كوكوشكا (اوسكار) Kokoschka (Oskar-) - Kokoschka (Oskar-)
كوكوشكا (أوسكار ـ)
(1886 ـ 1980)
أوسكار كوكوشكا Oskar Kokoschka مصور ورسام وحفار ومصمم «ديكور مسرح» وكاتب مسرحي وشاعر نمساوي، يعدّ مسرحياً رائد الحركة التعبيرية expressionism، ويؤلف مع غوستاف كليمْت Gustav Klimt وإيغون شيلِه Egon Schiele الثالوث الفني في ڤيينا في مطلع القرن العشرين. ولد في بلدة بوكلارْن Pochlarn على نهر الدانوب غربي العاصمة وتوفي في ڤيلّنوف Villeneuve السويسرية. كان والده صائغ ذهب من براغ، أفلس عام 1889، مما اضطر العائلة إلى الانتقال إلى ڤيينا بحثاً عن فرصة عمل جديدة، وكانت والدته من جبال ستيريا Styria حكواتية بارعة ذات خيال خصب وإدراك مسبق للمستقبل، وكان لها بالغ الأثر في طفولة أوسكار الذي نشأ مع إخوته الثلاثة في ظروف مادية صعبة، فقد عمل الوالد بائعاً جوالاً محدود الدخل، ومع وفاة الأخ الأكبر عام 1891 دخلت المأساة حياة العائلة وتجذرت فيها. وكان كوكوشكا إبان مرحلة التعليم الثانوي في المدرسة الحكومية يُغني في جوقةِ كنيسةٍ باروكية العمارة فتأثر بزجاج نوافذها الملون وبلوحاتها الجدارية، لكنه لم يبدِ كبير اهتمام بالفنون، بل كان هدفه أن يدرس الكيمياء. وعلى الرغم من ذلك حصل بدعم أحد مدرسيه الذي كان معجباً برسوماته المدرسية على منحة دراسية في معهد الفنون والحرف في ڤيينا من عام 1905 حتى 1909، وسرعان ما صار مساعد مدرس، ثم عضواً في «ستوديو ڤيينا الحِرفي» الذي كلّفه تنفيذ أعمال عدة حتى عام 1909. درس أيضاً الرسم والطباعة الحجرية وتجليد الكتب وحرفاً أخرى؛ ولما كانت مقررات المنهاج التدريسي متمحورة حول الفنون التزيينية، كما في الاستوديو أيضاً، من دون أي اهتمام بدراسة الجسد البشري وتشريحه، فقد كان غير راضٍ وغير مُكتفٍ بما حصل عليه أكاديمياً وحرفياً. فقد كان منطلق اهتمامه بالفن التشكيلي هو الجسد البشري مصدر المشاعر والعواطف الإنسانية التي سَمَت باهتمامه هذا وصعّدته. ولكي يحقق كوكوشكا اهتماماته بوسائل عملية، استأجر لدروسه المسائية أطفال فن السيرك (ألعاب الأكروبات) akrobat النحال الأبدان وذوي العضلات المفتولة وجعلهم نماذج (موديلات) لتلامذته الذين طالبهم برسم النموذج بخطوط سريعة sketches. لقد اعتمد كوكوشكا الجسد البشري موضوعاً دالاً motif تزيينياً في تصميماته للبطاقات البريدية وفي تجليد الكتب والملصقات التزيينية bookplates التي يضعها مقتنو الكتب على كتبهم. إلا أن رغبته الحقيقية كانت أن يرسم لوحات زيتية ضخمة، لكن الجو العام في ڤيينا حينذاك ووضعه المالي الصعب اضطره إلى التركيز في تلك المرحلة على الأعمال التزيينية.
