الشعر المحكم والشعر المنثور
لا أجد أجمل من تشبيه اليونان للشعر بمركبة يجرها زوجان من الخيول الجبارة هما الخيال والشعور ، ويوجهها قائد حكيم هو العقل ، وهذه المركبة تسبح فوق الغيوم . فالشاعر الكبير رائد من رواد البشرية يسبق خطاها ليبين لها الطريق . فهو يطلع من خفايا الحياة على ما لا يطلع عليه الآخرون . وهو يحسها في صميمها ، مجردة عن الملابسات الوقتية . وقيمته انما تقاس بمقدار اتصاله بالكون الازلي من وراء الحواجز والسدود . فهو قادر على أن ينقلنا دائماً عن طريق الخاطرة الجزئية الوقتية الى الاحساس الكلي بصلتنا الكبرى بالحياة . وطابع الشخصية هو السمة الاولى لكل أديب أصيل . وهو لا يقتصر على النظرة الشعورية الى الكون والحياة ، بل يتعداها الى طريقة تتناول الموضوع والاسلوب ، والتعبير نفسه ، واختيار الالفاظ فيه .. . ثم ا مقدار احساس الشاعر في لحظاته الشعورية بالكون كله ، وبصلة الفرد بهذا الكون السرمدي . والسمة الثالثة. الشعور ، لانه لا يتاح للشاعر ايصالنا بالكون الا اذا كان صادقاً في السمة الثانية هي الصدق في هي شعوره .
وليست وظيفة التعبير في الادب هي الدلالة المعنوية للالفاظ والعبارات ، بل تضاف الى هذه الدلالة مؤثرات أخرى يكمل بها الاداء الفني ، وهي جزء أصيل من التعبير الادبي . هذه المؤثرات هي الايقاع الموسيقي للكلمات ، والعبارات والصور والظلال التي يشعها اللفظ وتشعها العبارات زائدة على المعنى الذهني ، ثم طريقة تناول الموضوع والسير فيه بالاسلوب الذي تعرض به التجارب وتنسق على أساسه الكلمات والعبارات . ولا شك بأن الانفعالات الشعورية تسبق التعبير عنها ، وفي بعض الحالات تكون هذه الانفعالات من الحرارة والعمق بحيث تعمر احساس الاديب وتجعله في حالة لا وعي ، وحينئذ تقفز الالفاظ والعبارات وتتناسق مع بعضها وكأنها تصنع ذلك بدون اختيار منه وذلك في اللحظات المتفردة للالهام . ومثل هذه اللحظات نادرة في حياة الاديب ، ولذا فان عليه دائماً أن للالفاظ نظاماً ونسقاً وجواً لها بأن الصور والظلال والايقاع ، وأن تتناسق ظلالها وايقاعاتها مع الجو الشعوري الذي يريد أن يرسمه . فلا يقف بها عند الدلالة المعنوية الذهنية ، ولا يقيم اختياره للالفاظ على هذا الاساس وحده وان كان لا بد منه في التعبير ليفهم الآخرون ما يريد. والاديب الموهوب هو الذي يرد على اللفظ حياته ، فيجعله يشع صورة وظلا ويرسم حالة ومشهدا . فالعبارة تستمد دلالتها من مفردات الدلالات اللغوية للالفاظ ، الدلالة المعنوية الناشئة عن اجتماع الالفاظ وترتيبها في نسق معين ، ثم من الايقاع الموسيقي الناشيء من مجموعة ايقاعات الالفاظ متناغماً بعضها مع بعض ، ثم من الصور والظلال التي تشعها الالفاظ متناسقة في العبارة . وعلى ذلك اذا اردنا الحكم على قيمة العمل الادبي من خلال العبارة لا نكتفي بالدلالة المعنوية فقط، بل نضم اليها عنصري الايقاع والظلال .
ومهمة الاديب الاساسية أن يعرض الانفعالات الانسانية ، وأن يصف جزئياتها ويسجل المظاهر التي صاحبتها في نفس من ما أحاط بهذا التصوير من تأثر . وكلما كان دقيقاً في سرد التفصيلات التي مرت بها الانفعالات . خلال النفس - على قدر ما تسمح به طبيعة كل فن من فنون الادب - كان ذلك أدعى الى اكتمال العمل الادبي وأضمن لاستثارة المشاعر واستجابتها . وكلما كان الشعر أقرب الى طريقة القصة في رسم الجو النفسي والطبيعي ، وفي سرد الاحاسيس المتتابعة في أثناء الهيجان الشعوري ، وتصوير جزئيات المشاعر والتصورات المصاحبة له في حدود ما يناسبه كان أسرع الى اثارة الوجدانات المماثلة في شعور الآخرين ، وأقرب الى مجاراة الشعر الغربي في هذا الاتجاه .
