ما الذي يميز الأيقونات؟
السحر و الروعة والحضور المبهر، إلا أن يسرا، سيدة السينما العربية الأولى، هي دليل حي على أن كل هذا لا يعد شيئاً دون العامل الأكثر ندرة، وهو الإيمان المطلق.
“أحبك، أحبك جداً” تكرر يسرا هذه العبارة خلال مكالمتي معها عبر Zoom. وهي ليست كلمات موجهة لي طبعاً، على الرغم من أنها كانت لطيفة بشكل استثنائي تجاهي. بل كانت تخاطب زوجها – خلف الكاميرا – وقد كان جالسًا في الغرفة يستمع إلى محادثتنا، وهو قوة دعم دائمة وخفية تستند عليها يسرا اليوم وكل يوم.
يسرا – الأيقونة بالمعنى الحقيقي للكلمة – كانت تمر بأيام صعبة خلال الأسابيع الماضية. توفيت حماتها مؤخرًا، وخضع زوجها المحب للتو لجراحة، ولذلك فإن محادثتنا كان لها ميل فلسفي وتأملي أكثر من المعتاد. على الرغم من أن حديثي لم يستغرق إلا 30 ثانية فقط مع عميدة السينما العربية، وقد كان ذلك كافياً لنتذكر أنها لطالما كانت هكذا؛ متلألئة على الدوام، تتمتع بقدر عالٍ من الحنكة والدهاء، وبعمق لا يُنسى بمجرد أن تغوصوا فيه. وهي كريمة كذلك، وقادرة على مداواة من حولها بحكمتها التي اكتسبتها بشق الأنفس، ولا عجب أن تكون بمثابة الأم بالنسبة للكثير من زملائها في الوسط الفني ومن معجبيها على حد السواء.
“أحب أن أعطي الكثير”، تحدثني يسرا عن المتعة التي تجدها في العطاء. وتقول “قدّم لي العديد من النجوم الكبار الكثير في بداية مسيرتي، لذلك أشعر أنني مدينة للجيل الجديد من المواهب بالشيء ذاته. أنا لا أمسك عنهم أي نصيحة. وأعتقد أن المشاركة جزء من شخصيتي. أشارك [نصيحتي] مع الجميع – مع النساء، والرجال، والمراهقين…”. وتضيف: “كما تعلمون، كنت أحلم دائمًا بأن أكون أمًا، والآن أشكر الله أنني لست كذلك، لكنني “أم” لجميع أبناء أصدقائي. أفعل ذلك بحب وسرور” أجازف بوصفها “عرابة” فتضحك قائلة: “نعم، هذا ما يطلقونه علي”.
الأمومة، بالنسبة للنساء، هي موضوع حساس للغاية – سواء كنتِ أماً، أو ترغبين في أن تصبحي كذلك يوم ما، أو – وهو أمر محبط وقد يكون من المواضيع التي لا يجرؤ الجميع على الخوض فيها – إذا تجرأت على ما أقدمت عليه يسرا للتو، بالقول إنك سعيدة لكونك لست أمّاً. لا يزال مجتمعنا يفرض علينا الفكرة ذاتها، وهي أن هذا هو هدفنا الأسمى لكل النساء؛ وأي شيء أقل من ذلك يعدّ فشلاً في أسوأ الأحوال، وأنانية في أحسنها. لذلك، ركزت بحذر على هذه النقطة، وطلبت منها أن تتراجع عمّا قالته.
تقول يسرا: “لقد عشت هذه المرحلة. كنت أشتاق بشدة إلى إنجاب طفل. وهم نعمة من الله. لكنني شعرت بالخوف فيما بعد. قد تتحلى بالشجاعة عندما تكون أصغر سناً. ولكن الحسابات تتغير. العالم أصبح قاسيًا للغاية…” تقول بصوت مشوب بالحسرة ولكنه مدعوم بالمرونة. “لقد رأيت الكثير، ورأيت بعض أصدقائي يفقدون أبنائهم. رأيتهم يحاولون استعادة عافيتهم والتعايش لأن لديهم أبناء آخرين، لكنني أرى الألم الذي يعيشونه. هم من أكثر الأشخاص شجاعة وأقوى الناس الذين قابلتهم على الإطلاق. لو كنت أمًا فلا أعتقد أنني سأتحمل ذلك الألم. لا أملك القوة. وربما كان هذا جزء من ضعفي.”
