أشباح غويا Goya’s Ghosts
هادي ياسين
لا يمكنُ الحديثُ عن فيلم ( أشباح گويا ) دون الحديث عن محاكم التفتيش ، ذلك أن أحداثه تدور في اسپانيا ، و تحديداً في العام 1792 ، أي في ذروة تسلط هذه المحاكم على مقدرات الناس و فرض ارادتها على الدولة ، كما أن الفيلم يبدأ من لحظة اجتماع المكتب المقدس لهذه المحاكم و هو يتداول أعمالاً فنية للفنان الإسپاني الشهير " فرانشيسكو گويا " ( 1746 ــ 1828 ) ، لعب دورَه " ستيلان سكارسگارد " ، ولكن الفيلم لا يقدم سيرةً ذاتيةً عن هذا الفنان بل ينطلق من أعماله التي تمثل المرحلة السوداء من حياته عندما راحت الكوابيس تهيمن عليه و تتحكم الأشباحُ بأفكاره ، فجاءت تلك الرسومات كما لو كانت تعبيراً عن أفكار الناس في ظل تسلط محاكم التفتيش . و يرى رئيس المكتب الأب " گريگوريو " ( لعب دورَه " مايكل لونسديل " 1931 ــ 2020 ) أن هذه الرسومات ( مزعجة ) ، فيما يصفها أحد أعضاء المكتب بأنها ( قذارةٌ شيطانيةٌ و انحطاط ) . و يعكسُ هذا المدخلُ للفيلم حقيقةَ أن محاكم التفتيش لم تترك زاوية إلا و مدّت أصابعها اليها و راحت تهيل عليها التـُهم .
تُعتبر محاكمُ التفتيش أقسى و أقذر منظومة سلطوية دينية ظهرت في تاريخ البشرية ، و تحديداً في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية ، و بالذات في اسپانيا ، و يقال أن عدد ضحاياها قد بلغ نحو 5 ملايين ضحية ، هم من المسيحيين المشككين بالمسيحية ، ثم المسلمين و اليهود بعد سقوط الأندلس في القرن الخامس عشر ، ثم المسيحيين البروتستانت بعد ظهور الپروتستانتية في القرن السادس عشر . و تُظهِرُ رسومٌ توثيقية من تلك المرحلة المظلمة أن محاكمَ التفتيش كانت أولَ مؤسسةٍ في التاريخ تبتكر وسائلَ التعذيب المُنظـَّم و الأساليب غير المسبوقة و باحترافيةٍ بالغة القسوة ، و ما وسائل و أساليب التعذيب التي تستخدمها الأجهزة الأمنية في البلدان التي تحكمها أنظمةٌ استبدادية في عصرنا إلا امتدادٌ للوسائل و الأساليب التي ابتكرتها محاكم التفتيش .
تعود جذورُ محاكمِ التفتيش الى القرن الثاني عشر ، عندما انتشرت ــ منذ القرن الذي قبله ــ ما اطلقت عليها الكنيسة ُ تسمية ( الهرطقة ) ، و مرادفـُها ( الردّة ) أو ( الكفر ) أصلاً ، و تحددُ الكنيسةُ الكفرَ في ثلاثة أنواع : الكفرُ لدى الوثنيين ، و هو كفرٌ سَلبيٌ صرْف ناتجٌ عن جهلٍ بالمسيح ، أي قبل ( ظهوره ) ، و هؤلاء لا يُعتبَرون مذنبين . و الكفرُ السَلبيُ الإرادي .. الواعي لرفضه الوحيَ الإلهي . ثم الكفرُ الإيجابيُ المدمّر لفضيلة الإيمان عَمداً . و لم تنظر الكنيسة للهرطقة كمذهب بل باعتبارها جريمة ضد الله و المجتمع .. كونَها تمزق روابطه . على أن الهرطقة ـ في عُرف الكنيسة الكاثوليكية ـ إنما تشمل الذين تم تعميدُهم ، و تعود جذورُها الى القرون الميلادية الأولى ، قبل أن تنقسم الكنيسة . و لم يتوقف الأمرُ عند الهرطقة بل شمل السحرَ و البدع و الزندقة ، و عليه فقد قام البابا " لوسيوس الثالث " بقمعٍ شاملٍ للهراطقة و السَحَرَة و الزنادقة و أصحاب البدع في القرن الثاني عشر ، ولكن محاكمَ التفتيش نشأت رسمياً على يد الأب "گريگور التاسع " في القرن الثالث عشر ، و تحديداً عام 1233 .
