باحثة مصرية ترصد نموذج المتاهة في مسلسل "لعبة الحبار" ورواية فرنسية
نرمين ممدوح: فكرة اللعب محور جميع النصوص ما بعد الحداثية.
الخميس 2023/09/14
المسلسل عمل ينتمي إلى ما بعد الحداثة
شكلت فكرة المتاهة محورا مهما في العديد من الأعمال الأدبية والفنية عبر التاريخ، منذ أن كانت نقوشا حتى تطبيقها في الأعمال الفنية الحديثة من خلال رؤية مختلف الفنانين والمؤلفين والعلماء والمؤرخين، وقد تم استخدامها بشكل مختلف كأسطورة، وطريقة للتصور، واستعارة فلسفية للتعقيد، وطريقة للبناء السردي وهو ما تدرسه الباحثة المصرية نرمين ممدوح. وفي هذا الحوار مع “العرب” نلقي الضوء على رؤاها وأبرز النتائج التي خلصت إليها.
ترى الباحثة نرمين ممدوح أنه قد تم استخدام فكرة المتاهة في بعض الأعمال كجزء من التجربة والابتكار باعتبارهما جوهريين في لغة، أفكار، فلسفة، وحياة ما بعد الحداثة. ومن السمات المميزة لنصوص ما بعد الحداثة هي التفكيكية، التعددية، الراديكالية، النسبية، الانتقائية، التجزيئية، استبدال الواقع بالمحاكاة، والشخصية غير المنهجية، والتي تم طرحها كمحفزات أساسية إلى جانب مناقشات أخرى، ولذلك تم تضمين لغة خاصة وعلامات ثقافية ورموز في نصوص ما بعد الحداثة لمحاكاة التحول من الإيجابية واليقينية إلى الشك المعمم.
انطلاقا من هذه الرؤى كانت أطروحة نرمين ممدوح محمد صبري لنيل درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي من كلية الدراسات اللغوية بالجامعة العربية المفتوحة والتي عنونتها بـ”ألعاب متاهات ما بعد الحداثة” في رواية ‘امرأة الملازم الفرنسي'” وهي رواية خيال تاريخي تنتمي إلى أدب ما بعد الحداثة صدرت عام 1969 للكاتب جون فولز، وكانت ثالث رواية تنشر للكاتب، وقد استعانت كذلك بمسلسل “لعبة الحبار” الكوري الجنوبي، كتبه وأخرجه هوانغ دونغ هيوك.
فكرة اللعب
نرمين ممدوح: الأدب والمسلسلات يساعدان المتلقين لفهم أنفسهم وواقعهم
تقدم الأطروحة قراءة جديدة غير تقليدية من منظور ما بعد الحداثة من خلال تحليل النصين المختارين، حيث تعتمد الباحثة على كتابات بنلوبي دووب عن مفهوم المتاهة، والتي بدورها توضح تطور وظهور هذا المفهوم في الأدب بعيدا عن المفهوم الهندسي المعماري/ البصري بالإضافة إلى مفهومي جاك دريدا “اللعب” و”المعارضة الثنائية”، واللذين يندرجان تحت نظرية ما بعد الحداثة الفلسفية والتي تتبع هذه المسارات المجهولة في المتاهات لتوضيح خواء المعنى داخل هذه المتاهات والسخرية من تتبع هذه الرحلة، والتي بدورها تؤدي إلى العدم.
بداية تؤكد ممدوح أن فكرة الأطروحة هي نتاج أفكار جماعية من قبل أساتذتها بالجامعة، فعندما ذهبت بشرارة الفكرة الأولى إلى مكتب الأكاديمية داليا سعد، وعندما كانت تناقش مسلسل “لعبة الحبار” بغاية الحماسة لما يتضمنه من مشاهد كثيرة قد أذهلت عقلها آن ذاك لكونها مليئة بتحليلات ثرية لما قد تناولته دراستها خلال الماجستير، اقترحت عليها أستاذتها قراءة رواية جون فولز “امرأة الملازم الفرنسي” لكونها كانت موضوعا شيقا لبحثها في الدكتوراه ولتضمنها لفكرة الألعاب والتي هي محور الدراسة الأساسي.
