بحث أنثروبولوجي يرصد تحولات وتقلبات أشهر العواصم العربية
الكتاب عمل موسوعي يمثل سيرة اجتماعية لمدينة عربية نهضت من كبوات الحربين نابضة بحيوات رجالاتها ويوميات عائلاتها.
الاثنين 2023/09/11
ShareWhatsAppTwitterFacebook
استعادة المدينة المتقلبة (لوحة للفنان توم يونغ)
بيروت - وقّع الباحث والمؤلف نادر سراج مؤخرا كتابه “بيروت جدل الهوية والحداثة” خلال ندوة أقيمت في مكتبة برزخ في الحمرا ببيروت، بمشاركة عدد من الأكاديميين وجمع من المهتمين بالتاريخ الاجتماعي للعاصمة اللبنانية.
افتتحت الندوة بكلمة أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأميركية ساري حنفي الذي عرف بالمؤلف وبمنجزه العلمي اللساني والأنثروبولوجي، وأشار إلى أن الكتاب يستكمل مشروعا معرفيا راميا إلى رأب القطيعة بين التاريخ والعلوم الاجتماعية، استهله سراج (2013) بكتاب “أفندي الغلغول: تحولات بيروت خلال قرن 1854 – 1940″، ولاحظ أنه اعتمد فيهما نهج الدراسات البينية في العلوم الإنسانية.
وشرح سراج كيف يتآزر الدرس الأنثروبولوجي والمخيال المديني واللغة المحللة والشارحة مع الماضي المشترك لبيروت لتجسيد قيم المجتمع وتظهير مفاهيم الهوية والكينونة والانتماء عند الناس. فتفتّحات الحداثة النفعية وتأثيراتها لا تعدو أن تكون عملية إنسانية تساوق حياة الإنسان وتستجيب لمصالحه.
لتجسيد قيم المجتمع وتظهير مفاهيم الهوية والكينونة والانتماء عند الناس
والكتاب، كما قال، سيرة اجتماعية لمدينة عربية ناهضة من كبوات الحربين، نابضة بحيوات رجالاتها ويوميات عائلاتها. نهلت من حضارة بني عثمان، وتلقفت نسائم الحداثة الغربية الفرنسية التي بدلت فيها أدوارا وطورت أنماط عيش. تبلورت بناها الإدارية والتربوية (الصنائع والمقاصد والليسيه والعاملية)، والاقتصادية وتطورت الأشكال السلوكية لأهلها. مما أحدث فوارق بيّنة الملامح في منظومات التعبير والثقافة والاجتماع والاقتصاد والعمران.
من جهتها لفتت أستاذة التاريخ العربي الوسيط في الجامعة اللبنانية جوليات الراسي إلى “ريادة هذا العمل الموسوعي القيم ونجاح المؤلف في توظيف المنهج البيني الرائد في بحثه”، ورأت فيه “تاريخا شاملا متكاملا” وعدة كتب في كتاب واحد جاء نتيجة بحث مضن، فتمثلت النتيجة بعمل رائد لم يسبق أن كتب مؤلف عن “أم الشرائع” يضاهيه أو يشبهه لتاريخه.
واستهل الأستاذ المحاضر في الجامعة اللبنانية محمد ناصرالدين مداخلته بعتبة شاعرية. واعتبر أن إعادة الثقة والحب إلى بيروت هما محطتا ثناء استحقهما المؤلف. وتمنى عليه جمع مصطلحات “كتاب العمر” التي تصف المدينة وروحها وحداثتها في معجم مديني.
وختاما فتح باب النقاش ورد سراج على أسئلة الحضور ملخصا ملامح العيش المتغير في بيروت ما بين الحربين. فقد ارتقت البلاد بالصنائع والفنون والعلوم وتعززت آدابا رفيعة غيرت النفوس، واعتمدت مبتكرات حديثة قلبت أدوارا ويسرت خدمات. ترسخت الهوية الوطنية وبدأت الفورة الاقتصادية (نهضة مدرسة الصنائع واستضافتها أول مؤتمر للحرير 1930 وصدور تقرير التطور الاقتصادي في لبنان 1948).
وبين أنه “اجتهد لدراسة مسار الحداثة إنسانيا، ولفتح كوى معرفية للقراء كي يتبينوا اللامدرك من السرديات الصغرى للعيش المتغير في بيروت ما بين الحربين. توالت الأيام والعهود على الناس وعانوا ويلات الحرب، لكن أيامهم الزاهية داخلتها السراء والضراء، فارتقت بالصنائع والفنون والعلوم، وعززت آدابا رفيعة غيرت النفوس، واعتمدت مبتكرات حديثة قلبت أدوارا ويسرت خدمات. فصلناها ودرسنا تجليات الثقافة وعاينا انبلاج اللغة وردينا الاعتبار إلى الهوامش ووصلنا حلقات مفتقدة في التاريخ الاجتماعي للمدينة”.
