قراقوش بن عبدالله
(….ـ 597 هـ/….ـ 1201م)
بهاء الدين قراقوش بن عبد الله الأسدي الأبيض، الأمير الكبير أبوسعيد فتى السلطان صلاح الدين الأيوبي، وقراقوش لفظ تركي معناه العقاب. كان خادم أسد الدين شيركوه، عم صلاح الدين، أعتقه وجعله من رجاله الذين يعتمد عليهم في المهام العظيمة، ولما توفي أسد الدين شيركوه اتفق الطواشي بهاء الدين قراقوش والفقيه عيسى الهكاري على ترتيب صلاح الدين مكانه في الوزارة، وأحكما الحيلة في ذلك واجتهدا حتى بلغا المقصود، فحفظ صلاح الدين لهما صنيعهما حين تولى الوزارة فقربهما منه واعتمد عليهما، وجعل قراقوش متولي أمور زمام قصر الخلافة الفاطمية؛ لأنه سارع في الاحتياط على القصر وموجوداته حين خلع الخليفة الفاطمي العاضد، ومنع أقارب الخليفة وبنيه من التصرف بأي شيء فيه. وكان السلطان صلاح الدين ينيبه عنه في الديار المصرية حين يغادرها، ويفوض أمورها إليه ويعتمد في تدبير شؤونها عليه، ولما استرد صلاح الدين مدينة عكا من يد الفرنجة سلمها إليه ليحفظها ويضبط شؤونها، غير أن الفرنجة هاجموها في غياب صلاح الدين وأعادوا احتلالها وأسروا بهاء الدين قراقوش فافتدى نفسه بعشرة آلاف دينار وقيل: إن السلطان صلاح الدين افتداه بستين ألف دينار؛ لعظمة مكانته عنده، ولِمَا أسداه من خدمات لدولته، ولجهاده وذوده عن الإسلام والمسلمين.
وظل في مكانته العالية يخوض المعارك وينفذ المهام الموكلة إليه بكفاءة وتفانٍ مدة حكم صلاح الدين، وظل موضع تقدير الأمراء الأيوبيين وعامة الناس إلى أن توفى بالقاهرة ودفن في تربته المعروفة به في سفح جبل المقطم قرب البئر والحوض اللذين أنشأهما على شفير الخندق، وتسلم السطان داره وما حوته من الذخائر، وصارت إقطاعا ته للملك الكامل.
كان الأمير بهاء الدين قراقوش رجلاً موفقاً في حركاته، صاحب همة عالية على الرغم من أنه كان خصياً حسن المقاصد جميل النية، له رغبة في الخير مهيباً له قبول عند السلطان وعامة الناس وله في الغزوات والفتوحات مواقف معروفة وشجاعة كبيرة، بنى السور المحيط بالقاهرة وعمر قلعة الجبل، وأنشأ القناطر التي بالجيزة على طريق الأهرام وهي آثار دالة على الكفاءة وحسن التدبير، كذلك أقام رباطاً بالمقس وخان السبيل على باب الفتوح ظاهر القاهرة، وله وقف كثير لا يعرف مصرفه، وإليه تنسب حارة بهاء الدين بالقاهرة داخل باب الفتوح، فكان من شيوخ الدولة الصالحية الكبار، وأمير العصبة الأسدية ومقدمها وكريمها ومكرمها يلجأ إليه السلطان في المواقف العظيمة، ويلتجئ إليه الناس حين تلم بهم المصائب، غير أنه نسب إلى اللجاج لشدة ثباته وفرط جموده.