حتى العام 1792 ، الذي تبدأ منه أحداثُ فيلم ( أشباح گويا ) ، تكون قد مرت أكثر من خمسة قرون على تمادي محاكم التفتيش في سحق حقوق الإنسان .. لصالح الإيمان القسري ، و خلال ذلك سقطت الأندلس ( القرن الخامس عشر ) فشملت تهمة ُ الهرطقة اليهودَ و المسلمين ، و بعد ظهور الپروتستانتية في القرن السادس عشر راحت المحاكمُ تطارد الپروتستانت و غير المُعمّدين . و كان عددُ ضحايا المحاكم في تنامٍ متصاعد و شمل كل أوروپا الخاضعة للكنيسة الكاثوليكية ، أما العقاب فقد تمثلَ في الحَرقِ و الإعدام و التقطيع الجسدي و التعذيب القاسي حتى الموت ، بأحكام عشوائيةٍ لتُهمٍ طالت حتى النوايا و النظرات العفوية و الحركات غير المقصودة .
في المشهد الأول من الفيلم ، حيث يناقش المكتبُ المقدس أعمالَ " گويا " ، يلومُ الأبُ " لورينزو " ( لعب دورَه " خافيير باردم " ) ، يلومُ المكتبَ كونَهُ قد تهاون مع تجاوزاتِ المتجاوزين على المسيحية . إثرَ ذلك يبدأ المكتبُ بنشر شبكةٍ من المخبرين السريين في الشوارع و المطاعم و الحانات و الأسواق و جميع الأماكن العامة ، تابعةٍ للمحاكم ، و يشرفُ عليها الأب " لورينزو " نفسه . و في اجتماعه مع المخبرين يرفعُ كتاباً صغيرَ الحجم عليه علامةُ الصليب و يفتحه أمامهم ليخبرهم : أنه " فولتير " ، و يصفه بأنه ( الأمير الأسود للمبادئ ) ( المُخادِع ) . و " ڤولتير " ( 1694 ـ 1778 ) كاتبٌ و وفيلسوف فرنسي ، هو أحد أعمدة عصر التنوير و أحد الذين مهدوا بأفكارهم للثورة الفرنسية و كان كثير الإنتقاد للكنيسة الكاثوليكية . و يوصي الأب " لورينزو " مخبريه بأن يفتحوا عيونهم و آذانهم جيداً و يوصيهم بأن ينتبهوا لمن يتحدث عن المادة و عناصرها الصغيرة التي تُسمى الذرّة ، و ينبههم الى أن مَن يتحدث عن ( المعبد ) هو أما يهودي أو پروتستانتي ، و ( اذا كنتم في مكان عام و رأيتم رجلاً يخفي ذكرَه و هو يتبول ، و ربما يكون مختوناً .. إذاً هو يهودي ) . العقيدة اليهودية سبقت الإسلام بخصوص ختان الذكور .
كلُ هذه الحالات التي ذكرها الأب " لورينزو " أمام فريق مُخبريه ، يطلب منهم أن يأتي بإسم أي شخصٍ تنطبق عليه مواصفاتُها . ولكننا سنكتشف لاحقاً أن " لورينزو " لا يعتمد ــ في دواخله ــ منظار المكتب المقدس ، بل منظاره الشخصي ، حين نتعرف عليه كشخص فاسق ، حيث لا يقيم للمُقدّس و لـ ( مبادئ ) الكنيسة أيَّ اعتبار إلا ظاهرياً ، بعد أن يهرب الى فرنسا ، و يعود الى اسبانيا مؤمناً بأفكار " ڤولتير " الذي كان يحرضُ ضده . و كان المخرج " ميلوش فورمان " موفقاً في اختيار " خافيير بارديم " للعب هذا الدور .
ينتقلُ التصويرُ الى حانةٍ ( دونا جوليا ) الصاخبةٍ بالرقص و الغناء و الشراب و المجون ، و من ضمن الساهرين شابةٌ جميلةٌ اسمها " إينيس " ( لعبت دورَها " ناتالي بورتمان " ) و هي ابنةُ تاجرٍ ثريٍ جداً إسمُهُ " توماس بلباتوا " ( لعب دورَه " خوسيه لويس غوميز " ) . فعندما قُدمت الى مائدتها وجبةٌ عليها لحمُ الخنزير ، أبدت " إينيس " حركةَ اشمئزازٍ من شَكل الخنزير ، هذه الحركة التقطها مُخبران مدسوسان من قِبل الأب " لورينزو " ليرفعا بذلك تقريراً الى المكتب المقدس ، و من هنا تبدأُ دراما الفيلم .