التقى كوكوشكا في عام 1908 المهندس المعماري النمساوي الشهير أدولف لوس Adolf Loos الذي شاهد إحدى زيتيات كوكوشكا المبكرة وتركت لديه انطباعاً ينسجم مع رفضه للذائقة الفنية السائدة، فتحمس له ودعمه وقدمه إلى فنانين متعاطفين مع هذا التوجه، مما ساعد على تكليفه تنفيذ أعمال زيتية عدة، ووفر له الدعم المعنوي الذي كان يحتاج إليه وقتئذ أكثر من أي شيء آخر. وفي أثناء هذه المرحلة المبكرة أنتج كوكوشكا مناظر طبيعية بخطوط رشيقة نابضة بالحياة وألوان معبرة. وقد تبدو أعماله هذه للوهلة الأولى منسجمة مع مبادئ المدرسة التعبيرية، من جراء ألوانها الزاهية وتصويرها السريع الزوال للأشكال ohne Konturen وانشغاله المستغرِق في عنصر النور، إلا أن رؤياه كانت مغايرة لرؤيا التعبيريين الذين كان هدفهم تمثيل ما يصدم العين، في حين ابتغى كوكوشكا بألوانه التعبير عن السمات العاطفية للمشهد، الأمر الذي يتجلى في لوحته «أسنان الظهيرة» dents du midi (1909) وهي منظر طبيعي مغطى بالثلج ومعالج بألوان دافئة.
في المرحلة نفسها بدأ كوكوشكا بالتعبير عن أرائه وتصوراته أدبياً، فكتب مسرحيات عدة بشّرت بالمسرح التعبيري الجديد، حاملة في ثناياها كثيراً من سمات سريالية Surrealism، ومعبرة عن فلسفته الإنسانية الرحيمة، مثل «قتلة، أمل النساء» Mörder¨ Hoffnung der Frauen (1907)، التي قدّمها عرضاً أول مرة عام 1908 في مسرح الهواء الطلق التابع لـ«معرض الفن» Kunstschau في عتمةٍ تضيئها المشاعل وقد صبغ الممثلون وجوههم ولبسوا أزياء بتصميمات نور البرق المعروفة في لوحاته الزيتية، وهي تعالج في أجواء أسطورية قديمة سعي رجلٍ بلا اسمٍ إلى تحرير نفسه من رغائبه في المرأة، وتوقه إلى حبها في الوقت نفسه، في كـابوس جنسي عنيف معنوياً وجسدياً. وقد استحوذ النص على اهتمـام الموسيقي باول هِندِميت Paul Hindemith فحوّله في عام 1920 إلى أوبرا. وفي العام نفسه كتب كوكوشكا أيضاً مسرحية «الهولة والدَيّوث» Sphinx und Strohmann التي أعاد صوغها ونشرها عام 1917 بعنوان «أيوب» Hiob، وهي ملهاة (كوميديا) ساخرة عن مواقف ديّوثٍ وتحولاته في مواجهة الهولة، وهي الكائن الأسطوري الذي يتمثل في شكل لبوة لها صدر امرأة ورأسها وجناحين قويين. وبعد أربع سنوات ظهرت مسرحية «شجيرة الشوك الملتهبة» Der brennende dornbusch (1911) التي عاد فيها إلى معالجة قطبيةِ العلاقة بين المرأة والرجل، وحتمية تلاقيهما وافتراقهما إلى أن تصير المرأة أماً أو أختاً فتنطفئ رغبتها الملتهبة. وتبعتها في عام 1915 المسرحية الأسطورية «أورفيوس ويوريديكِه» Orpheus und Euridike، وهي كسابقتها تأويل ميتافيزيقي لـ«العداء الأول» بين الجنسين حسب مفهوم سترندبرغ Strindberg عن العلة الأولى للوجود. وحتى العشرينيات بقيت الإشكالية البشرية محصورة لدى كوكوشكا في صراع الجنسين الذي لا مخرج منه موضوعة شعرية رئيسية. وفي تخليص ما هو جنسي من المحرم tabu التقط الشاعر قضية العصر التي تجلت في أعمال فرويد S.Freud وشنيتسلر وڤدِكيند F.Wedekind وتسفايغ S.Zweig. وقد كان من حسنات التقاء كوكوشكا مع أدولف لوس أن أدخله الأخير في حلقة أدباء العصر ومفكريه الذين رسم لبعضهم صوراً شخصية متميزة أراد من خلالها أن يتخطى المظهر الخارجي أو السطح البرجوازي ليضيء أعماق الشخصية بالخط واللون، فكان يبالغ أحياناً في رسم ملامح ولفتات معينة للشخصية لكي يعبر عن حالتها النفسية.
