كتاب Book - Livre
الكتاب
في البداية وُجدت الكلمة، ومن الكلمة نشأت اللغة، ومن اللغة تطورت الحروف التي أدت إلى كتابة تلك الكلمة فالجملة والمقطع، ومن ثم الكتاب book. والكتاب تعريفاً هو ما جُمعت بين دفتيه معلومات مطولة بهدف نشرها وتداولها بين الناس ثم حفظها، كما تُطلق التسمية على بعض الأعمال الأدبية القديمة، مثل «كتاب الأموات» Book of the Dead المصري القديم الذي ضم مجموعة صلوات وتعاويذ سحرية لمرافقة الأموات إلى العالم الآخر، و«كتاب كيلز» Book of Kells (من القرن السابع ـ التاسع الميلادي والموجود في دير كيلز في إيرلندا) حول حياة السيد المسيح، ومخطوطات البحر الميت، وبعض أجزاء العهد القديم المسماة كتباً أو أسفاراً. إلا أن هذا التعريف يستبعد الكثير مما يمكن تسميته كتاباً؛ فمن منظور تاريخي تعد النقوش الجدارية في الكهوف والرسومات التي نحتها الإنسان على الصخور في أستراليا وفي غربي سورية وشمالي إفريقيا وصولاً إلى أوربا حتى أعالي شبه الجزيرة الإسكندنافية، وأيضاً نقوش الهنود الحمر في القارة الأمريكية، بمنزلة المرحلة الأولى في مسيرة الكتاب الطويلة.
الشكل (1)
نقوش هيروغليفية على جدران المعبد الجنائزي لرعمسيس الثالث في مدينة هابو
وقد خصّ القرآن الكريم «الكتاب» مكاناً رفيعاً، مثل ذاك الذي خصه صحف موسى u، التي أنزلت لهدي الناس الذين صاروا «أهل الكتاب». ومن هنا نبعت قدسية الكلمة المكتوبة قديماً، وحديثاً تلك المطبوعة بأشكالها كافة. وصار لهذه الكلمة من الرهبة ما يجعل تكذيبها صعباً حتى لو كانت مغلوطة؛ إذ إنها تملك مصداقية عالية تعبر بدورها عن إمكانات العقل البشري الإبداعية في العلوم (آينشتاين، فرويد)، والفلسفة (أرسطو، وابن رشد الذي أحرقت كتبه في عصره) والأدب. كذلك كافح جون ملتون J.Milton في «المحاكمة» Areopagitica (1644) من أجل حرية الكلمة والتعبير، ما لم يثنِ النازيين عن إقامة محرقة الكتب، إلا أن تاريخ الحضارة الإنسانية يحفل أيضاً بإسهامات عصور النهضة والتنوير في أوربا، من نتاج علمي وفلسفي وأدبي وموسوعي، ما صار دعماً هائلاً لمفاهيم المعرفة الإبداعية التي قد تضمها صفحات قليلة في ديوان شعر مثل «أزهار الشر» لبودلير أو في ألف صفحة في رواية «أوليس» للكاتب الإيرلندي جيمس جويس [ر].
الشكل (2)
مئتان واثنان وثمانون مادة من شريعة حمورابي بالكتابة المسمارية منقوشة على الحجر البازلتي
ابتكر الإنسان، الذي استقر بالقرب من الأنهار الكبيرة في بلاد الرافدين والشام ومصر، الكتابة المسمارية (نحو 3000 ق.م)، التي قامت على غرس أسافين في رقم طينية قبل تجفيفها وشيّها، وسيلة لتداول المعلومات وحفظها، فكانت «ملحمة غلغامش» Gilgamesh epic، وشريعة حمورابي التي نُقشت على الحجر، كما ظهرت مكتبات مدن ماري، على الفرات الأوسط، وإبلا وأغاريت في غربي سورية.