قد تكون صدمة عاطفية. ولكن يمكن أن نقول أن هذا المستوى العالي من الحساسية هو المطلوب لتصبح ممثلة عظيمة حقًا ولتصنع تأثيراً في حقبة سينمائية كاملة. فإن كنت لا تشعر بهذا العمق ولا تحس بهذا الألم، فكيف يمكنك أن تسبر تلك الأعماق لتتمكن من تقمص هذه المشاعر على الشاشة؟ وهذه الحساسية ليست نقطة ضعف، بل هي أبعد ما تكون عن ذلك. إنها عامل قوة. مَلَكَة. وفي الواقع، هي قوة لم يكن من الممكن أن تتحقق بدونها مسيرة يسرا التي دامت خمسة عقود على الشاشة الفضية. “أنا لست امرأة خارقة. أنا مجرد إنسانة، أعيش أوقاتاً جيدة وأوقات أشعر فيها بالإحباط. ولذلك أختفي، لا أحد يستطيع أن يجدني حتى أستعيد قوتي. أقول لنفسي: خلاص، أنت بحاجة إلى الراحة. أنت بحاجة للبقاء في مساحتكِ الخاصة، وبحاجة إلى إعادة النظر.”
هل يمكن لهذه التقلبات واللحظات المظلمة أن تُثري الحياة إلى حد ما؟ تجيب يسرا “نعم، إنها تثريني وتثري عملي كممثلة… لكن ذلك لا يمكن أن يحدث إلا عندما تتخطينها. وفي بعض الأحيان قد تجدين نفسكِ في موقف صعب للغاية ولا تعرفين ما إذا كان سينتهي أم لا! كل شيء ينتهي. الجيد والسيئ. كل شئ.”
إنه تعريف المتعة المشوبة بالألم. ذلك النضال الذي نعيشه في الحياة؛ الحياة التي عاشتها يسرا. حيث نشأت نجمتنا في القاهرة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وكانت محاطة بنساء شجاعات – وتنسب إلى مسقط رأسها الفضل في تشكيل نظرتها للحياة. وتقول عن المجتمع الأمومي التي نشأت فيه: “لقد كنّ ناجحات. لقد عشت مع أمي طوال حياتي وتعلمت منها القوة”، تتذكر يسرا والدتها التي كانت قريبة منها بشكل كبير. وأتذكر أنها عرضت لي بفخر صورًا لوالدتها بالأبيض والأسود على العشاء في عام 2019، قبل وقت قصير من وفاتها. ولا يزال وجودها محسوسًا إلى حد كبير حتى اليوم. قالت لي بإعجاب كبير جعلني أقشعر: “لقد امتلكت قرار حريتها”. وأضافت “لقد ناضلت من أجل تلك الحرية عندما شعرت أنها تزوجت من الرجل الخطأ. كان ذلك في الخمسينيات، لم يكن من المقبول حينها أن تكون المرأة مطلقة ولديها طفل. لكن يمكنني أن أروي لك قصصًا عن عماتي وأمي وجدتي… وسوف تندهشين لأنه على الرغم من أنهن عشن في زمان مختلف، إلا أنهن كنّ يؤمنّ بأهمية الحصول على حريتهن وإثبات وجودهن. لقد كنت محظوظة للغاية لأنني عشت معهن، وشهدت نجاتهن”.