أوسكار كوكوشكا: «عروس الريح» (1914)
شـارك كوكوشكا في المعارض الفنية في عـامي 1908 و 1909، ثم أقام معرضه الفني الأول عام 1910 في متحف فولكفانغ Folkwang في هاغن Hagen، واستقبلت مجلة «العاصفة» Der Sturm الفنية هذا المعرض بمقالات إيجابية عدة كان لها تأثيرها في تسليط الأضواء على الفنان الشاب، فاستدعاه مؤسس المجلة هرفات فالدن Herwath Walden إلى برلين، مركز الفن في ألمانيا، لينضم إلى حلقة فنانيّ المجلة: مارك F.Mark وكامبندونك H.Campendonk وكْلْي P.Klee وكاندينسكي V.Kandinsky، فتوزع وقت كوكوشكا بين ڤيينا وبرلين، وشارك عام 1911 في معرض المجلة إلى جانب فنانيها من مشاهير أوربا. وفي تلك الآونة سبّبت عروض مسرحيتيه الأوليين فضيحة أدت إلى إيقافه عن التدريس في «معهد الفنون والحرف»، والتقى ألما مالر Alma Mahler أرملة المؤلف الموسيقي غوستاف مالر [ر] G.Mahler التي تكبره بسبع سنوات، وتطور اللقاء إلى علاقة حميمة انتهت مع اندلاع الحرب العالمية الأولى حين تطوع كوكوشكا في الجيش النمساوي. وفي هذه المرحلة العاطفية بدأ الفنان برسم صور شخصية باعتماد ضربات فرشاة تزداد اتساعاً وتلويناًَ، وخطوط ملتوية وقاطعة تحدد أشكالاً واجفة ومضطربة، ثم صارت أكثر ثقلاً مع انكسارات لم تعد تحوي أشكالاً. ومن أشهر لوحات تلك المرحلة «أوسكار كوكوشكا وألما مالر» (1912) و«صورة ذاتية مشيراً إلى الصدر» (1913) و«العاصفة» (1914). وفي هذه اللوحات جميعها، بما فيها المناظر الطبيعية، يتولد لدى المشاهد الإحساس بالتواصل العاطفي بين موضوع التصوير وذات الفنان، بصفته ضرورة تعبيرية.
قام كوكوشكا ومالر برحلة طويلة إلى إيطاليا بين 1912-1913 رسم في اثنائها صورته الشخصية معها، وكتب قصيدته الشهيرة «ألوس مَكار» Alos Makar وجعل عنوانها من حروف اسميهما. لكن والدته لم تكن راضية عن هذه العلاقة، وهددت بإطلاق النار على ألما مالر لإنقاذ ابنها. وتقترب لوحات كوكوشكا التعبيرية في هذه الأثناء من تخوم الشعر، بعناصرها السريالية ونوعيتها الُحُلمية. ويحتمل أن يكون لكتاب فرويد «تفسير الأحلام» Die Traumdeutung (1900) أثر في ذلك.
في الحرب العالمية الأولى أصيب كوكوشكا بطلقة في رأسه وطعنة حربة في خاصرته فنقل إلى المستشفى في برنو Brno ثم إلى ڤيينا حيث تعرّف الشاعر ريلكه R.Rilke والمسرحي هوفمَنْستال Hofmannsthal، وفي شهر آب/أغسطس عام 1916 تعرض كوكوشكا لانهيار عصبي ناتج من هذيانات الحرب فأعيد إلى المستشفى، ثم غادره في مطلع 1917 لفترة نقاهة في ستوكهولم، عاد بعدها إلى درسدن حيث صار محوراً لمجموعة بوهيمية من الممثلين والكتاب، وشارك عام 1918 في معرض دادا Dada Gallery في زوريخ، كما عرض مجموعة من أعمال الحفر في معرض كاسيرر Cassirer في برلين، ونشر مسرحياته الأربع في كتاب. وفي العام التالي عُيّن مدرساً في أكاديمية درسدن مما أدى إلى انصرافه عن المسائل الشخصية وتحوله إلى الاستغراق في تصوير المناظر الطبيعية. وفي أثناء السنوات اللاحقة قدم مسرحيات مونودرامية عدة Monodrama (ممثل واحد) وصور بعض أهم أعماله مثل «درسدن، جسر على نهر إلبِه» (1923) و«فينيسيا، زوارق في الدوغانا» (1924). صُدم كوكوشكا بعنفِ الحرب التي قامت لتحقيق أهداف السياسيين، ثم صدم ثانية بممارسات الثورة البلشفية من أجل السلطة، فخاب أمله ونشر عام 1920 «بيان درسدن» Das Dresdener Manifest الذي أعلن فيه رفضه اللجوء إلى القتال حلاً للمشكلات السياسية، لأن العنف لا يمت إلى الإنسانية بصلة.