بعدما قرأت الباحثة الرواية وتحدثت مع لجنة الإشراف من الأكاديميين أسامة مدني ونعم عبدالحفيظ كان هناك ذهول كبير لديهم لاتضاح اختلاف العملين منذ الوهلة الأولى، وباعتبار أن كل نص منهما يعتبر نصا ما بعد حداثي، أي أنهما يناقشان أفكارا تتعلق بفقدان المرجعية والمركزية، وبالتالي فقدان وجود نمط محدد للقصة حيث إنها تبدأ بمقدمة سردية وترتفع بالعقدة وتتلخص أخيرا في نهاية محددة، فقد رفض هذان النصان الانصياع إلى النمط التقليدي المحدد للقصة، وقد أثبتا أنه لا توجد نهاية حقيقية بل إن البحث عن النهاية يكون دائما هو الفخ وأن الرضا بالنهايات ما هو إلا استسلام لطريقة رتيبة في التفكير، وعلى النقيض فإن تعددية النهايات هو ما يجعل هذه الأعمال ثرية، فمع كل قراءة جديدة يتضح معنى جديد ومثير لم يكن يتجلى من ذي قبل للقارئ.
وتوضح “اتبعت الدراسة أسلوب المقارنة ما بين نص مقروء ونص مرئي انطلاقا من كون نظام أدب المقارنة الحديث يتخطى مقارنة النصوص المتشابهة ويتسع بالمقارنة ليشمل العديد من الأشياء المختلفة، فيمكن مقارنة لوحة فنية بنص أدبي كرواية، أو مسرحية، أو قصيدة، وقد يبدو الأمر للوهلة الأولى مختلفا تماما لكن بالتحليل فيما بعد يتضح أن ثمة تشابها إلى حد كبير، وقد اعتمدت الرسالة استخدام نظرية المتاهة بأشكالها التي تم وصفها من قبل الناقدة بنلوبي دووب في كتابها ‘فكرة المتاهة’ على أنها نموذج قوي للصعوبة المعرفية، فالحيرة وعدم وجود وجهة واضحة هي ما تنص عليه نصوص أدب ما بعد الحداثة، وغياب الهدف أصبح هو السائد في هذه النصوص”.
الدراسة اتبعت أسلوب المقارنة ما بين نص مقروء ونص مرئي انطلاقا من كون نظام أدب المقارنة الحديث يتخطى مقارنة النصوص المتشابهة
وتضيف “مع تطبيق هذه النظرية على كلا النصين المشار إليهما، اتضح أنهما يعتمدان على مفهوم المتاهة على الرغم من اختلاف الشكل في كليهما، ولكن الفكرة القابعة في أصل كل هذا هي فكرة التجريبية واستخدام أساليب جديدة يحاول الكتاب من خلالها الوصول إلى طرق جديدة لخلق نصوص حداثية تلائم الواقع المتشابك الذي نعيشه في هذه الأيام. ولهذا فإن الرسالة بدأت بتطبيق مفهوم جين ماكوجينجال والذي درسه في كتابه ‘الواقع المكسور’ حول مفهوم اللعب وخلق الألعاب، ونصت نظريته على أن هناك أربع خصائص تتميز بها جميع الألعاب مع اختلاف التكنولوجيا والتقنيات التي تتبناها هذه الألعاب ونصت هذه الخصائص على وجود: أولا الهدف أو الأهداف. ثانيا القواعد التي يستخدمها اللاعبون للوصول إلى هذا الهدف أو الأهداف. ثالثا نظام التغذية الراجعة. رابعا المشاركة الطوعية”.
وتقول ممدوح “بناء على هذه الخصائص التي هي في الأصل تنطبق على المتاهات كونها، كما قالت بنلوبي دووب، شكلا من أشكال الألعاب جعلها بالضرورة قابلة للتطبيق على النصين المختارين. وقد ناقشت الرسالة أيضا مفاهيم مختلفة تندرج تحت روايات ما بعد الحداثة كفكرة اللعب والتي هي محور جميع النصوص ما بعد الحداثية، حيث تهدف إلى استخدام أنواع مختلفة من الألعاب البصرية واللغوية كي تخلق تأثيرا هائلا على اللاعبين والمشاهدين أو القارئين أثناء تجربتهم الفعلية للخوض في غمار هذه الألعاب”.