نشأت يسرا على يد نساء متمردات. هذه المجموعة من النساء خالفت المجتمع في وضعه الراهن؛ وتحدته باختلافها، وبالتالي أنشأت شخصية مؤمنة، لا تخشى من قول الحقيقة، مهما كانت الحقيقة غير مريحة. أخبرتني أن هذا هو العامل الأهم للنجومية الحقيقية، وهو أيضًا العامل الأهم للقوة الحقيقية. “أستمد قوتي من أماكن قليلة – من إيماني، ومن عائلتي، ومن إيماني بما أفعله. لن أقول أبدًا شيئًا لا أؤمن به. أبدًا.” تقول كلماتها هذه بقوة. وتضيف: “العيون لا تكذب. أنا نجمة كبيرة، ولدي مسيرة مهنية كبيرة جدًا، ولكن إذا رأيت شخصًا مزيفًا أو متعجرفًا، فإنني أتخلى عنه فوراً. لماذا أتحمل هذا العبء في حياتي؟ خلاص، وداعاً” تضحك. “يمكن لبعض الناس أن يكونوا نجومًا، يعرفون كيف يتصرفون ويتفاعلون كالنجوم. لكن عليك أن تكون نجماً في الواقع، لا على الشاشة وحسب”.
إنه درس تعلمته في وقت مبكر من أحد العظماء، تتذكره قائلة “قال لي عبد الحليم نصر: إياكِ أن تكوني متكبرة، سوف يكرهك الناس بسبب ذلك ولن تحققي أي شيء أبدًا” تضحكها هذه الذكرى، وتضيف: “لن أنسها ما حييت.” هي شارة ترتديها بفخر. وبصراحة، فإن انفتاحها هو شهادة على تلك السمة التي نالت بها استحساناً عالمياً – الأصالة. وهي ليست خيارًا بالنسبة ليسرا. بل هي ببساطة سمة متجذرة فيها، ولا تعرف لغيرها طريق. هذا بالإضافة إلى حضورها المبهر هو مزيج قوي جدًا. هي أيقونة، كما يصفها البعض.
وبالطبع، لدى يسرا رأيها الخاص حول هذا المسمى، إذ تقول “أصبحت كلمة ‘أيقونة’ رخيصة جدًا هذه الأيام.” وتضيف بعد تفكّر: “تمامًا مثل كلمة ‘الحب’. أن تكون أيقونة يعني أن تعيش إلى الأبد. الأيقونة الحقيقية تترك إرثًا. 100 مليون مشاهدة على اليوتيوب؟ هذا ليس تراثًا يا أعزائي”. يمكن أن نقول إنها ليست من أشد المعجبين بوسائل التواصل الاجتماعي. في الواقع، آخر مرة تحدثنا فيها، أخبرتني يسرا أنها تعارضها بشدة. وبعد أربع سنوات، أصبح لديها 3.6 مليون متابع على إنستغرام. هل تغير رأيها؟ تضحك قائلة: “قطعاً لا. أنا في الواقع أحب نفسي أكثر، لأنني كنت على حق منذ البداية.” وتضيف “لقد انضممت [لمواقع التواصل] لأنني لن أسمح لأي شخص آخر بالتحدث نيابة عني. أنا أوافق عليها، ولكن بشروطي الخاصة، وليس بشروط أي شخص آخر”، تقول يسرا، ودروس حياة والدتها تلوح في ذهنها.
مع اقتراب محادثتنا من نهايتها، سألت يسرا عن أفضل شيء حدث لها اليوم؟ تجيبني بضحكة جافة – وهو أمر أتفهمه تمامًا – إذ لم لكن هذا اليوم من أجمل أيام حياتها، وتقول “سأخبرك بأفضل شيء حدث لي في حياتي، إنه زوجي.” تتوقف لتنظر إليه وتسيل دموعها قبل أن تعبر له عن حبها له “أنا لا أحبه كما تحب الزوجة زوجها أو المرأة تحب الرجل. لا لا لا. لقد أصبح شيئًا آخر أغلى بكثير من كل ذلك. لقد أكرمني الله به، أعطاني إياه كهدية”. لقد كان ذلك تصريحاً جميلاً بأنك مهما بلغت من النجاح، وحققت من الإنجازات وجمعت من المال… ذلك لا يعدّ شيئاً من دون وجود حب حقيقي تعود إليه. لكن بالطبع يسرا تعرف ذلك تماماً. وإن أتيحت لها الفرصة، فسوف تأخذك تحت جناحها وتخبرك ذلك بنفسها. فهي كريمة من هذه الناحية.