أوسكار كوكوشكا: «شاطئ بالقرب من دوﭭر» (1926)
استقال كوكوشكا عام 1924 من الأكاديمية وقام برحلات طويلة عبر أوربا وإلى شمالي إفريقيا والشرق الأوسط، ورسم إبان هذه المرحلة سلسلة من المناظر الطبيعية التي تشكل ذروة المرحلة الإبداعية الثانية، ومنها «لندن، منظر نهر التيمز» (1926) و«القـدس» (1929) و«براغ، جسر كارل» (1934). وعندما عاد إلى ڤيينا عام 1931 أبدى احتجاجه على سياسة مستشار الدولة بلوحات عدة مفعمة بفرح الأطفال أنجزها لمصالحة «مجلس المدينة الاشتراكي»، ثم غادر إلى براغ عام 1934 حيث قام بتصوير رئيس الدولة الفيلسوف توماش ماساريك Tomas Masaryk، ودخل معه في جدل حول أفكار اللاهوتي يان آموس كومِنيوس (القرن 17م) J.A.Comenius ذي النزعة الإنسانية العميقة، وكانت النتيجة أن صور كوكوشكا كومِينوس في خلفية صورة ماساريك الشخصية رابطاً بذلك الفكر الإنساني بين الماضي والحاضر، وبدأ عام 1935 بكتابة مسرحية «كومِنيوس». وفي براغ التقى الفنان كوكوشكا أُلدا بالكوڤسكا Olda Palkovska التي صارت زوجته.
حين اتخذ النازيون موقفاً مناهضاً لفن كوكوشكا بوصفه فناً منحطاً واستبعدوا لوحاته من المتاحف والمعارض والمجموعات الخاصة، شعر الفنان بخطر النازية على الثقافة والإنسانية، فهرب عام 1938 مع ألدا بالكوڤسكا إلى لندن حيث أمضى سنوات الحرب العالمية الثانية في ظروف مزرية على الصعيد المالي والاجتماعي والنفسي، وحصل على الجنسية البريطانية عام 1947. وفي هذه المرحلة، وبسبب الضيق المالي نفّذ كوكوشكا بالألوان المائية الرخيصة عدداً من اللوحات الضخمة تعبر عن معاناة البشرية من الحرب وذيولها.
على أثر سقوط النازية كُرّم كوكوشكا في ڤيينا عام 1947 بمعرض ضخم لأعماله، لحقته معارض فردية متعددة في كثير من العواصم الأوربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية، فانتعشت أوضاعه المالية والنفسية، واستمر في رسم الصور الشخصية والمناظر الطبيعية التي أخذت تستعيد حيوية لوحات شبابه وكثافتها، وأنجز في عام 1950 أول موضوعاته الأسطورية في التصوير في ثلاثية «برومِثيوس» Prometheus. وفي عام 1953 انتقل مع زوجته إلى سويسرا للإقامة فيها، وأسس في مدينة سالزبورغ النمساوية فصلاً دراسياً أسماه «مدرسة المشاهدة» Schule des Sehens وذلك في إطار الأكاديمية الدولية الصيفية. كما انتهى في عام 1954 من ثلاثيته الأسطورية الثانية «ثرموبيلاي» Thermopylai (البوابات الحارة)، واشتغل في تصميم المنسوجات والديكور المسرحي والطباعة الحجرية، واستمر في الوقت نفسه في رسم اللوحات ذات الطابع السياسي تعبيراً عن احتجاجه على مضاعفات الحرب الأهلية الإسبانية والحرب العالمية الثانية على أطفال أوربا، وضد التدخل السوڤييتي في المجر. وتعد لوحاته الأخيرة - بغض النظر عن اختلاف آراء النقاد حول فنيتها - إسهاماً مهماً في تكوين الذاكرة البشرية من خـلال الموضوعـات والشـخصيات المفصلية في التاريخ التي تجلت في لوحـاته. كما تعد سـيرته الذاتية «حيـاتي» Mein Leben (1964) عملاً فكرياً وأدبياً مهماً.