وتتابع “يشكل الأدب والمسلسلات بهذه النظرة عالما آخر قد يساعد المشاهدين على فهم أنفسهم وواقعهم بشكل أفضل من خلال استخدام العديد من التقنيات في أدب ما بعد الحداثة كعدمية النهايات، وتعددية الرؤية، والحيرة الناتجة عن التفنن في خلق نسخ مشابهة للواقع والتي بدورها تكسر البعد الرابع، مما يعطي انطباعا بالارتباك العام لعدم وجود فروق حقيقية بين ما هو واقع وما هو خيال”.
نموذج المتاهة
مسلسل لعبة الحبار يحاول انتقاد فكرة الرأسمالية وما تفعله للبشر من تحويلهم إلى حيوانات مجردة من الأخلاق والمشاعر في بحثهم عن ما هو أفضل لهم أثناء صراعهم للبقاء
وتوضح الباحثة أن أحداث الرواية تدور حول عالم يدعى تشارلز نسبة إلى تشارلز داروين وفسخه لخطوبته من امراة تقليدية وهي إرنستينا فريمان لمحاولته البحث عن أسرار وأغوار شخصية سارة وودرف التي كانت تعتبر لغزا كبيرا لعالم مثله جعله عاجزا تماما عن مقاومة فضوله، وبات واقعا في حبها من النظرة الأولى، في حين تقف هي منتظرة حبيبها الفرنسي والذي تبين فيما بعد أنه كان محض خيالها الذي جعلها تخلق صورة غير صحيحة عنها في المجتمع كطريقة للتحرر من كل هذه المفاهيم التي لا تجد سارة نفسها فيها.
ويعتبر صوت الراوي في هذه الرواية أحد أهم الأصوات التي تمارس الخداع والتلاعب بالقارئ على الدوام، فحينا يسخر من شخصياته ويدعي أنه يفقد السيطرة عليها وحينا يظهر مجسدا في شخصية في نهاية الرواية، وهو شيء غير طبيعي بالنسبة إلى الراوي فهو في أغلب الروايات التقليدية لا يظهر بشكل واضح كما كان موضحا في هذه الرواية، وهو ما جعل هذا النص غريبا وغير مألوف. بالإضافة إلى هذا فإنه مع بداية كل فصل من الرواية يبدأ الكاتب بوضع مصدر خارجي ثم يستمر في سرد قصته داخل أغوار هذه المتاهة، ومن المثير للأهتمام أنه في الفصل الأول قد وضع قصيدة بعنوان المتاهة كي يستدل القارئ بها على أن هذا النص ليس نصا عاديا، وإنما متاهة فكرية تأخذه إلى أبعاد كثيرة إذا قرر حقا متابعة هذه اللعبة.
المتاهة تشكل نموذجا لتصوير واقع ما بعد الحداثة حيث تجسد العديد من إمكانيات الفهم البنيوي والفلسفي
وتتابع الباحثة “على الجانب الآخر فإن مسلسل لعبة الحبار، وهو مسلسل كوري حديث يحاول انتقاد فكرة الرأسمالية وما تفعله للبشر من تحويلهم إلى حيوانات مجردة من الأخلاق والمشاعر في بحثهم عن ما هو أفضل لهم أثناء صراعهم للبقاء. فكأن هذه التراتبية قد جاءت كي تحاول تسليط الضوء مجددا على فكرة التلاعب والخداع الذي يمارس على كل من المشاهدين واللاعبين في داخل المسلسل. فكما تبين للمشاهدين أن اللاعب رقم 1 والذي يدعى “أو إل نام” قد توفي في الحلقة السادسة يظهر في الحلقة الأخيرة ليتبين أنه هو صاحب فكرة هذه الألعاب وهو المنظم المسؤول عن جمع هؤلاء الناس أصحاب القروض والديون والتي تتلون حياتهم بالمعاناة على جزيرة نائية في مكان مجهول ليمنحهم فرصة وهمية كي يصعدوا بأنفسهم في هذه التراتبية عن طريق ربح مبلغ كبير من المال في حال تجاوزهم للألعاب الست المنصوص عليها.
وعندما يربح بطل القصة اللاعب 456 هذا القدر الكبير من المال، بينما يعيش حياته في فقر مدقع، وعندما يتجاوز العام دون المساس بهذا المال يصاب بنوع من الصدمة تجعله عاجزا عن الاستمتاع بهذا المال حتى بعد وصوله إليه، حيث إن هذا المال بالنسبة إليه يمثل فقدان 455 لاعبا، وأنه هو الناجي الوحيد في هذا الصراع، والأمر الذي يجعله يتحول إلى فيلسوف وجودي نتيجة الفظاعات التي عاشها.
