التشكيلي المغربي عبدالصمد بويسرامن: على الفنان التفكير دائما في الجمهور

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التشكيلي المغربي عبدالصمد بويسرامن: على الفنان التفكير دائما في الجمهور


    التشكيلي المغربي عبدالصمد بويسرامن: على الفنان التفكير دائما في الجمهور فهو الصانع الفعلي للعمل الفني


    أتتبع خيوط الأسطورة لأبني معمارا يتكئ على رؤى بصرية معاصرة.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    الفن وليد عملية تفكير لا تنتهي

    ينظر الفنان التشكيلي المغربي عبدالصمد بويسرامن إلى الفن باعتباره إعادة تشكيل نسيج إنساني مشترك، انطلاقا من عوالمه الذاتية التي تنبعث من عوالم كونية شاسعة. وهو في معرضه الحديث “همسات الصمت” يقدم تجسيدا حيا، بالمونوكروم والفن الحروفي، وبرؤى بصرية معاصرة تقوم على إيمانه بأن المتلقي هو الصانع الفعلي للعمل الفني.

    يحاول الفنان المغربي عبدالصمد بويسرامن أن يقبض على “أثر” المشترك والإنساني العابر لكل حدود “الكتابة” والبصري معا، حيث يحول أحرفه إلى عملية تدوينية جمالية ترتهن إلى إبراز الأثر على شكل إيمائي وحركي، لا ينتمي إلى أي ثقافة محددة، بقدر ما هو نتاج لمحاولة إبراز القواسم الإنسانية المتمثلة في كل ما هو جمالي، والذي بمقدوره – ولوحده – أن يترك علامات خالدة تخترق كل الأزمنة والفضاءات، شبيهة ببصمات الإنسان الأول على الكهوف.

    يحوّل بويسرامن الحرف إلى شكل بصري تنمحي عنه كل قابلية للقراءة ويغدو متعاليا على كل أشكال التحديد، متساميا كما يقول. وذلك لصالح نوع من الكتابة، بعدما طوّر تيبوغرافيته الخاصة، تتجاوز كل الحدود الحضارية والجغرافيا، لتبني طبقاتها الأركيولوجية التي تكتنز أسفلها أسرارا على المتلقي أن يحفر عميقا على سطحها ليدركها، أو كما يقول الباحث الجمالي المغربي عزالدين بوركة، في النص الذي صاحب معرض الفنان المقام بقاعة العرض “كلمات” بإمارة دبي الإماراتية “(…) ولأن العمق يظل يطفو على السطح دون أن يَكفَّ عن كونه عمقاً، فالسطح في أعمال عبد الصمد بويسرامن، بقدر ما يغدو عمقا فهو صياغة للتضاريس وجغرافيا تتحرك عليها المخيّلة، نتاج بصري لتباينات الألوان وحقل لصيرورات وانزلاقات السطوح المتراكبية، مما يجعل النظر إلى سطح العمل بمثابة النظر إلى أعمق نقطة فيه.. وإعادة إنتاج السيرورة الزمنية التي تولّد عنها.. ومنه جعله يفكر من جديد. فالمنوط بكل عمل فني أن يجعل الفن يفكر. ولا يمكننا أن نتحدث عن الفن إلا بكونه عملية تفكير وكونه يُفكر في الآن ذاته”.

    في نص الحوار هذا، نترك للفنان كل إمكانيات البوح، لنخترق معه عوالمه الإبداعية الخاصة ورؤاها الجمالية، التي قادته إلى هذا الحدث الفني:
    حروفية كونية



    المونوكروم يعمل على اختصار الألوان في لون واحد، وبالتالي تكثيف كل العالم داخل مساحة لونية محددة


    بداية، يقول الفنان التشكيلي المغربي واصفا أسلوبه الفني الذي يتسم بالكونية انطلاقا من الحروفية المتفردة “أشتغل ضمن سياق فني معاصر يحاول أن يجيب عن قضايا إنسانية راهنة تسكنها الهشاشة وتنفلت من كل إمكانية القبض عليها. محاولا أن أجد لها شكلا تعبيريا يُعبّر عنها، بطرق قابلة للتأويل مما يمنح للمتلقي كامل الحرية في التعاطي مع العمل الفني”.