نبيل الحفار
كوكوشكا (أوسكار ـ)
(1886 ـ 1980)
أوسكار كوكوشكا Oskar Kokoschka مصور ورسام وحفار ومصمم «ديكور مسرح» وكاتب مسرحي وشاعر نمساوي، يعدّ مسرحياً رائد الحركة التعبيرية expressionism، ويؤلف مع غوستاف كليمْت Gustav Klimt وإيغون شيلِه Egon Schiele الثالوث الفني في ڤيينا في مطلع القرن العشرين. ولد في بلدة بوكلارْن Pochlarn على نهر الدانوب غربي العاصمة وتوفي في ڤيلّنوف Villeneuve السويسرية. كان والده صائغ ذهب من براغ، أفلس عام 1889، مما اضطر العائلة إلى الانتقال إلى ڤيينا بحثاً عن فرصة عمل جديدة، وكانت والدته من جبال ستيريا Styria حكواتية بارعة ذات خيال خصب وإدراك مسبق للمستقبل، وكان لها بالغ الأثر في طفولة أوسكار الذي نشأ مع إخوته الثلاثة في ظروف مادية صعبة، فقد عمل الوالد بائعاً جوالاً محدود الدخل، ومع وفاة الأخ الأكبر عام 1891 دخلت المأساة حياة العائلة وتجذرت فيها. وكان كوكوشكا إبان مرحلة التعليم الثانوي في المدرسة الحكومية يُغني في جوقةِ كنيسةٍ باروكية العمارة فتأثر بزجاج نوافذها الملون وبلوحاتها الجدارية، لكنه لم يبدِ كبير اهتمام بالفنون، بل كان هدفه أن يدرس الكيمياء. وعلى الرغم من ذلك حصل بدعم أحد مدرسيه الذي كان معجباً برسوماته المدرسية على منحة دراسية في معهد الفنون والحرف في ڤيينا من عام 1905 حتى 1909، وسرعان ما صار مساعد مدرس، ثم عضواً في «ستوديو ڤيينا الحِرفي» الذي كلّفه تنفيذ أعمال عدة حتى عام 1909. درس أيضاً الرسم والطباعة الحجرية وتجليد الكتب وحرفاً أخرى؛ ولما كانت مقررات المنهاج التدريسي متمحورة حول الفنون التزيينية، كما في الاستوديو أيضاً، من دون أي اهتمام بدراسة الجسد البشري وتشريحه، فقد كان غير راضٍ وغير مُكتفٍ بما حصل عليه أكاديمياً وحرفياً. فقد كان منطلق اهتمامه بالفن التشكيلي هو الجسد البشري مصدر المشاعر والعواطف الإنسانية التي سَمَت باهتمامه هذا وصعّدته. ولكي يحقق كوكوشكا اهتماماته بوسائل عملية، استأجر لدروسه المسائية أطفال فن السيرك (ألعاب الأكروبات) akrobat النحال الأبدان وذوي العضلات المفتولة وجعلهم نماذج (موديلات) لتلامذته الذين طالبهم برسم النموذج بخطوط سريعة sketches. لقد اعتمد كوكوشكا الجسد البشري موضوعاً دالاً motif تزيينياً في تصميماته للبطاقات البريدية وفي تجليد الكتب والملصقات التزيينية bookplates التي يضعها مقتنو الكتب على كتبهم. إلا أن رغبته الحقيقية كانت أن يرسم لوحات زيتية ضخمة، لكن الجو العام في ڤيينا حينذاك ووضعه المالي الصعب اضطره إلى التركيز في تلك المرحلة على الأعمال التزيينية.