وكانت فيه شدة وقسوة في مباشرة أعماله فسخَّر الناس في بناء سور القاهرة وقلعتها وقناطر الأهرام، وله مع المصريين وقعات عجيبة فنسبوه إلى الغفلة والحمق، وألصقوا به جملة من النوادر في أحكامه جمعها القاضي أسعد بن مماتي ناظر الدواوين في أيام صلاح الدين، ووضع بعضها وأثبتها في كتاب سماه «الفاشوش في أحكام قراقوش» هذا الكتاب شهر بهاء الدين قراقوش وبقي اسمه مردداً من أيامه إلى أيام الناس هذه، وقد زيد على هذه النوادر في العصور اللاحقة، ووضع جلال الدين السيوطي كتاباً يحمل الاسم نفسه وأضاف فيه نوادر جديدة إلى قراقوش حتى أصبح قراقوش رمزاً لكل حاكم يخلط حمقه بظلمه، وضرب به المثل، فقيل: «حكم ولاحكم قراقوش»، يعبر بهذا المثل عن كل حكم مستهجن لا يستقيم مع منطق أو شرع، وفي هذا الكتاب أشياء يبعد وقوع مثلها منه، والظاهر أنها موضوعة عليه؛ لإن صلاح الدين كان معتمداً في أمور المملكة عليه، ولولا وثوقه بعقله وأهليته وكفايته ما فوضها إليه. وقد سوغ ابن مماتي وضعه هذا الكتاب في مقدمته: «إنني لما رأيت عقل بهاء الدين قراقوش حزمة فاشوش، قد أتلف الأمة والله يكشف عنهم كل غمة، لا يقتدي بعالم ولا يعرف المظلوم من الظالم، والشكية عنده لمن سبق ولا يهتدي لمن الحق، ولا يَقْدر أحد من عظم منزلته أن يرد كلمته، ويشتط اشتطاط الشيطان ويحكم حكماً ما أنزل الله به من سلطان صنفت هذا الكتاب لصلاح الدين عسى أن يريح منه المسلمين».
وسرد ابن مماتي في هذا الكتاب حكايات مضحكة ونوادر شعبية بلغة قريبة من اللهجة العامية الدارجة آنذاك، لتفهمها العامة وتحفظها وترددها فيكون ذلك أنكى وآلم للأمير قراقوش، ومن هذه الحكايات قوله:
«حكي أن شخصاً شكا إلى الأمير بهاء الدين قراقوش مماطلة غريمه فذهب المدين إلى الأمير وقال له: يا مولانا أنا رجل فقير وكلما حاولت أن أحصل للدائن على شيء لم أجده فإذا صرفت ذلك الشيء جاء الدائن وطلبني. فقال قراقوش: احبسوا صاحب الحق حتى يصير المديون إذا حصل على شيء يجد لصاحب الحق موضعاً معلوماً يذهب إليه فيه ويدفع الحق. فقال صاحب الحق: تركت حقي وأجري على الله ومضى».
وعلى هذا النحو يصور ابن مماتي قراقوش متصرفاً في القضايا بحمق وغفلة، فيضحك القارئ للتضاد بين مقدمات الحكاية ونتائجها ولابتعاد مجرياتها عن المنطق.
محمود سالم محمد
(….ـ 597 هـ/….ـ 1201م)
بهاء الدين قراقوش بن عبد الله الأسدي الأبيض، الأمير الكبير أبوسعيد فتى السلطان صلاح الدين الأيوبي، وقراقوش لفظ تركي معناه العقاب. كان خادم أسد الدين شيركوه، عم صلاح الدين، أعتقه وجعله من رجاله الذين يعتمد عليهم في المهام العظيمة، ولما توفي أسد الدين شيركوه اتفق الطواشي بهاء الدين قراقوش والفقيه عيسى الهكاري على ترتيب صلاح الدين مكانه في الوزارة، وأحكما الحيلة في ذلك واجتهدا حتى بلغا المقصود، فحفظ صلاح الدين لهما صنيعهما حين تولى الوزارة فقربهما منه واعتمد عليهما، وجعل قراقوش متولي أمور زمام قصر الخلافة الفاطمية؛ لأنه سارع في الاحتياط على القصر وموجوداته حين خلع الخليفة الفاطمي العاضد، ومنع أقارب الخليفة وبنيه من التصرف بأي شيء فيه. وكان السلطان صلاح الدين ينيبه عنه في الديار المصرية حين يغادرها، ويفوض أمورها إليه ويعتمد في تدبير شؤونها عليه، ولما استرد صلاح الدين مدينة عكا من يد الفرنجة سلمها إليه ليحفظها ويضبط شؤونها، غير أن الفرنجة هاجموها في غياب صلاح الدين وأعادوا احتلالها وأسروا بهاء الدين قراقوش فافتدى نفسه بعشرة آلاف دينار وقيل: إن السلطان صلاح الدين افتداه بستين ألف دينار؛ لعظمة مكانته عنده، ولِمَا أسداه من خدمات لدولته، ولجهاده وذوده عن الإسلام والمسلمين.
وظل في مكانته العالية يخوض المعارك وينفذ المهام الموكلة إليه بكفاءة وتفانٍ مدة حكم صلاح الدين، وظل موضع تقدير الأمراء الأيوبيين وعامة الناس إلى أن توفى بالقاهرة ودفن في تربته المعروفة به في سفح جبل المقطم قرب البئر والحوض اللذين أنشأهما على شفير الخندق، وتسلم السطان داره وما حوته من الذخائر، وصارت إقطاعا ته للملك الكامل.