وتابع “استنطقنا أبطال الحكاية، فرووا مسارات المجتمع ومخاض ترسّخ الهُويّة الوطنيّة وبداية الفورة الاقتصادية (نهضة مدرسة الصنائع واستضافتها أول مؤتمر للحرير 1930 وصدور تقرير ‘التطور الاقتصادي في لبنان’ 1948). حقيقٌ أن المظهر العلميّ الآليّ في الإنسانيّة عبقريّة بديعة مدهشة، كما تتبصّر ميّ زيادة، لكن الإنسان الذي تستهدفه مستحدثات العلم الماديّ وتيسّر سبل عيشه، متعيّن داخل الموطن والمكان، وداخل الثقافة والحضارة، وفي الزمان”.
ووضح سراج “أظهرنا أن المدن معمورة بأناسها ومجبولة بقصص قاطنيها ومسكونة بأخبارهم وعابقة بذكرياتهم، قبل أن تكون مجرد مساحة مبنية”. وفي تصديره للكتاب يدرج المستعرب الفرنسي فرانك مرميه ملحوظة تتناول “صدوره في هذه الفترة التي تلي انفجار المرفأ في الرابع من أغسطس 2021؛ فإذا كانت الأنقاض قد أزيلت وبعض الأبنية قد أعيد إعمارها، فإن آثار الصدمة الجسدية والنفسية ما تزال حية”.
وهذا البحث له أهمية كبيرة في تاريخ المدن في العالم العربي في الحد من التصدعات المتعددة التي يعانيها مخيال سكان المدينة، فعندما يعيد سراج بناء هذا الماضي المشترك بهذه الطريقة فإنه يشيد من أجل سكان بيروت مكانا للذكرى الإنسانية التي تلامس وجدانهم.
ويعتبر مرميه أن الكتاب بمثابة التذكر والاعتبار لعيش الحاضر واستشراف مآلات المستقبل، بالمعنى العرفاني، إذ يكشف صفحات مطوية وأوراقا منسية من تاريخ المدينة وأهلها، مبينا أن سردياتنا الصغرى هي مرآة عاكسة لسرديات كبرى منطوية بين دفتيه.
الكتاب عمل موسوعي يمثل سيرة اجتماعية لمدينة عربية نهضت من كبوات الحربين نابضة بحيوات رجالاتها ويوميات عائلاتها.
الاثنين 2023/09/11
ShareWhatsAppTwitterFacebook
استعادة المدينة المتقلبة (لوحة للفنان توم يونغ)
بيروت - وقّع الباحث والمؤلف نادر سراج مؤخرا كتابه “بيروت جدل الهوية والحداثة” خلال ندوة أقيمت في مكتبة برزخ في الحمرا ببيروت، بمشاركة عدد من الأكاديميين وجمع من المهتمين بالتاريخ الاجتماعي للعاصمة اللبنانية.
افتتحت الندوة بكلمة أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأميركية ساري حنفي الذي عرف بالمؤلف وبمنجزه العلمي اللساني والأنثروبولوجي، وأشار إلى أن الكتاب يستكمل مشروعا معرفيا راميا إلى رأب القطيعة بين التاريخ والعلوم الاجتماعية، استهله سراج (2013) بكتاب “أفندي الغلغول: تحولات بيروت خلال قرن 1854 – 1940″، ولاحظ أنه اعتمد فيهما نهج الدراسات البينية في العلوم الإنسانية.
وشرح سراج كيف يتآزر الدرس الأنثروبولوجي والمخيال المديني واللغة المحللة والشارحة مع الماضي المشترك لبيروت لتجسيد قيم المجتمع وتظهير مفاهيم الهوية والكينونة والانتماء عند الناس. فتفتّحات الحداثة النفعية وتأثيراتها لا تعدو أن تكون عملية إنسانية تساوق حياة الإنسان وتستجيب لمصالحه.
لتجسيد قيم المجتمع وتظهير مفاهيم الهوية والكينونة والانتماء عند الناس
والكتاب، كما قال، سيرة اجتماعية لمدينة عربية ناهضة من كبوات الحربين، نابضة بحيوات رجالاتها ويوميات عائلاتها. نهلت من حضارة بني عثمان، وتلقفت نسائم الحداثة الغربية الفرنسية التي بدلت فيها أدوارا وطورت أنماط عيش. تبلورت بناها الإدارية والتربوية (الصنائع والمقاصد والليسيه والعاملية)، والاقتصادية وتطورت الأشكال السلوكية لأهلها. مما أحدث فوارق بيّنة الملامح في منظومات التعبير والثقافة والاجتماع والاقتصاد والعمران.