التقى كوكوشكا في عام 1908 المهندس المعماري النمساوي الشهير أدولف لوس Adolf Loos الذي شاهد إحدى زيتيات كوكوشكا المبكرة وتركت لديه انطباعاً ينسجم مع رفضه للذائقة الفنية السائدة، فتحمس له ودعمه وقدمه إلى فنانين متعاطفين مع هذا التوجه، مما ساعد على تكليفه تنفيذ أعمال زيتية عدة، ووفر له الدعم المعنوي الذي كان يحتاج إليه وقتئذ أكثر من أي شيء آخر. وفي أثناء هذه المرحلة المبكرة أنتج كوكوشكا مناظر طبيعية بخطوط رشيقة نابضة بالحياة وألوان معبرة. وقد تبدو أعماله هذه للوهلة الأولى منسجمة مع مبادئ المدرسة التعبيرية، من جراء ألوانها الزاهية وتصويرها السريع الزوال للأشكال ohne Konturen وانشغاله المستغرِق في عنصر النور، إلا أن رؤياه كانت مغايرة لرؤيا التعبيريين الذين كان هدفهم تمثيل ما يصدم العين، في حين ابتغى كوكوشكا بألوانه التعبير عن السمات العاطفية للمشهد، الأمر الذي يتجلى في لوحته «أسنان الظهيرة» dents du midi (1909) وهي منظر طبيعي مغطى بالثلج ومعالج بألوان دافئة.
في المرحلة نفسها بدأ كوكوشكا بالتعبير عن أرائه وتصوراته أدبياً، فكتب مسرحيات عدة بشّرت بالمسرح التعبيري الجديد، حاملة في ثناياها كثيراً من سمات سريالية Surrealism، ومعبرة عن فلسفته الإنسانية الرحيمة، مثل «قتلة، أمل النساء» Mörder¨ Hoffnung der Frauen (1907)، التي قدّمها عرضاً أول مرة عام 1908 في مسرح الهواء الطلق التابع لـ«معرض الفن» Kunstschau في عتمةٍ تضيئها المشاعل وقد صبغ الممثلون وجوههم ولبسوا أزياء بتصميمات نور البرق المعروفة في لوحاته الزيتية، وهي تعالج في أجواء أسطورية قديمة سعي رجلٍ بلا اسمٍ إلى تحرير نفسه من رغائبه في المرأة، وتوقه إلى حبها في الوقت نفسه، في كـابوس جنسي عنيف معنوياً وجسدياً. وقد استحوذ النص على اهتمـام الموسيقي باول هِندِميت Paul Hindemith فحوّله في عام 1920 إلى أوبرا. وفي العام نفسه كتب كوكوشكا أيضاً مسرحية «الهولة والدَيّوث» Sphinx und Strohmann التي أعاد صوغها ونشرها عام 1917 بعنوان «أيوب» Hiob، وهي ملهاة (كوميديا) ساخرة عن مواقف ديّوثٍ وتحولاته في مواجهة الهولة، وهي الكائن الأسطوري الذي يتمثل في شكل لبوة لها صدر امرأة ورأسها وجناحين قويين. وبعد أربع سنوات ظهرت مسرحية «شجيرة الشوك الملتهبة» Der brennende dornbusch (1911) التي عاد فيها إلى معالجة قطبيةِ العلاقة بين المرأة والرجل، وحتمية تلاقيهما وافتراقهما إلى أن تصير المرأة أماً أو أختاً فتنطفئ رغبتها الملتهبة. وتبعتها في عام 1915 المسرحية الأسطورية «أورفيوس ويوريديكِه» Orpheus und Euridike، وهي كسابقتها تأويل ميتافيزيقي لـ«العداء الأول» بين الجنسين حسب مفهوم سترندبرغ Strindberg عن العلة الأولى للوجود. وحتى العشرينيات بقيت الإشكالية البشرية محصورة لدى كوكوشكا في صراع الجنسين الذي لا مخرج منه موضوعة شعرية رئيسية. وفي تخليص ما هو جنسي من المحرم tabu التقط الشاعر قضية العصر التي تجلت في أعمال فرويد S.Freud وشنيتسلر وڤدِكيند F.Wedekind وتسفايغ S.Zweig. وقد كان من حسنات التقاء كوكوشكا مع أدولف لوس أن أدخله الأخير في حلقة أدباء العصر ومفكريه الذين رسم لبعضهم صوراً شخصية متميزة أراد من خلالها أن يتخطى المظهر الخارجي أو السطح البرجوازي ليضيء أعماق الشخصية بالخط واللون، فكان يبالغ أحياناً في رسم ملامح ولفتات معينة للشخصية لكي يعبر عن حالتها النفسية.