والشعر متميز الطبيعة عن النثر بحكم ظهور الايقاع الموسيقي المقسم فيه وبحكم القافية . وهناك ما هو أعمق . هناك الروح الشعرية التي قد توجد أحياناً في بعض فنون النثر أيضاً فتكاد تحيله شعراً هناك يقظات شعورية معينة تثير انفعالات شعورية خاصة لا يستنفدها الا التعبير الشعري . وقد لا يكون صاحبها من القادرين على النظم ، فيعبر عنها نثراً . ولكنه نثر شبه موزون من ناحية الايقاع ، ومشحون أيضاً بالصور والظلال التي هي . ميزة الشعر الكبرى . وهذا ما نسميه بالشعر المنثور . وكلما كانت درجة الانفعال فيه أقوى جاء التعبير أجود بالقياس الى الشاعر الواحد . ولا شك بأن للايقاع وظيفة خاصة يؤديها في استنفاد الطاقة الشعورية ، وهو جزء من دلالة التعبير كالدلالة المعنوية اللغوية . أما الصور والظلال فهي استنفاد لطاقة الحس والخيال المصاحب لليقظات الشعورية القوية الفائضة . التعبير اللفظي المجرد . ولا شك أيضاً بأن الروح الشعرية هي الاحساس بما هو أرفع وأقوى على العموم من الحياة العادية أيا كان لون هذا الاحساس روحياً أو حسياً ، فالشعر اذن هو تعبير عن اللحظات الاقوى والاملا بالطاقة الشعورية في الحياة . انه الغناء . الغناء المطلق بما في النفس من مشاعر وأحاسيس وانفعالات ترتفع عن الحياة العادية ، وتصل الى درجة التوهج والاشراق . فالشاعر الذي يصلنا بالكون اللامحدود ، والحياة الابدية المجردة من قيود الزمان والمكان بينما هو يعالج الموقف الصغير واللحظات الجزئية والحالات المنفردة هو الشاعر الكبير النادر الوجود . والشعر لأنه تعبير عن الحالات الفائضة في الحياة يحتاج أكثر من كل فن أدبي إلى شدة التطابق والتناسق بين التعبير والحالة الشعورية التي يعبر عنها . وليس المقصود هو رونق اللفظ أو جزالته ، ولا قوة الايقاع أو حلاوته . انما المقصود هو التناسق بين طبيعة اليقظة الشعورية ، وطبيعة الاشعاع الايقاعي والتصويري للفظ بحيث يتسق الجو الشعوري والجو التعبيري .
والشعر المنثور في النثر يقابل القصيدة الغنائية في الشعر . وكل ما قلناه في الشعر ينطبق على الشعر المنثور في عالم النثر ، مع واحد هو الوزن والقافية . وكثيراً ما يوجد فيه لون من الايقاع والتنغيم يقابل الوزن ، ونوع من التوافق في المقاطع يقابل القافية ، لان طبيعة الانفعالات التي يعالجها لا تستغني عن قوي من الايقاع الذي هو برغم تباين وحداته وعدم اضطرادها فانها تنساوق في مجموعها وتؤلف نفسها في النهاية هارمونيا واحدة تلك التي تكون مسيطرة على الشاعر أثناء الكتابة . فبينما يبدو جمال الشعر المنظوم في التجمع وصفاء الموسيقا ، وروعة الالقاء ، وعذوبة التغني ، واتساق النغم ، يبدو جمال الشعر المنثور في التسلسل والانطلاق من القيود. ويظهر لنا هذا في انتاج كثير من شعراء هذا العصر المحدثين ، المفتونين بالشعر الغربي ، المقلدين له ، العاجزين عن وصول القمم الشعرية الاصيلة التي وصل اليها المتنبي والمعري وشوقي والقروي رغم تشبتهم بتسميته بـ الشعر الحديث ليخلعوا على أنفسهم لقب - الشاعر . من أيسر طريق . فهم في هذه المواضيع ( النثر شعرية ) لا يريدون ان يؤدوا الينا فكرة ما ، بل يعرضوا علينا خاطرة او عدة خواطر شعورية لا ذهنية انفعلت بها أحاسيسهم كما ينفعل الشاعر باحساس ما ، فيسترسل معه ويرسمه لنا في صورة لفظية منسابة ، فيها اختيار للصور والظلال ومرا راعاة للايقاع ، لان هذه الخواطر أشبه شيء بخواطر الشعر الغنائي غير أنها لا تصلح مثله للغناء . ولا يستحق الشاعر أن يرقى الى صف العباقرة الأفذاذ الا ان علم عليم الاحاطة واليقين ماذا يريد أن يقول ؟ وكيف يستطيع ؟ وبأي الادوات يستطيع أن يعبر عن هذا الذي يريد تعبيراً دقيقاً لا زيادة فيه ولا نقصان ? . وأول طابع يميزه عن سائر الناس قدرته على أن يستخرج اللفظة المعينة عدداً ا من المعاني يعجز غيره عنها . فالالفاظ تتفجر في نفسه فتخرج كل ما تحوي في جوفها من صور ومشاعر وانفعالات وكل لفظة عنده تختلف عن الاخرى في حقائقها وسماتها . تقرأ للشاعر العظيم فكأنك تتابعه في ذلك العالم الروحي الذي كشف عنه الغطاء . وتحيا في التجارب التي أحسها في رحلته التي كشف فيها عن العالم . ثم هو يزيدك ملكات تستطيع بها أن تفهم بحيث تصبح جزءاً منك يجري في ويشعرك بعمرة ناعمة كغمرة الاحلام اللطاف .
تعليق