ولهذا فإن كلا النصين قاما بتطبيق نظرية اللعب والتي قدمها الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا حول ماهية اللغة بشكل عام.. فقد جسد أن اللغة ما هي إلا “اللعب بين ما هو موجود وغير موجود” وفي هذا التعريف وجود لمنطقة وسطية لا تلغي أي تعريف لأي شيء، ومع ذلك لا تضع المتضادات بشكل متضاد وكأن ما هو موجود بالضرورة أفضل مما هو غائب. ولكنها تقول بأنه ضمن نظام المحدودية اللغوية فإننا ما زلنا نحاول استخدام اللغة المحدودة للدلالة على غياب أي نظام. ومع هذا التعريف يبرز الهدف وراء هذه الألعاب وهو غياب المعنى والهلامية التي تجسدها نصوص ما بعد الحداثة.
الأطروحة خلصت إلى إيضاح أن نموذج المتاهة يشكل نموذجا لتصوير واقع ما بعد الحداثة، حيث إنه يجسد العديد من إمكانيات الفهم البنيوي والفلسفي
وتكشف الباحثة أن من خلال تناول هذه النظريات وبالأخص نظرية التناص فقد ساهمت جوليا كريستيفا بتقديم تعريف لهذه النظرية عبر تقصيها لفكرة الأصولية، ومن خلال بحثها قد أستعانت بنظرية ميخائيل باختين والتي تنص على أن جميع النصوص تتحدث لبعضها البعض، وكأنها في محادثة مستمرة مفتوحة ومتجددة مما يعني أنه لا يوجد فعليا أي نص فريد من نوعه، وإنما هي نصوص مختلطة وأفكار مستعارة تتحدث لبعضها البعض وكأنها أشخاص.
وقد تبين هذا في كلا العملين، حيث تم استخدام نصوص خارجية كالقصائد والملفات الرسمية والعديد من المصادر لتقديم كل فصل في الرواية إشارة إلى وجود عوالم أخرى خارج هذا النص، وعلى الجانب الآخر تم استخدام لوحات فنية في مسلسل لعبة الحبار لدمج الفن القديم مع الحديث، وكأنه باستخدام أعمال تقليدية ودمجها مع ما هو شائع، إضافة جديدة لوجهات جديدة تجعلنا نفتح مداركنا لنرى أن العالم ما هو إلا انعكاس لهذا الخليط الممتزج ما بين الحاضر والماضي، الصواب والخطأ، الحقيقة والزيف، وفي جمع هذه المتناقضات معا ينتج فهم أكبر وصورة تحمل العديد من الأبعاد بدلا من الرتابة التقليدية التي تنظر بنظرة واحدة لأصل كل شيء.
وتشير ممدوح إلى أن أطروحتها خلصت إلى إيضاح أن نموذج المتاهة يشكل نموذجا لتصوير واقع ما بعد الحداثة، حيث إنه يجسد العديد من إمكانيات الفهم البنيوي والفلسفي. وقد ساعد في الوصول إلى هذه النتائج تحليل هذين النصين باعتبارهما يتصفان بخصائص ما بعد الحداثة والتي جاء على ذكرها بيتر باري في كتابه “نظريات البداية” .. وقد ساعد هذا كلا من المشاركين في هذه الألعاب (النصوص) على الوعي بوجود نماذج مختلفة لتفسير الواقع دون محاولة تفضيل أحد هذه النماذج أو انتقادها على حساب الآخر، ولكن الهدف يخلص إلى رؤيتها جميعا كمحاولات لمحاكاة لغة ما بعد الحداثة، الواقع الحداثي، والحياة في أصلها ككل. وقد خلصت النتائج أيضا إلى إمكانية تقصي “نظرية الجذمور” والتي تمت مناقشتها من قبل الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز كنموذج يستطيع من خلاله الباحثون في المستقبل تقصي المزيد من النماذج المعقدة، والتي تجمع المتناقضات وتجسد رؤية مختلفة للأعمال الأدبية بوصفها نماذج مغايرة تبحث عن إمكانية وجود بناء جديد للغة وللأدب ككل.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
نرمين ممدوح: فكرة اللعب محور جميع النصوص ما بعد الحداثية.