أوسكار كوكوشكا: «عروس الريح» (1914)
شـارك كوكوشكا في المعارض الفنية في عـامي 1908 و 1909، ثم أقام معرضه الفني الأول عام 1910 في متحف فولكفانغ Folkwang في هاغن Hagen، واستقبلت مجلة «العاصفة» Der Sturm الفنية هذا المعرض بمقالات إيجابية عدة كان لها تأثيرها في تسليط الأضواء على الفنان الشاب، فاستدعاه مؤسس المجلة هرفات فالدن Herwath Walden إلى برلين، مركز الفن في ألمانيا، لينضم إلى حلقة فنانيّ المجلة: مارك F.Mark وكامبندونك H.Campendonk وكْلْي P.Klee وكاندينسكي V.Kandinsky، فتوزع وقت كوكوشكا بين ڤيينا وبرلين، وشارك عام 1911 في معرض المجلة إلى جانب فنانيها من مشاهير أوربا. وفي تلك الآونة سبّبت عروض مسرحيتيه الأوليين فضيحة أدت إلى إيقافه عن التدريس في «معهد الفنون والحرف»، والتقى ألما مالر Alma Mahler أرملة المؤلف الموسيقي غوستاف مالر [ر] G.Mahler التي تكبره بسبع سنوات، وتطور اللقاء إلى علاقة حميمة انتهت مع اندلاع الحرب العالمية الأولى حين تطوع كوكوشكا في الجيش النمساوي. وفي هذه المرحلة العاطفية بدأ الفنان برسم صور شخصية باعتماد ضربات فرشاة تزداد اتساعاً وتلويناًَ، وخطوط ملتوية وقاطعة تحدد أشكالاً واجفة ومضطربة، ثم صارت أكثر ثقلاً مع انكسارات لم تعد تحوي أشكالاً. ومن أشهر لوحات تلك المرحلة «أوسكار كوكوشكا وألما مالر» (1912) و«صورة ذاتية مشيراً إلى الصدر» (1913) و«العاصفة» (1914). وفي هذه اللوحات جميعها، بما فيها المناظر الطبيعية، يتولد لدى المشاهد الإحساس بالتواصل العاطفي بين موضوع التصوير وذات الفنان، بصفته ضرورة تعبيرية.
قام كوكوشكا ومالر برحلة طويلة إلى إيطاليا بين 1912-1913 رسم في اثنائها صورته الشخصية معها، وكتب قصيدته الشهيرة «ألوس مَكار» Alos Makar وجعل عنوانها من حروف اسميهما. لكن والدته لم تكن راضية عن هذه العلاقة، وهددت بإطلاق النار على ألما مالر لإنقاذ ابنها. وتقترب لوحات كوكوشكا التعبيرية في هذه الأثناء من تخوم الشعر، بعناصرها السريالية ونوعيتها الُحُلمية. ويحتمل أن يكون لكتاب فرويد «تفسير الأحلام» Die Traumdeutung (1900) أثر في ذلك.
في الحرب العالمية الأولى أصيب كوكوشكا بطلقة في رأسه وطعنة حربة في خاصرته فنقل إلى المستشفى في برنو Brno ثم إلى ڤيينا حيث تعرّف الشاعر ريلكه R.Rilke والمسرحي هوفمَنْستال Hofmannsthal، وفي شهر آب/أغسطس عام 1916 تعرض كوكوشكا لانهيار عصبي ناتج من هذيانات الحرب فأعيد إلى المستشفى، ثم غادره في مطلع 1917 لفترة نقاهة في ستوكهولم، عاد بعدها إلى درسدن حيث صار محوراً لمجموعة بوهيمية من الممثلين والكتاب، وشارك عام 1918 في معرض دادا Dada Gallery في زوريخ، كما عرض مجموعة من أعمال الحفر في معرض كاسيرر Cassirer في برلين، ونشر مسرحياته الأربع في كتاب. وفي العام التالي عُيّن مدرساً في أكاديمية درسدن مما أدى إلى انصرافه عن المسائل الشخصية وتحوله إلى الاستغراق في تصوير المناظر الطبيعية. وفي أثناء السنوات اللاحقة قدم مسرحيات مونودرامية عدة Monodrama (ممثل واحد) وصور بعض أهم أعماله مثل «درسدن، جسر على نهر إلبِه» (1923) و«فينيسيا، زوارق في الدوغانا» (1924). صُدم كوكوشكا بعنفِ الحرب التي قامت لتحقيق أهداف السياسيين، ثم صدم ثانية بممارسات الثورة البلشفية من أجل السلطة، فخاب أمله ونشر عام 1920 «بيان درسدن» Das Dresdener Manifest الذي أعلن فيه رفضه اللجوء إلى القتال حلاً للمشكلات السياسية، لأن العنف لا يمت إلى الإنسانية بصلة.