كان الأمير بهاء الدين قراقوش رجلاً موفقاً في حركاته، صاحب همة عالية على الرغم من أنه كان خصياً حسن المقاصد جميل النية، له رغبة في الخير مهيباً له قبول عند السلطان وعامة الناس وله في الغزوات والفتوحات مواقف معروفة وشجاعة كبيرة، بنى السور المحيط بالقاهرة وعمر قلعة الجبل، وأنشأ القناطر التي بالجيزة على طريق الأهرام وهي آثار دالة على الكفاءة وحسن التدبير، كذلك أقام رباطاً بالمقس وخان السبيل على باب الفتوح ظاهر القاهرة، وله وقف كثير لا يعرف مصرفه، وإليه تنسب حارة بهاء الدين بالقاهرة داخل باب الفتوح، فكان من شيوخ الدولة الصالحية الكبار، وأمير العصبة الأسدية ومقدمها وكريمها ومكرمها يلجأ إليه السلطان في المواقف العظيمة، ويلتجئ إليه الناس حين تلم بهم المصائب، غير أنه نسب إلى اللجاج لشدة ثباته وفرط جموده.
وكانت فيه شدة وقسوة في مباشرة أعماله فسخَّر الناس في بناء سور القاهرة وقلعتها وقناطر الأهرام، وله مع المصريين وقعات عجيبة فنسبوه إلى الغفلة والحمق، وألصقوا به جملة من النوادر في أحكامه جمعها القاضي أسعد بن مماتي ناظر الدواوين في أيام صلاح الدين، ووضع بعضها وأثبتها في كتاب سماه «الفاشوش في أحكام قراقوش» هذا الكتاب شهر بهاء الدين قراقوش وبقي اسمه مردداً من أيامه إلى أيام الناس هذه، وقد زيد على هذه النوادر في العصور اللاحقة، ووضع جلال الدين السيوطي كتاباً يحمل الاسم نفسه وأضاف فيه نوادر جديدة إلى قراقوش حتى أصبح قراقوش رمزاً لكل حاكم يخلط حمقه بظلمه، وضرب به المثل، فقيل: «حكم ولاحكم قراقوش»، يعبر بهذا المثل عن كل حكم مستهجن لا يستقيم مع منطق أو شرع، وفي هذا الكتاب أشياء يبعد وقوع مثلها منه، والظاهر أنها موضوعة عليه؛ لإن صلاح الدين كان معتمداً في أمور المملكة عليه، ولولا وثوقه بعقله وأهليته وكفايته ما فوضها إليه. وقد سوغ ابن مماتي وضعه هذا الكتاب في مقدمته: «إنني لما رأيت عقل بهاء الدين قراقوش حزمة فاشوش، قد أتلف الأمة والله يكشف عنهم كل غمة، لا يقتدي بعالم ولا يعرف المظلوم من الظالم، والشكية عنده لمن سبق ولا يهتدي لمن الحق، ولا يَقْدر أحد من عظم منزلته أن يرد كلمته، ويشتط اشتطاط الشيطان ويحكم حكماً ما أنزل الله به من سلطان صنفت هذا الكتاب لصلاح الدين عسى أن يريح منه المسلمين».
وسرد ابن مماتي في هذا الكتاب حكايات مضحكة ونوادر شعبية بلغة قريبة من اللهجة العامية الدارجة آنذاك، لتفهمها العامة وتحفظها وترددها فيكون ذلك أنكى وآلم للأمير قراقوش، ومن هذه الحكايات قوله:
«حكي أن شخصاً شكا إلى الأمير بهاء الدين قراقوش مماطلة غريمه فذهب المدين إلى الأمير وقال له: يا مولانا أنا رجل فقير وكلما حاولت أن أحصل للدائن على شيء لم أجده فإذا صرفت ذلك الشيء جاء الدائن وطلبني. فقال قراقوش: احبسوا صاحب الحق حتى يصير المديون إذا حصل على شيء يجد لصاحب الحق موضعاً معلوماً يذهب إليه فيه ويدفع الحق. فقال صاحب الحق: تركت حقي وأجري على الله ومضى».
وعلى هذا النحو يصور ابن مماتي قراقوش متصرفاً في القضايا بحمق وغفلة، فيضحك القارئ للتضاد بين مقدمات الحكاية ونتائجها ولابتعاد مجرياتها عن المنطق.
محمود سالم محمد