وعلى نحو مماثل ومتزامن تقريباً ظهرت النقوش الهيروغليفية في الأوابد المصرية القديمة على طول وادي النيل. وقد استخدم المصريون القدامى البردي papyrus، الذي كان الابتكار الأكثر تقدماً على طريق الكتاب بمفهومه المعروف، على شكل لفائف volumen دُونت عليها المعلومات. وقد انتقل استعمال هذه اللفائف إلى الثقافات اليونانية ثم الرومانية فالعربية، وأمكن استنساخها بشكل متكرر لتُحفظ كما يُحفظ الكتاب في العصر الحاضر، ولا يزال بعضها في متاحف العالم، كتلك الموجودة في المتحف البريطاني ويتجاوز طولها أربعين متراً.
بدأ في العصر الهلنستي تقصير هذه المخطوطات لتسهيل حفظها في حاويات أسطوانية خاصة، فأخذت شكل صفحات مقصوصة tomes لا يتجاوز طول الواحدة منها عشرة أمتار. وصارت الإسكندرية، التي أخذت دور أثينا، مركز إشعاع يبث الثقافة اليونانية وكانت مكتباتها، بين القرن الثالث قبل الميلاد حتى الخامس بعده، مراكز نسخ وتوثيق وتنظيم لأكبر مجموعة من المؤلفات باللغة اليونانية على الإطلاق، ثم آل هذا الدور إلى روما حتى سقوطها، وأيضاً إلى قرطبة حتى سقوطها هي الأخرى.
الشكل (3)
المكتبة المسلسلة في كاتدرائية هيرِفورد الإنكليزية
كما الكتابة والحضارة الإنسانية فالكتاب أيضاً مشرقي المنشأ؛ فمع ظهور الديانات السماوية في بلاد الرافدين والشام وفي شبه الجزيرة العربية، ومع ظهور الديانات الأخرى في الهند والتبت والشرق الأقصى، تبلورت الحاجة إلى التدوين. وتم في القرن الرابع الميلادي تحول تدريجي كبير من لفائف البردي إلى الكتاب المصَحَّف codex المؤلف من لوائح خشبية موصولة بأسلاك معدنية، وأمكن بعد ذلك إضافة صفحات جديدة من الجلد، ثم كانت المرحلة التالية حين بقيت دفتا الخشب وخيطت الصفحات الجلدية معاً، وأدخل استعمال الرق pergamenum، ودُوّن الإنجيل الذي صارت تسميته Bible مرادفة لاسم جبيل Byblos، أو «الكتاب»، وكانت هذه المدينة المصدِّر الأول للبردي، وظهرت النسخة الأولى منه وهي «المصحف السينائي» Codex Sinaiticus المكتوبة باللغة اليونانية على الجلد الحيواني وهي محفوظة في المتحف البريطاني.
الشكل (4)
صفحة من المصحّف السينائي (المتحف البريطاني)
الشكل (5)
نسخة من القرآن الكريم من القرن العاشر الميلادي
(المتحف الوطني - دمشق)
تم تدوين وحفظ القرآن الكريم في منتصف القرن السادس، ودونت كتب الديانات البوذية والكونفوشية المقدسة بلغات شعوب شبه القارة الهندية والشرق الأقصى، وحفظت بعض الملاحم مثل «بيوولف» Beowulf في شمالي أوربا، وأيضاً تاريخ الغزو النورمندي لإنكلترا عام 1066، صورة وكلمة، في منسوجة بايو Bayeux Tapestry أو منسوجة الملكة ماتيلد tapisserie de la reine Mathilde بطول يتجاوز سبعين متراً وبعرض نصف المتر، المحفوظة في متحف بلدة بايو الفرنسية.