عام 1792 ، زمنَ أحداثِ الفيلم ، تكون الأندلس قد سقطت قبل نحو ثلاثة قرون ، بمعنى أن اليهود و المسلمين قد باتوا في مرمى محاكم التفتيش ، لذلك فأنه من السهولة توجيه التهمة الى الشابة " إينيس " بأنها تؤمن بالعقيدة اليهودية التي تحرّمُ أكل لحم الخنزير ( مرةً أخرى ، اليهود سبقوا المسلمين بذلك ) . و هكذا استُدعيت الشابة للتحقيق معها ، و قد أوصلها والدُها الى مقر ( المكتب المقدس ) بنفسه ، على أمل أن تُجيب على بعضِ الأسئلة و تخرج . غير أنه انتهى النهار و " اينيس " لم تخرج ، ما دفع الأب التاجر الى الإستنجاد بـ " غويا " ليتوسط لدى صديقه الأب " لورينزو " ، و لكي يكسب ودَّهُ و تعاطفه فقد دفع ثمن البورتريت الذي رسمه " غويا " لـ " لورينزو " و تعهد بترميم دير كنيسة القديس توماس و كلف الرسام برسم جدارية للدير . عندها يقوم " لورينزو " بزيارة القبو الذي أودعت فيه " اينيس " ، و هناك نقف على حقيقة العذاب الإنساني الذي يتعرض له ضحايا محاكم التفتيش . ولكن " لورينزو " عوضَ أن يمد يدَ العون الى الفتاة فإنه يقوم بعمل خسيس سنعرف نتيجته في نهاية الفيلم و سيعمل على التخلص من هذه النتيجة .
أثناء الوليمة التي أقامها " بلباتوا " في منزله لـ " لورينزو " ، و حضرها " غويا " ، يدور نقاشٌ حول مسألة الإيمان القسري و انتزاع الإعترافات تحت التعذيب ، و ينتهي الأمر بانتزاع توقيع من " لورينزو " على وثيقةٍ يعترف فيها بأنه ( قرد ) . هذه الوثيقة ستكون وراء هروب " لورينزو " الى فرنسا ، في حين تبقى " اينيس " قابعة في سجنها لمدة 15 عاماً ، و خلال ذلك يُصاب " غويا " بالصمم قبل أن تشتد عليه الأمراض و يذهب للعيش في مدينة ( بوردو ) الفرنسية حتى وفاته في 16 نيسان / إبريل 1828 . أما " لورينزو " و خلال وجوده هناك فقد تأثر بأفكار الفرنسيين ، مثل " فولتير " و " جان جاك روسو " و " جورج دانتون " ، و تبنى طروحات الثورة الفرنسية التي قامت عام 1789 . و عندما أرسل " نابوليون بونابرت " جيشه لإحتلال اسبانيا عام 1808 دخل " لورينزو " اسبانيا معه ، و حلّ محاكم التفتيش و أشرف بنفسه على محاكمة الأب " غريغوريو " و حكم عليه بالموت ، ولكن سرعان ما لبى البريطانيون نداء الإسبان و أخرجوا الفرنسيين من اسبانيا .. فانقلبُ السِحرُ على الساحر .
كتب سيناريو الفيلم الكاتب الفرنسي " جان كلود كاريير " و المخرج " ميلوش فورمان " ، و هو مخرجٌ تشيكي ـ أمريكي ، له تاريخ حافل بالمنجزات السينمائية ، و هو الجائز على الأوسكار مرتين :
* عام 1976 عن فيلمه ( أحدهم طار فوق عش الوقواق ) .
* عام 1985 عن فيلم ( أماديوس ) .
و كان ( أشباح غويا ) آخرَ أفلامه ( 2006 ) ، إذ توقف عن العمل حتى وفاته في 13 نيسان / إبريل 2018 . و قد أوصل الفيلمُ رسالته الواضحة في تعرية رجال الدين و كشف زيفهم .
و الواقع أن لا قصة " اينيس " و لا عائلتها و لا قصة الأب " لورينزو " حقيقية ، إنما زجها الكاتبان في أحداث ذلك العصر و وظفاها في تسليط الضوء على دور محاكم التفتيش في تسميم الحياة العامة في اسبانيا ، ليقدما لنا ـ على مدى ساعة و 54 دقيقة ـ هذه التحفة التي توج بها " ميلوش فورمان " حياته السينمائية .