الخميس 2023/09/14
المسلسل عمل ينتمي إلى ما بعد الحداثة
شكلت فكرة المتاهة محورا مهما في العديد من الأعمال الأدبية والفنية عبر التاريخ، منذ أن كانت نقوشا حتى تطبيقها في الأعمال الفنية الحديثة من خلال رؤية مختلف الفنانين والمؤلفين والعلماء والمؤرخين، وقد تم استخدامها بشكل مختلف كأسطورة، وطريقة للتصور، واستعارة فلسفية للتعقيد، وطريقة للبناء السردي وهو ما تدرسه الباحثة المصرية نرمين ممدوح. وفي هذا الحوار مع “العرب” نلقي الضوء على رؤاها وأبرز النتائج التي خلصت إليها.
ترى الباحثة نرمين ممدوح أنه قد تم استخدام فكرة المتاهة في بعض الأعمال كجزء من التجربة والابتكار باعتبارهما جوهريين في لغة، أفكار، فلسفة، وحياة ما بعد الحداثة. ومن السمات المميزة لنصوص ما بعد الحداثة هي التفكيكية، التعددية، الراديكالية، النسبية، الانتقائية، التجزيئية، استبدال الواقع بالمحاكاة، والشخصية غير المنهجية، والتي تم طرحها كمحفزات أساسية إلى جانب مناقشات أخرى، ولذلك تم تضمين لغة خاصة وعلامات ثقافية ورموز في نصوص ما بعد الحداثة لمحاكاة التحول من الإيجابية واليقينية إلى الشك المعمم.
انطلاقا من هذه الرؤى كانت أطروحة نرمين ممدوح محمد صبري لنيل درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي من كلية الدراسات اللغوية بالجامعة العربية المفتوحة والتي عنونتها بـ”ألعاب متاهات ما بعد الحداثة” في رواية ‘امرأة الملازم الفرنسي'” وهي رواية خيال تاريخي تنتمي إلى أدب ما بعد الحداثة صدرت عام 1969 للكاتب جون فولز، وكانت ثالث رواية تنشر للكاتب، وقد استعانت كذلك بمسلسل “لعبة الحبار” الكوري الجنوبي، كتبه وأخرجه هوانغ دونغ هيوك.
فكرة اللعب
نرمين ممدوح: الأدب والمسلسلات يساعدان المتلقين لفهم أنفسهم وواقعهم
تقدم الأطروحة قراءة جديدة غير تقليدية من منظور ما بعد الحداثة من خلال تحليل النصين المختارين، حيث تعتمد الباحثة على كتابات بنلوبي دووب عن مفهوم المتاهة، والتي بدورها توضح تطور وظهور هذا المفهوم في الأدب بعيدا عن المفهوم الهندسي المعماري/ البصري بالإضافة إلى مفهومي جاك دريدا “اللعب” و”المعارضة الثنائية”، واللذين يندرجان تحت نظرية ما بعد الحداثة الفلسفية والتي تتبع هذه المسارات المجهولة في المتاهات لتوضيح خواء المعنى داخل هذه المتاهات والسخرية من تتبع هذه الرحلة، والتي بدورها تؤدي إلى العدم.
بداية تؤكد ممدوح أن فكرة الأطروحة هي نتاج أفكار جماعية من قبل أساتذتها بالجامعة، فعندما ذهبت بشرارة الفكرة الأولى إلى مكتب الأكاديمية داليا سعد، وعندما كانت تناقش مسلسل “لعبة الحبار” بغاية الحماسة لما يتضمنه من مشاهد كثيرة قد أذهلت عقلها آن ذاك لكونها مليئة بتحليلات ثرية لما قد تناولته دراستها خلال الماجستير، اقترحت عليها أستاذتها قراءة رواية جون فولز “امرأة الملازم الفرنسي” لكونها كانت موضوعا شيقا لبحثها في الدكتوراه ولتضمنها لفكرة الألعاب والتي هي محور الدراسة الأساسي.