    ويستدرك “أما الحروفية في أعمالي فهي الركيزة الأولى التي أستند عليها، لكن دونما البقاء عندها والسكون، لهذا طوّرت شكلا كتابيا يتخذ من إيماءات الخط العربي منطلقا له، لكنه يتحرر من كل انتماء معطى سلفا، لصالح رؤية كونية تسمو إلى التعايش والإعلاء من المشترك الإنساني الذي يتجسد في الأثر، والذي يحضر خاصة باعتباره كتابة وتدوينا للإنساني والأسطوري والمتخيل، الذي يصير مع مرور الوقت إلهاما فنيا لكل فناني العام، وبالتالي أراض خصبة حيث تسرح مخيلة كل القراء والناظرين”.

    وتبدو أعمال الفنان المغربي في عمقها نصا بصريا يتتبع أثر الميثولوجيا في حياتنا، فهي منجزات فنية تبحث عن الأثر الإنساني المشترك الذي يتخذ بفعل الزمن شكل الأسطورة.

    وعن ذلك يقول بويسرامن لـ”العرب” “تتأسس كل الحضارات على المشترك والمختلف، إذ إنْ كان لكل منها مميزاتها الخاصة، فكلها تتقاطع في جوانب متعددة، من بينها – وعلى رأسها – تقع اللغة في شكلها الأنطولوجي (الوجودي) المتمثل في الكتابة.. وإنْ بقدر ما اعتنت ثقافات معينة (العربية، الصينية…) بالخط وأساليبه، فأخرى اهتمت بالتدوين (الكتابة بأقل تَكَلُّفٍ جمالي)، وكلاهما قد نظرا إلى الكتابة بوصفها فعلا حضاريا وتأريخيا وتخليدا لأمجادها وأساطيرها (الميثولوجيات) إلخ. وهنا مكمن المشترك، أو الأثر الخفي الذي نبحث عنه لوحدنا جميعا، بعيدا عن كل آليات وأشكال الخراب والدمار”.

    ويتابع “لأن الأثر يتحول في الغالب إلى شكل أسطوري، مع تراكم الوقت، لم يكن – بالتالي – أن تكون كلمة الكتابة تعني الـ”تسطير”، ومن هذا المصطلح تم نحت كلمة “أسطورة”، أي كتابة الحكايات الحاملة للعبر والتي تبنى على صراع أرضي – سماوي.. مما يمنح الكتابة بعدا تقديسيا، يمكن قياسه عربيا وإسلاميا، أيضا، انطلاقا من تلك العناية الإستيتيقية القصوى التي أوْلاها المدوّنون المسلمون لهذا الفعل الإنساني، وخاصة في علاقتهم بتدوين القرآن الكريم.. بما أنه كتاب إلهي مقدّس، فلابد أن توازيه كتابة ترتقي إلى مقامه الجمالي.. (الله جميل، يحب الجمال)”.

    ويوضح “هذا هو الموضوع الأساس الذي حاولت إبرازه في معرض ‘همسات الصمت’، المقام بغاليري “كلمات” بدبي، حيث نستنطق صمت الأثر والكتابة، حتى نستطيع تشكيل نسيج المشترك الزمكاني، الذي تحوم فيه كل الحضارات الإنسانية.. فلم توجد قط حضارة تعيش منعزلة عن باقي العالم أو الحضارات والثقافات المجاورة.. فالتقاسم كان – وما زال – هو جوهر التقدم والتطور”.
    الكتابة والأركيولوجيا



    للمونوكروم لغته البصرية الخاصة


    يقول الفنان عبدالصمد بويسرامن في حوار لـ”العرب” إن “علاقتنا بالعالم هي علاقة بصرية ترتبط بالظاهر والسطحي – أي الذي يطفو على السطح – أو بتعبير نيتشه الظاهر هو الحقيقة، فالذي يصير على السطح أو المظهر الأعلى هو الحقيقة التي تخبّئ أسفلها أسرارا لا بد من العمل على كشفها، دونما تشويه للسطح، وهذا ما يقوم به الأركيولوجي وما يقوم به الفنان بشكل معكوس”.