هادي ياسين
لا يمكنُ الحديثُ عن فيلم ( أشباح گويا ) دون الحديث عن محاكم التفتيش ، ذلك أن أحداثه تدور في اسپانيا ، و تحديداً في العام 1792 ، أي في ذروة تسلط هذه المحاكم على مقدرات الناس و فرض ارادتها على الدولة ، كما أن الفيلم يبدأ من لحظة اجتماع المكتب المقدس لهذه المحاكم و هو يتداول أعمالاً فنية للفنان الإسپاني الشهير " فرانشيسكو گويا " ( 1746 ــ 1828 ) ، لعب دورَه " ستيلان سكارسگارد " ، ولكن الفيلم لا يقدم سيرةً ذاتيةً عن هذا الفنان بل ينطلق من أعماله التي تمثل المرحلة السوداء من حياته عندما راحت الكوابيس تهيمن عليه و تتحكم الأشباحُ بأفكاره ، فجاءت تلك الرسومات كما لو كانت تعبيراً عن أفكار الناس في ظل تسلط محاكم التفتيش . و يرى رئيس المكتب الأب " گريگوريو " ( لعب دورَه " مايكل لونسديل " 1931 ــ 2020 ) أن هذه الرسومات ( مزعجة ) ، فيما يصفها أحد أعضاء المكتب بأنها ( قذارةٌ شيطانيةٌ و انحطاط ) . و يعكسُ هذا المدخلُ للفيلم حقيقةَ أن محاكم التفتيش لم تترك زاوية إلا و مدّت أصابعها اليها و راحت تهيل عليها التـُهم .
تُعتبر محاكمُ التفتيش أقسى و أقذر منظومة سلطوية دينية ظهرت في تاريخ البشرية ، و تحديداً في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية ، و بالذات في اسپانيا ، و يقال أن عدد ضحاياها قد بلغ نحو 5 ملايين ضحية ، هم من المسيحيين المشككين بالمسيحية ، ثم المسلمين و اليهود بعد سقوط الأندلس في القرن الخامس عشر ، ثم المسيحيين البروتستانت بعد ظهور الپروتستانتية في القرن السادس عشر . و تُظهِرُ رسومٌ توثيقية من تلك المرحلة المظلمة أن محاكمَ التفتيش كانت أولَ مؤسسةٍ في التاريخ تبتكر وسائلَ التعذيب المُنظـَّم و الأساليب غير المسبوقة و باحترافيةٍ بالغة القسوة ، و ما وسائل و أساليب التعذيب التي تستخدمها الأجهزة الأمنية في البلدان التي تحكمها أنظمةٌ استبدادية في عصرنا إلا امتدادٌ للوسائل و الأساليب التي ابتكرتها محاكم التفتيش .
تعود جذورُ محاكمِ التفتيش الى القرن الثاني عشر ، عندما انتشرت ــ منذ القرن الذي قبله ــ ما اطلقت عليها الكنيسة ُ تسمية ( الهرطقة ) ، و مرادفـُها ( الردّة ) أو ( الكفر ) أصلاً ، و تحددُ الكنيسةُ الكفرَ في ثلاثة أنواع : الكفرُ لدى الوثنيين ، و هو كفرٌ سَلبيٌ صرْف ناتجٌ عن جهلٍ بالمسيح ، أي قبل ( ظهوره ) ، و هؤلاء لا يُعتبَرون مذنبين . و الكفرُ السَلبيُ الإرادي .. الواعي لرفضه الوحيَ الإلهي . ثم الكفرُ الإيجابيُ المدمّر لفضيلة الإيمان عَمداً . و لم تنظر الكنيسة للهرطقة كمذهب بل باعتبارها جريمة ضد الله و المجتمع .. كونَها تمزق روابطه . على أن الهرطقة ـ في عُرف الكنيسة الكاثوليكية ـ إنما تشمل الذين تم تعميدُهم ، و تعود جذورُها الى القرون الميلادية الأولى ، قبل أن تنقسم الكنيسة . و لم يتوقف الأمرُ عند الهرطقة بل شمل السحرَ و البدع و الزندقة ، و عليه فقد قام البابا " لوسيوس الثالث " بقمعٍ شاملٍ للهراطقة و السَحَرَة و الزنادقة و أصحاب البدع في القرن الثاني عشر ، ولكن محاكمَ التفتيش نشأت رسمياً على يد الأب "گريگور التاسع " في القرن الثالث عشر ، و تحديداً عام 1233 .