بعدما قرأت الباحثة الرواية وتحدثت مع لجنة الإشراف من الأكاديميين أسامة مدني ونعم عبدالحفيظ كان هناك ذهول كبير لديهم لاتضاح اختلاف العملين منذ الوهلة الأولى، وباعتبار أن كل نص منهما يعتبر نصا ما بعد حداثي، أي أنهما يناقشان أفكارا تتعلق بفقدان المرجعية والمركزية، وبالتالي فقدان وجود نمط محدد للقصة حيث إنها تبدأ بمقدمة سردية وترتفع بالعقدة وتتلخص أخيرا في نهاية محددة، فقد رفض هذان النصان الانصياع إلى النمط التقليدي المحدد للقصة، وقد أثبتا أنه لا توجد نهاية حقيقية بل إن البحث عن النهاية يكون دائما هو الفخ وأن الرضا بالنهايات ما هو إلا استسلام لطريقة رتيبة في التفكير، وعلى النقيض فإن تعددية النهايات هو ما يجعل هذه الأعمال ثرية، فمع كل قراءة جديدة يتضح معنى جديد ومثير لم يكن يتجلى من ذي قبل للقارئ.
وتوضح “اتبعت الدراسة أسلوب المقارنة ما بين نص مقروء ونص مرئي انطلاقا من كون نظام أدب المقارنة الحديث يتخطى مقارنة النصوص المتشابهة ويتسع بالمقارنة ليشمل العديد من الأشياء المختلفة، فيمكن مقارنة لوحة فنية بنص أدبي كرواية، أو مسرحية، أو قصيدة، وقد يبدو الأمر للوهلة الأولى مختلفا تماما لكن بالتحليل فيما بعد يتضح أن ثمة تشابها إلى حد كبير، وقد اعتمدت الرسالة استخدام نظرية المتاهة بأشكالها التي تم وصفها من قبل الناقدة بنلوبي دووب في كتابها ‘فكرة المتاهة’ على أنها نموذج قوي للصعوبة المعرفية، فالحيرة وعدم وجود وجهة واضحة هي ما تنص عليه نصوص أدب ما بعد الحداثة، وغياب الهدف أصبح هو السائد في هذه النصوص”.
الدراسة اتبعت أسلوب المقارنة ما بين نص مقروء ونص مرئي انطلاقا من كون نظام أدب المقارنة الحديث يتخطى مقارنة النصوص المتشابهة
وتضيف “مع تطبيق هذه النظرية على كلا النصين المشار إليهما، اتضح أنهما يعتمدان على مفهوم المتاهة على الرغم من اختلاف الشكل في كليهما، ولكن الفكرة القابعة في أصل كل هذا هي فكرة التجريبية واستخدام أساليب جديدة يحاول الكتاب من خلالها الوصول إلى طرق جديدة لخلق نصوص حداثية تلائم الواقع المتشابك الذي نعيشه في هذه الأيام. ولهذا فإن الرسالة بدأت بتطبيق مفهوم جين ماكوجينجال والذي درسه في كتابه ‘الواقع المكسور’ حول مفهوم اللعب وخلق الألعاب، ونصت نظريته على أن هناك أربع خصائص تتميز بها جميع الألعاب مع اختلاف التكنولوجيا والتقنيات التي تتبناها هذه الألعاب ونصت هذه الخصائص على وجود: أولا الهدف أو الأهداف. ثانيا القواعد التي يستخدمها اللاعبون للوصول إلى هذا الهدف أو الأهداف. ثالثا نظام التغذية الراجعة. رابعا المشاركة الطوعية”.
وتقول ممدوح “بناء على هذه الخصائص التي هي في الأصل تنطبق على المتاهات كونها، كما قالت بنلوبي دووب، شكلا من أشكال الألعاب جعلها بالضرورة قابلة للتطبيق على النصين المختارين. وقد ناقشت الرسالة أيضا مفاهيم مختلفة تندرج تحت روايات ما بعد الحداثة كفكرة اللعب والتي هي محور جميع النصوص ما بعد الحداثية، حيث تهدف إلى استخدام أنواع مختلفة من الألعاب البصرية واللغوية كي تخلق تأثيرا هائلا على اللاعبين والمشاهدين أو القارئين أثناء تجربتهم الفعلية للخوض في غمار هذه الألعاب”.