    ويواصل “هذا الفنان الذي يقوم بالمحو والإزالة من أزل الستر والحجب. وهو ما أبغي تحقيقه عبر تلك الطبقات التراكبية الكتابية على سطح اللوحة. إذ تستدعي الكتابة فعل الحفر الأركيولوجي بمعانٍ عدة، أهمها في نظري علاقة الكشف عن النص الخفي، وثانيا تلك التراكبية السحرية التي يتم خلقها نتاج تدوين نص فوق نص قديم أو تعديل نص وتحويره عبر عملية المحو والإزالة والإضافة، وهو ما يشبه العملية التصويرية الصباغية التي يقوم بها الفنان إزاء عمله الفني، الذي يحجب بياضه أو يمحو ويزيل صورا منه أو آثارا معنية أو يلغي طبقة لصالح طبقة أخرى؛ تكاد توجد طبقة سرية في كل عمل (طبقات أركيولوجية).. (قام الفن المعاصر على لوحة المحو لروشينبورغ، الذي غطى بالأبيض لوحة دو كونيغ): فالمعنى لا يكون ظاهريا إذ يلزم للكشف عنه عمليات الحفر دقيقة، مما يحتم وجوب التفاسير والتأويلات التي تغدو متضاعفة وغير محدودة”.

    وانطلاقا من هذه الفكرة يشير بويسرامن إلى أنه يحاول في أعماله أن يتتبع خيوط الأسطورة، وأن “أصنع عمرانا أركيولوجيا، يتكئ على رؤى مفاهيمية وبصرية معاصرة.. (يمكن أن تتخذ عدة تمظهرات فنية: اللوحة، الأنستلايشن، المنحوتة، البرفورمانس، فن الفيديو، لاند آرت…)، مما يُلزم المتلقي أن يأتي إلى المنجز محملا بشحنة معرفية لفك أسراره والحفر عميقا في طبقاته.. فمهما بدا العمل سهلا فعملية قراءته تستدعي خلفيات إبستيمولوجية رصينة، مما يجعله قابلا لتعدد القراءات.. فكل متلقٍ يقرأ العمل قراءة مختلفة عن الآخرين.. وهو ما يغني العمل.. لهذا أهتم بفعل الكتابة، حيث لا يحضر الحرف في بعده القرائي.. بل يمكنني وصفها بأنها كتابة لا أحرف.. كتابة (العربية !) بكل اللغات، مبتعدا عن كل تخندق هوياتي يمنع الانفتاح الحضاري ويقع حائلا دون التلاقح الثقافي”.

    نستنطق صمت الأثر والكتابة، حتى نستطيع تشكيل نسيج المشترك الزمكاني، الذي تحوم فيه كل الحضارات الإنسانية

    وتبدو الكتابة البصرية التي يصوغها بويسرامن في لوحاته ومعارضه مستندا على الحروفية أشبه بكتابة هندسية كونية، وأعمال صباغية مفاهيمية تميزه عن غيره من الفاعلين في المشهد التشكيلي العربي، وتصنع له عالمه المعماري التشكيلي الخاص.

    وعن ذلك، يقول الفنان في تصريحه لـ”العرب” “أستعين بسلاسة الحرف وحركيته في الفضاء، لأبني معمارا هندسيا كونيا، في بعد مفاهيمي بالمعنى الفني المعاصر.. حيث يتحول سطح العمل إلى عمق، أو لنقل إنه شبيه بالنسيج الكوني، حيث أن حركة الأجرام تحدث في النسيج الزمكاني انحناءات، وهذا ما يسمى بالجاذبية.. تلامس اللوحة الصباغية عندي هذه الانحناءات الفضائية، من خلال تلك التماوجات والتداخلات، التي تشبه الرموز والعلامات، لكنها تبتعد عنها لتشكل فضاءً بصريا عامرا وفارغا في الآن نفسه، مما يدفع بالمتلقي إلى ملئه انطلاقا مما أوَّلَه.. نوع من الملء بعد عملية كشف أركيولوجية”.

    ويوضح “لا أشتغل على اللوحة بالمعنى الصباغي الكلاسيكي، بل أحاول أن أجعل منها سندا بصريا يطل على عوالم خفية، بمقدورها أن تكشف عن دواخل الإنسان فردا وجماعة، من خلال المشترك كما سبق وقلت. لهذا لم أقتصر على اللوحات فحسب، إذ اشتغلت على إنشاءات فنية (أنستلايشن) وأعمال أدائية (برفورمانس) من شأنها أن تخرج المتلقي من نمطية اللوحة القماشية، إلى التصادم مع أشكال تعبيرية متجددة، قادرة على توصيف ما لا تستطيعه اللوحة”.
    المتلقي جزء من العمل



    المغربي عبدالصمد بويسرامن من بين الفنانين الذين يدركون أهمية المتلقي/ الجمهور بالنسبة إلى الفنان واستمراريته، وهو يشدد على أن الجمهور قد يكون الصانع الفعلي للعمل الفني، وفي ذلك يقول “من هذا السياق بالتحديد عملت على جعل المتلقي ضمن سيرورة العمل وجزءا من صيروراته، أي تحولاته. إذ حاولت في برفورمانس وأنستلايشن ‘أركيولوجيا الصمت’، المصاحبين للحدث، أن أضع الجمهور إزاء العملية الإبداعية، أن يكون جزءا من عملية خلق العمل الفني.. سواء فيما يتعلق بالزمن أو بالتدخلات التصويرية والصباغية”.