الشكل (6)
منسوجة بايو (متحف مدينة بايو)
الشكل (7)
مخطوطة سنسكريتية بترجمة صينية من القرن التاسع تظهر استخدام الصين المبكر لأسلوب طباعة القوالب (مجموعة غرينجر)
تزامن هذا التطور مع ما شهدته الصين، إذ كان قد بدأ في الربع الأخير من القرن الثاني نقش النصوص الكونفوشية على الحجارة. وبدأ الصينيون استخدام الحروف والصور الطباعية الخشبية المتحركة block printing، أو ما يعرف بطباعة القوالب أو (الكليشيهات)، في القرن السادس، إلا أن صفحات الكتاب الصيني ظلت متصلة بعضها بالأخرى وكانت تفتح على مبدأ آلة الأكورديون، وهو مبدأ لا يزال متبعاً في أسلوب الطباعة التقليدية في الشرق الأقصى حتى الوقت الحاضر. ومهد كل هذا لانتقال الطباعة إلى أصقاع أخرى من الأرض، وقدَّمت الثقافة الصينية للعالم أحد أهم مكونات الكتاب الأخرى وهي الورق. فقد طُور الورق في عصر سلالة هان Han في مدينة تساي لُن Ts’ai Lun وسط الصين، وقد استطاع الرحالة السويدي سڤِن هِدين Sven Hedin في عام 1901 تحديد زمن ابتكار الصينيين للورق مع بدايات القرن الثاني. انتقل هذا الابتكار شرقاً نحو كوريا واليابان، التي كانت أول من اعتمده خارج موطنه، وغرباً على طريق الحرير فوصل سمرقند عام 751 وبلاط الخليفة هارون الرشيد في بغداد عام 794 ودمشق عام 1000، وباتجاه شمالي إفريقيا والأندلس فوصل قرطبة عام 1144 ومنها إلى بقية أوربا، كذلك دخل الورق إلى إيطاليا لاحقاً عن طريق صقلية التي كانت لا تزال تحت تأثير الثقافة العربية. طور العرب أيضاً استخدام أدوات الكتابة فكان القلم calamus والحبر الأسود، الذي بدأ استخدامه في الصين منذ القرن الرابع، فكان المداد الممزوج بالعديد من المواد مثل الصمغ العربي والزعفران وماء الليمون والرمان وماء الذهب من أجل التزيين.
كانت قرطبة في القرن الثاني عشر/القرن السادس الهجري مركزاً للعلم والإشعاع الثقافي في العالمين العربي الإسلامي والأوربي المسيحي، فتباهت بمكتباتها الكثيرة، وضمت مكتبة الخليفة المستنصر أربعمئة ألف كتاب وهو رقم خيالي وفق كل المعايير. وكان سقوط القسطنطينية في الشرق، المدينة التي لعبت دوراً مركزياً في التطور العلمي والثقافي في العصر البيزنطي، وغرناطة في الغرب، التي كانت آخر المعاقل العربية في الأندلس، العامل الرئيس في إطلاق عصر النهضة Renaissance؛ فنشطت العلوم والفلسفة والدراسات الإنسانية والمدارس والجامعات في أوربا، كما بدأت اللغات العامية المحلية المنبثقة عن اللاتينية تحل مكانها في غربي القارة والجرمانية في شماليها، وظهرت الحاجة إلى الكتابة بهذه اللغات وإلى المزيد من الكتب فيها لتلبية متطلبات الإنسان متوسط الحال الذي لا يتقن اللاتينية وصار يشكل سواد الشعب.
الشكل (8)
صفحة من إنجيل غوتنبرغ (المكتبة الوطنية في باريس)
لم يأتِ اختراع الطباعة بالحروف المعدنية المتحركة من فراغ، بل مهد له وجود الورق الذي صار متوافراً، وأيضاً التقليد الصيني في الطباعة بوساطة الحروف الخشبية المتحركة على الحرير والورق العريض broadside الذي انتشر في أوربا في أكثر من قرنين سبقا اختراع يوهانس غوتنبرغ Johannes Gutenberg للمطبعة، بعد أن عمل عليه في كل من ستراسبورغ Strasbourg وماينتس Mainz في ألمانيا لفترة تزيد على ثلاثة عقود. وكان كتاب القوالب block book، الذي استُخدمت الحروف والقوالب الخشبية في طباعة صوره ونصه، المرحلة المتوسطة ما بين الطباعة على الورق العريض والطباعة بالحروف المعدنية المتحركة كما تعرف اليوم. وكان إنجيل غوتنبرغ، الذي طبع في ماينتس عام 1450-1455 باللغة اللاتينية، النتيجة الحتمية لهذا التطور في مراحله كلها مؤذناً بإحدى أهم الثورات في تاريخ الحضارة الإنسانية.