حتى العام 1792 ، الذي تبدأ منه أحداثُ فيلم ( أشباح گويا ) ، تكون قد مرت أكثر من خمسة قرون على تمادي محاكم التفتيش في سحق حقوق الإنسان .. لصالح الإيمان القسري ، و خلال ذلك سقطت الأندلس ( القرن الخامس عشر ) فشملت تهمة ُ الهرطقة اليهودَ و المسلمين ، و بعد ظهور الپروتستانتية في القرن السادس عشر راحت المحاكمُ تطارد الپروتستانت و غير المُعمّدين . و كان عددُ ضحايا المحاكم في تنامٍ متصاعد و شمل كل أوروپا الخاضعة للكنيسة الكاثوليكية ، أما العقاب فقد تمثلَ في الحَرقِ و الإعدام و التقطيع الجسدي و التعذيب القاسي حتى الموت ، بأحكام عشوائيةٍ لتُهمٍ طالت حتى النوايا و النظرات العفوية و الحركات غير المقصودة .
في المشهد الأول من الفيلم ، حيث يناقش المكتبُ المقدس أعمالَ " گويا " ، يلومُ الأبُ " لورينزو " ( لعب دورَه " خافيير باردم " ) ، يلومُ المكتبَ كونَهُ قد تهاون مع تجاوزاتِ المتجاوزين على المسيحية . إثرَ ذلك يبدأ المكتبُ بنشر شبكةٍ من المخبرين السريين في الشوارع و المطاعم و الحانات و الأسواق و جميع الأماكن العامة ، تابعةٍ للمحاكم ، و يشرفُ عليها الأب " لورينزو " نفسه . و في اجتماعه مع المخبرين يرفعُ كتاباً صغيرَ الحجم عليه علامةُ الصليب و يفتحه أمامهم ليخبرهم : أنه " فولتير " ، و يصفه بأنه ( الأمير الأسود للمبادئ ) ( المُخادِع ) . و " ڤولتير " ( 1694 ـ 1778 ) كاتبٌ و وفيلسوف فرنسي ، هو أحد أعمدة عصر التنوير و أحد الذين مهدوا بأفكارهم للثورة الفرنسية و كان كثير الإنتقاد للكنيسة الكاثوليكية . و يوصي الأب " لورينزو " مخبريه بأن يفتحوا عيونهم و آذانهم جيداً و يوصيهم بأن ينتبهوا لمن يتحدث عن المادة و عناصرها الصغيرة التي تُسمى الذرّة ، و ينبههم الى أن مَن يتحدث عن ( المعبد ) هو أما يهودي أو پروتستانتي ، و ( اذا كنتم في مكان عام و رأيتم رجلاً يخفي ذكرَه و هو يتبول ، و ربما يكون مختوناً .. إذاً هو يهودي ) . العقيدة اليهودية سبقت الإسلام بخصوص ختان الذكور .
كلُ هذه الحالات التي ذكرها الأب " لورينزو " أمام فريق مُخبريه ، يطلب منهم أن يأتي بإسم أي شخصٍ تنطبق عليه مواصفاتُها . ولكننا سنكتشف لاحقاً أن " لورينزو " لا يعتمد ــ في دواخله ــ منظار المكتب المقدس ، بل منظاره الشخصي ، حين نتعرف عليه كشخص فاسق ، حيث لا يقيم للمُقدّس و لـ ( مبادئ ) الكنيسة أيَّ اعتبار إلا ظاهرياً ، بعد أن يهرب الى فرنسا ، و يعود الى اسبانيا مؤمناً بأفكار " ڤولتير " الذي كان يحرضُ ضده . و كان المخرج " ميلوش فورمان " موفقاً في اختيار " خافيير بارديم " للعب هذا الدور .
ينتقلُ التصويرُ الى حانةٍ ( دونا جوليا ) الصاخبةٍ بالرقص و الغناء و الشراب و المجون ، و من ضمن الساهرين شابةٌ جميلةٌ اسمها " إينيس " ( لعبت دورَها " ناتالي بورتمان " ) و هي ابنةُ تاجرٍ ثريٍ جداً إسمُهُ " توماس بلباتوا " ( لعب دورَه " خوسيه لويس غوميز " ) . فعندما قُدمت الى مائدتها وجبةٌ عليها لحمُ الخنزير ، أبدت " إينيس " حركةَ اشمئزازٍ من شَكل الخنزير ، هذه الحركة التقطها مُخبران مدسوسان من قِبل الأب " لورينزو " ليرفعا بذلك تقريراً الى المكتب المقدس ، و من هنا تبدأُ دراما الفيلم .