    ويشرح في تصريحه لـ”العرب” “في هذا الحدث يكون المتلقي بشكل مباشر أمام مفهوم ‘تاريخ العمل’؛ وأيضا متفاعلا مباشرا مع العمل، ومشاركا صُحبة الفنان في بناء معمار المنجز. فالعمل الفني لا يبدعه الفنان فحسب، بل إن المتلقي هو صانعه الحقيقي، لولا المتلقي ما كانت هناك أعمال فنية من الأساس. إلى جانب كون المتلقي هو الفاعل الحقيقي في هذا المنجز، يلعب البعد الأركيولوجي دورا جوهريا فيه، إذ يبني الجمهور طبقاته الخاصة – على الطبقة الأصلية – كما تفعل عوامل الزمن والطبيعة في البيئة.. لهذا يغدو هذا المنجز عالما مصغرا يشبهنا، ينطق بصمت ويتكلم بهمس لغتنا المشتركة الكونية”.

    ويشدد الفنان على أن “الجمهور هو صانع العمل الفني، لهذا لا بد على الفنان أن يفكر دائما في الجمهور حتى خلال عملية التفكير في العمل قبل عملية إنجازه حتى. فقد جسدت في العرض الإنشائي الأدائي هذا، مفاهيم إنسانية جوهرية متعلقة بالنسيان والمحو والاندثار والتذكر، إذ لا بد أن ننسى كي نتذكر.. فالذاكرة الجمعية تبنى على النسيان الذاتي للانصهار في الجماعة، والذاكرة الطبيعية تتأسس على المحو بوصفه رديف النسيان”.

    لهذا “نتشابه والطبيعة.. فالذاكرة البشرية هي ذاكرة طبقاتية، تشبه ما يحدث على المستوى الأركيولوجي. تأتي طبقة جديدة لتحجب وتستر طبقة أخرى، وهو ما يكسي الأولى نوعا من الغموض. في اللوحة الصباغية أيضا، لا بد من طبقات وتداخلات صباغية لنصنع معمار العمل، وعلى مستوى الأنستلايشن – البرفورمانس هذه، جسدنا عملية المحو البشري باعتباره المتدخل الأهم في سيرورة الزمن والتغيرات الطبيعية الحاصلة اليوم. فكم من لغة اختفت، وكم من حضارات محيت، ولم يبق إلا الأثر، ومن هذا الأخير علينا أن نتبع الغموض لنكتشف ونزيل الستار عن التاريخ الماضي”.
    المونوكروم: لون العالم



    يسير الفنانون بسرعة نحو الانتباه إلى سطوة المونوكروم (اللون الموحد)، واعتباره لون العالم، اللون الطاغي الذي يترك سطوته حاضرة وبقوة في كل التفاصيل من حولنا. ومن جانبه، يرى بويسرامن “يكاد كل ما يحيط بنا أحادي اللون، لنرفع أعيننا إلى السماء، إنها زرقاء بالكامل.. لقد سحر المونوكروم أعين كل بناة الحضارات، فالأهرامات كانت ذات لون أبيض لـمّاع واحد، يغطي أوجهها، لتنعكس أشعة الشمس ويتجلى بالتالي الأسطوري مشرقا نابعا من قمة الهرم ومن كل جهاته الأربع”.

    ويوضح أن “المونوكروم يعمل على اختصار الألوان في لون واحد، وبالتالي تكثيف كل العالم داخل مساحة لونية محددة، مما يجعل هذه المساحة معتركا صاخبا بالآثار والحكايات، وأرضا مثيرة للدهشة ومحفزة على البحث والتنقيب.. لا يرتبط المونوكروم بأي تجريدية، بل إنه تشخيصي بالكامل، لكونه لقطة مستقطعة من العالم، جزء مشهدي مصغر جدا بالمقارنة مما انتزع منه. إنه قطة “صامتة” لتحجب كل الصخب والهمسات، أو لنقل إنها تحفّز على إعادة كتابة المقاطع الصوتية، وإعادة تصوير المشاهد، اللامرئية”.


يعمل...
X