل البحث عن العرّافين والظواهر الخارقة. وهو أيضاً مهتم بالاندماج البارد.
خزي مماثل
وجد العديد من الفائزين الآخرين بالجائزة وصمة عار مماثلة في وقت لاحق من حياتهم المهنية: أصبح جيمس واتسون الذي شارك في اكتشاف بنية الحمض النوويّ معروفاً بالعنصرية. أمضى لينوس بولينغ سنواته الأخيرة في الدفاع عن أنواع مختلفة من الطبّ البديل. لقد نظّم حملة قويّة للفكرة الزائفة المتمثلة بادّعاء أنّ فيتامين "سي" علاج لكل شيء بدءاً من الشيخوخة إلى السرطان مروراً بنزلات البرد الشائعة. وحتى يومنا هذا، يتناول كثير من الناس فيتامين "سي" بمجرّد أن يشعروا بالمرض. وأصبح لوك مونتانييه، أحد مكتشفي فيروس نقص المناعة البشريّة، مؤيّداً عامّاً لمختلف النظريّات الطبيّة الهامشيّة.
تعاطف
من السهل الاستهزاء بالحائزين على جائزة نوبل الذين استسلموا للمرض. مع ذلك، يجب أن نضع في اعتبارنا أنّ الانحراف في كثير من الأحيان يصاحب العبقريّة. عندما تضاف ضغوط الشهرة إلى هذا المزيج، يمكن أن يدفع هذا بعض هؤلاء الأشخاص الغريبين إلى حافة الهاوية. لذا، يجب أن يكون لدينا بعض التعاطف؛ بالنسبة إلى البعض، المرض هو أحد الآثار الجانبية للعظمة.