عام 1792 ، زمنَ أحداثِ الفيلم ، تكون الأندلس قد سقطت قبل نحو ثلاثة قرون ، بمعنى أن اليهود و المسلمين قد باتوا في مرمى محاكم التفتيش ، لذلك فأنه من السهولة توجيه التهمة الى الشابة " إينيس " بأنها تؤمن بالعقيدة اليهودية التي تحرّمُ أكل لحم الخنزير ( مرةً أخرى ، اليهود سبقوا المسلمين بذلك ) . و هكذا استُدعيت الشابة للتحقيق معها ، و قد أوصلها والدُها الى مقر ( المكتب المقدس ) بنفسه ، على أمل أن تُجيب على بعضِ الأسئلة و تخرج . غير أنه انتهى النهار و " اينيس " لم تخرج ، ما دفع الأب التاجر الى الإستنجاد بـ " غويا " ليتوسط لدى صديقه الأب " لورينزو " ، و لكي يكسب ودَّهُ و تعاطفه فقد دفع ثمن البورتريت الذي رسمه " غويا " لـ " لورينزو " و تعهد بترميم دير كنيسة القديس توماس و كلف الرسام برسم جدارية للدير . عندها يقوم " لورينزو " بزيارة القبو الذي أودعت فيه " اينيس " ، و هناك نقف على حقيقة العذاب الإنساني الذي يتعرض له ضحايا محاكم التفتيش . ولكن " لورينزو " عوضَ أن يمد يدَ العون الى الفتاة فإنه يقوم بعمل خسيس سنعرف نتيجته في نهاية الفيلم و سيعمل على التخلص من هذه النتيجة .
أثناء الوليمة التي أقامها " بلباتوا " في منزله لـ " لورينزو " ، و حضرها " غويا " ، يدور نقاشٌ حول مسألة الإيمان القسري و انتزاع الإعترافات تحت التعذيب ، و ينتهي الأمر بانتزاع توقيع من " لورينزو " على وثيقةٍ يعترف فيها بأنه ( قرد ) . هذه الوثيقة ستكون وراء هروب " لورينزو " الى فرنسا ، في حين تبقى " اينيس " قابعة في سجنها لمدة 15 عاماً ، و خلال ذلك يُصاب " غويا " بالصمم قبل أن تشتد عليه الأمراض و يذهب للعيش في مدينة ( بوردو ) الفرنسية حتى وفاته في 16 نيسان / إبريل 1828 . أما " لورينزو " و خلال وجوده هناك فقد تأثر بأفكار الفرنسيين ، مثل " فولتير " و " جان جاك روسو " و " جورج دانتون " ، و تبنى طروحات الثورة الفرنسية التي قامت عام 1789 . و عندما أرسل " نابوليون بونابرت " جيشه لإحتلال اسبانيا عام 1808 دخل " لورينزو " اسبانيا معه ، و حلّ محاكم التفتيش و أشرف بنفسه على محاكمة الأب " غريغوريو " و حكم عليه بالموت ، ولكن سرعان ما لبى البريطانيون نداء الإسبان و أخرجوا الفرنسيين من اسبانيا .. فانقلبُ السِحرُ على الساحر .
كتب سيناريو الفيلم الكاتب الفرنسي " جان كلود كاريير " و المخرج " ميلوش فورمان " ، و هو مخرجٌ تشيكي ـ أمريكي ، له تاريخ حافل بالمنجزات السينمائية ، و هو الجائز على الأوسكار مرتين :
* عام 1976 عن فيلمه ( أحدهم طار فوق عش الوقواق ) .
* عام 1985 عن فيلم ( أماديوس ) .
و كان ( أشباح غويا ) آخرَ أفلامه ( 2006 ) ، إذ توقف عن العمل حتى وفاته في 13 نيسان / إبريل 2018 . و قد أوصل الفيلمُ رسالته الواضحة في تعرية رجال الدين و كشف زيفهم .
و الواقع أن لا قصة " اينيس " و لا عائلتها و لا قصة الأب " لورينزو " حقيقية ، إنما زجها الكاتبان في أحداث ذلك العصر و وظفاها في تسليط الضوء على دور محاكم التفتيش في تسميم الحياة العامة في اسبانيا ، ليقدما لنا ـ على مدى ساعة و 54 دقيقة ـ هذه التحفة التي توج بها " ميلوش فورمان " حياته السينمائية .