من جهتها لفتت أستاذة التاريخ العربي الوسيط في الجامعة اللبنانية جوليات الراسي إلى “ريادة هذا العمل الموسوعي القيم ونجاح المؤلف في توظيف المنهج البيني الرائد في بحثه”، ورأت فيه “تاريخا شاملا متكاملا” وعدة كتب في كتاب واحد جاء نتيجة بحث مضن، فتمثلت النتيجة بعمل رائد لم يسبق أن كتب مؤلف عن “أم الشرائع” يضاهيه أو يشبهه لتاريخه.
واستهل الأستاذ المحاضر في الجامعة اللبنانية محمد ناصرالدين مداخلته بعتبة شاعرية. واعتبر أن إعادة الثقة والحب إلى بيروت هما محطتا ثناء استحقهما المؤلف. وتمنى عليه جمع مصطلحات “كتاب العمر” التي تصف المدينة وروحها وحداثتها في معجم مديني.
وختاما فتح باب النقاش ورد سراج على أسئلة الحضور ملخصا ملامح العيش المتغير في بيروت ما بين الحربين. فقد ارتقت البلاد بالصنائع والفنون والعلوم وتعززت آدابا رفيعة غيرت النفوس، واعتمدت مبتكرات حديثة قلبت أدوارا ويسرت خدمات. ترسخت الهوية الوطنية وبدأت الفورة الاقتصادية (نهضة مدرسة الصنائع واستضافتها أول مؤتمر للحرير 1930 وصدور تقرير التطور الاقتصادي في لبنان 1948).
وبين أنه “اجتهد لدراسة مسار الحداثة إنسانيا، ولفتح كوى معرفية للقراء كي يتبينوا اللامدرك من السرديات الصغرى للعيش المتغير في بيروت ما بين الحربين. توالت الأيام والعهود على الناس وعانوا ويلات الحرب، لكن أيامهم الزاهية داخلتها السراء والضراء، فارتقت بالصنائع والفنون والعلوم، وعززت آدابا رفيعة غيرت النفوس، واعتمدت مبتكرات حديثة قلبت أدوارا ويسرت خدمات. فصلناها ودرسنا تجليات الثقافة وعاينا انبلاج اللغة وردينا الاعتبار إلى الهوامش ووصلنا حلقات مفتقدة في التاريخ الاجتماعي للمدينة”.
وتابع “استنطقنا أبطال الحكاية، فرووا مسارات المجتمع ومخاض ترسّخ الهُويّة الوطنيّة وبداية الفورة الاقتصادية (نهضة مدرسة الصنائع واستضافتها أول مؤتمر للحرير 1930 وصدور تقرير ‘التطور الاقتصادي في لبنان’ 1948). حقيقٌ أن المظهر العلميّ الآليّ في الإنسانيّة عبقريّة بديعة مدهشة، كما تتبصّر ميّ زيادة، لكن الإنسان الذي تستهدفه مستحدثات العلم الماديّ وتيسّر سبل عيشه، متعيّن داخل الموطن والمكان، وداخل الثقافة والحضارة، وفي الزمان”.
ووضح سراج “أظهرنا أن المدن معمورة بأناسها ومجبولة بقصص قاطنيها ومسكونة بأخبارهم وعابقة بذكرياتهم، قبل أن تكون مجرد مساحة مبنية”. وفي تصديره للكتاب يدرج المستعرب الفرنسي فرانك مرميه ملحوظة تتناول “صدوره في هذه الفترة التي تلي انفجار المرفأ في الرابع من أغسطس 2021؛ فإذا كانت الأنقاض قد أزيلت وبعض الأبنية قد أعيد إعمارها، فإن آثار الصدمة الجسدية والنفسية ما تزال حية”.
وهذا البحث له أهمية كبيرة في تاريخ المدن في العالم العربي في الحد من التصدعات المتعددة التي يعانيها مخيال سكان المدينة، فعندما يعيد سراج بناء هذا الماضي المشترك بهذه الطريقة فإنه يشيد من أجل سكان بيروت مكانا للذكرى الإنسانية التي تلامس وجدانهم.
ويعتبر مرميه أن الكتاب بمثابة التذكر والاعتبار لعيش الحاضر واستشراف مآلات المستقبل، بالمعنى العرفاني، إذ يكشف صفحات مطوية وأوراقا منسية من تاريخ المدينة وأهلها، مبينا أن سردياتنا الصغرى هي مرآة عاكسة لسرديات كبرى منطوية بين دفتيه.