أوسكار كوكوشكا: «شاطئ بالقرب من دوﭭر» (1926)
استقال كوكوشكا عام 1924 من الأكاديمية وقام برحلات طويلة عبر أوربا وإلى شمالي إفريقيا والشرق الأوسط، ورسم إبان هذه المرحلة سلسلة من المناظر الطبيعية التي تشكل ذروة المرحلة الإبداعية الثانية، ومنها «لندن، منظر نهر التيمز» (1926) و«القـدس» (1929) و«براغ، جسر كارل» (1934). وعندما عاد إلى ڤيينا عام 1931 أبدى احتجاجه على سياسة مستشار الدولة بلوحات عدة مفعمة بفرح الأطفال أنجزها لمصالحة «مجلس المدينة الاشتراكي»، ثم غادر إلى براغ عام 1934 حيث قام بتصوير رئيس الدولة الفيلسوف توماش ماساريك Tomas Masaryk، ودخل معه في جدل حول أفكار اللاهوتي يان آموس كومِنيوس (القرن 17م) J.A.Comenius ذي النزعة الإنسانية العميقة، وكانت النتيجة أن صور كوكوشكا كومِينوس في خلفية صورة ماساريك الشخصية رابطاً بذلك الفكر الإنساني بين الماضي والحاضر، وبدأ عام 1935 بكتابة مسرحية «كومِنيوس». وفي براغ التقى الفنان كوكوشكا أُلدا بالكوڤسكا Olda Palkovska التي صارت زوجته.
حين اتخذ النازيون موقفاً مناهضاً لفن كوكوشكا بوصفه فناً منحطاً واستبعدوا لوحاته من المتاحف والمعارض والمجموعات الخاصة، شعر الفنان بخطر النازية على الثقافة والإنسانية، فهرب عام 1938 مع ألدا بالكوڤسكا إلى لندن حيث أمضى سنوات الحرب العالمية الثانية في ظروف مزرية على الصعيد المالي والاجتماعي والنفسي، وحصل على الجنسية البريطانية عام 1947. وفي هذه المرحلة، وبسبب الضيق المالي نفّذ كوكوشكا بالألوان المائية الرخيصة عدداً من اللوحات الضخمة تعبر عن معاناة البشرية من الحرب وذيولها.
على أثر سقوط النازية كُرّم كوكوشكا في ڤيينا عام 1947 بمعرض ضخم لأعماله، لحقته معارض فردية متعددة في كثير من العواصم الأوربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية، فانتعشت أوضاعه المالية والنفسية، واستمر في رسم الصور الشخصية والمناظر الطبيعية التي أخذت تستعيد حيوية لوحات شبابه وكثافتها، وأنجز في عام 1950 أول موضوعاته الأسطورية في التصوير في ثلاثية «برومِثيوس» Prometheus. وفي عام 1953 انتقل مع زوجته إلى سويسرا للإقامة فيها، وأسس في مدينة سالزبورغ النمساوية فصلاً دراسياً أسماه «مدرسة المشاهدة» Schule des Sehens وذلك في إطار الأكاديمية الدولية الصيفية. كما انتهى في عام 1954 من ثلاثيته الأسطورية الثانية «ثرموبيلاي» Thermopylai (البوابات الحارة)، واشتغل في تصميم المنسوجات والديكور المسرحي والطباعة الحجرية، واستمر في الوقت نفسه في رسم اللوحات ذات الطابع السياسي تعبيراً عن احتجاجه على مضاعفات الحرب الأهلية الإسبانية والحرب العالمية الثانية على أطفال أوربا، وضد التدخل السوڤييتي في المجر. وتعد لوحاته الأخيرة - بغض النظر عن اختلاف آراء النقاد حول فنيتها - إسهاماً مهماً في تكوين الذاكرة البشرية من خـلال الموضوعـات والشـخصيات المفصلية في التاريخ التي تجلت في لوحـاته. كما تعد سـيرته الذاتية «حيـاتي» Mein Leben (1964) عملاً فكرياً وأدبياً مهماً.
نبيل الحفار