وتتابع “يشكل الأدب والمسلسلات بهذه النظرة عالما آخر قد يساعد المشاهدين على فهم أنفسهم وواقعهم بشكل أفضل من خلال استخدام العديد من التقنيات في أدب ما بعد الحداثة كعدمية النهايات، وتعددية الرؤية، والحيرة الناتجة عن التفنن في خلق نسخ مشابهة للواقع والتي بدورها تكسر البعد الرابع، مما يعطي انطباعا بالارتباك العام لعدم وجود فروق حقيقية بين ما هو واقع وما هو خيال”.
نموذج المتاهة
مسلسل لعبة الحبار يحاول انتقاد فكرة الرأسمالية وما تفعله للبشر من تحويلهم إلى حيوانات مجردة من الأخلاق والمشاعر في بحثهم عن ما هو أفضل لهم أثناء صراعهم للبقاء
وتوضح الباحثة أن أحداث الرواية تدور حول عالم يدعى تشارلز نسبة إلى تشارلز داروين وفسخه لخطوبته من امراة تقليدية وهي إرنستينا فريمان لمحاولته البحث عن أسرار وأغوار شخصية سارة وودرف التي كانت تعتبر لغزا كبيرا لعالم مثله جعله عاجزا تماما عن مقاومة فضوله، وبات واقعا في حبها من النظرة الأولى، في حين تقف هي منتظرة حبيبها الفرنسي والذي تبين فيما بعد أنه كان محض خيالها الذي جعلها تخلق صورة غير صحيحة عنها في المجتمع كطريقة للتحرر من كل هذه المفاهيم التي لا تجد سارة نفسها فيها.
ويعتبر صوت الراوي في هذه الرواية أحد أهم الأصوات التي تمارس الخداع والتلاعب بالقارئ على الدوام، فحينا يسخر من شخصياته ويدعي أنه يفقد السيطرة عليها وحينا يظهر مجسدا في شخصية في نهاية الرواية، وهو شيء غير طبيعي بالنسبة إلى الراوي فهو في أغلب الروايات التقليدية لا يظهر بشكل واضح كما كان موضحا في هذه الرواية، وهو ما جعل هذا النص غريبا وغير مألوف. بالإضافة إلى هذا فإنه مع بداية كل فصل من الرواية يبدأ الكاتب بوضع مصدر خارجي ثم يستمر في سرد قصته داخل أغوار هذه المتاهة، ومن المثير للأهتمام أنه في الفصل الأول قد وضع قصيدة بعنوان المتاهة كي يستدل القارئ بها على أن هذا النص ليس نصا عاديا، وإنما متاهة فكرية تأخذه إلى أبعاد كثيرة إذا قرر حقا متابعة هذه اللعبة.
المتاهة تشكل نموذجا لتصوير واقع ما بعد الحداثة حيث تجسد العديد من إمكانيات الفهم البنيوي والفلسفي
وتتابع الباحثة “على الجانب الآخر فإن مسلسل لعبة الحبار، وهو مسلسل كوري حديث يحاول انتقاد فكرة الرأسمالية وما تفعله للبشر من تحويلهم إلى حيوانات مجردة من الأخلاق والمشاعر في بحثهم عن ما هو أفضل لهم أثناء صراعهم للبقاء. فكأن هذه التراتبية قد جاءت كي تحاول تسليط الضوء مجددا على فكرة التلاعب والخداع الذي يمارس على كل من المشاهدين واللاعبين في داخل المسلسل. فكما تبين للمشاهدين أن اللاعب رقم 1 والذي يدعى “أو إل نام” قد توفي في الحلقة السادسة يظهر في الحلقة الأخيرة ليتبين أنه هو صاحب فكرة هذه الألعاب وهو المنظم المسؤول عن جمع هؤلاء الناس أصحاب القروض والديون والتي تتلون حياتهم بالمعاناة على جزيرة نائية في مكان مجهول ليمنحهم فرصة وهمية كي يصعدوا بأنفسهم في هذه التراتبية عن طريق ربح مبلغ كبير من المال في حال تجاوزهم للألعاب الست المنصوص عليها.
وعندما يربح بطل القصة اللاعب 456 هذا القدر الكبير من المال، بينما يعيش حياته في فقر مدقع، وعندما يتجاوز العام دون المساس بهذا المال يصاب بنوع من الصدمة تجعله عاجزا عن الاستمتاع بهذا المال حتى بعد وصوله إليه، حيث إن هذا المال بالنسبة إليه يمثل فقدان 455 لاعبا، وأنه هو الناجي الوحيد في هذا الصراع، والأمر الذي يجعله يتحول إلى فيلسوف وجودي نتيجة الفظاعات التي عاشها.
ولهذا فإن كلا النصين قاما بتطبيق نظرية اللعب والتي قدمها الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا حول ماهية اللغة بشكل عام.. فقد جسد أن اللغة ما هي إلا “اللعب بين ما هو موجود وغير موجود” وفي هذا التعريف وجود لمنطقة وسطية لا تلغي أي تعريف لأي شيء، ومع ذلك لا تضع المتضادات بشكل متضاد وكأن ما هو موجود بالضرورة أفضل مما هو غائب. ولكنها تقول بأنه ضمن نظام المحدودية اللغوية فإننا ما زلنا نحاول استخدام اللغة المحدودة للدلالة على غياب أي نظام. ومع هذا التعريف يبرز الهدف وراء هذه الألعاب وهو غياب المعنى والهلامية التي تجسدها نصوص ما بعد الحداثة.
الأطروحة خلصت إلى إيضاح أن نموذج المتاهة يشكل نموذجا لتصوير واقع ما بعد الحداثة، حيث إنه يجسد العديد من إمكانيات الفهم البنيوي والفلسفي
وتكشف الباحثة أن من خلال تناول هذه النظريات وبالأخص نظرية التناص فقد ساهمت جوليا كريستيفا بتقديم تعريف لهذه النظرية عبر تقصيها لفكرة الأصولية، ومن خلال بحثها قد أستعانت بنظرية ميخائيل باختين والتي تنص على أن جميع النصوص تتحدث لبعضها البعض، وكأنها في محادثة مستمرة مفتوحة ومتجددة مما يعني أنه لا يوجد فعليا أي نص فريد من نوعه، وإنما هي نصوص مختلطة وأفكار مستعارة تتحدث لبعضها البعض وكأنها أشخاص.
وقد تبين هذا في كلا العملين، حيث تم استخدام نصوص خارجية كالقصائد والملفات الرسمية والعديد من المصادر لتقديم كل فصل في الرواية إشارة إلى وجود عوالم أخرى خارج هذا النص، وعلى الجانب الآخر تم استخدام لوحات فنية في مسلسل لعبة الحبار لدمج الفن القديم مع الحديث، وكأنه باستخدام أعمال تقليدية ودمجها مع ما هو شائع، إضافة جديدة لوجهات جديدة تجعلنا نفتح مداركنا لنرى أن العالم ما هو إلا انعكاس لهذا الخليط الممتزج ما بين الحاضر والماضي، الصواب والخطأ، الحقيقة والزيف، وفي جمع هذه المتناقضات معا ينتج فهم أكبر وصورة تحمل العديد من الأبعاد بدلا من الرتابة التقليدية التي تنظر بنظرة واحدة لأصل كل شيء.
وتشير ممدوح إلى أن أطروحتها خلصت إلى إيضاح أن نموذج المتاهة يشكل نموذجا لتصوير واقع ما بعد الحداثة، حيث إنه يجسد العديد من إمكانيات الفهم البنيوي والفلسفي. وقد ساعد في الوصول إلى هذه النتائج تحليل هذين النصين باعتبارهما يتصفان بخصائص ما بعد الحداثة والتي جاء على ذكرها بيتر باري في كتابه “نظريات البداية” .. وقد ساعد هذا كلا من المشاركين في هذه الألعاب (النصوص) على الوعي بوجود نماذج مختلفة لتفسير الواقع دون محاولة تفضيل أحد هذه النماذج أو انتقادها على حساب الآخر، ولكن الهدف يخلص إلى رؤيتها جميعا كمحاولات لمحاكاة لغة ما بعد الحداثة، الواقع الحداثي، والحياة في أصلها ككل. وقد خلصت النتائج أيضا إلى إمكانية تقصي “نظرية الجذمور” والتي تمت مناقشتها من قبل الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز كنموذج يستطيع من خلاله الباحثون في المستقبل تقصي المزيد من النماذج المعقدة، والتي تجمع المتناقضات وتجسد رؤية مختلفة للأعمال الأدبية بوصفها نماذج مغايرة تبحث عن إمكانية وجود بناء جديد للغة وللأدب ككل.
ShareWhatsAppTwitterFacebook