مع تعاظم سلطة الكلمة المطبوعة في الكتاب حاولت السلطات الدينية والدنيوية السيطرة عليها من دون كبير نجاح؛ وتأسست دور النشر الكبيرة، مثل تلك التابعة للفاتيكان أو البلاطات الملكية أو الجامعات، مما رفع من مستوى الكتب المطبوعة. وانتقلت هذه الثورة إلى أرجاء العالم كافة مع ظهور الكتّاب والشعراء الأوربيين الكبار. وبعد أن كان الكتاب بدائياً في أشكاله الأولى عند ولادته Incunabula، بدأت تلك الأشكال تتعدد وتتطور فظهرت الطباعة الفوطية (القوطية) Gothic المزينة، ومن ثم الحفر على الخشب والنقش على النحاس والطباعة المضاءة التي استخدمها كثيرون ومنهم الإنكليزيان وليم بليك W.Blake ووليم موريس W.Morris في تزيين كتبهما بإرفاق الكلمة بالصورة المزينة. وارتقى استعمال الجلود للتجليد إلى درجة الكمال، فاستخدم جلد الماعز المسمى موروكو Morocco (مراكش) نسبة إلى منشئه، وأيضاً أسلوب التطعيم والتذهيب الذي أخذته أوربا عن العرب الذين أخذوه بدورهم عن الأقباط. وقد استُخدم التزيين في توليفة كلاسيكية إسلامية في كتب عصر النهضة التي صُنعت خصيصاً لمقتنيها، كما استُخدم التغليف أو التجليد القماشي، في كتاب الطاولة الڤكتوري، ولاحقاً التغليف بالورق القاسي hardcover، وأخيراً التغليف الورقي paperback لصنع الكتاب خفيف الوزن زهيد الثمن.
الشكل (9)
تمت في القرن التاسع عشر، ومع حلول عصر الآلة، أتمتة صناعة الكتاب مثل الصناعات الأخرى كافة، فأمكن إنتاج الكتاب بأعداد هائلة وكلفة زهيدة أوصلته إلى كل منزل وشخص، وعالج كل موضوع علمي أو أدبي أو ترفيهي. إلا أن تطور تكنولوجيا الإعلام في القرن العشرين خلق التحديات في وجه الكتاب من قبل السينما والراديو والتلفزيون والحاسوب ومايوفره مثل الأسطوانة المضغوطة المقروءة compact disk (CD) والإنترنت Internet. وقد ظهرت إضافة إلى ذلك الكتب الصوتية المسجلة audiobook إذ لم يعد بعض الناس يعتمد على القراءة بل على السمع؛ إذ تُقرأ تلك الكتب من قبل المؤلف نفسه أو شخصية أخرى متخصصة، وتوافر بذلك الكتاب للناس في أوقات وأمكنة قد لا يتمكنون فيها من القراءة. وواكب ذلك تطور الكتاب الإلكتروني المتوافر عن طريق شبكة معلومات الإنترنت، وصار بالإمكان أيضاً أن يحمل الإنسان في جيبه إصبعاً صغيراً flash memory وUSP، يخزن في ذاكرته ما يعادل مكتبة مصغرة نقالة ذات سعة هائلة، ويكون هذا الإصبع طوع أنامل صاحبه يدخله في الحاسوب لاسترجاع المعلومات المحفوظة فيه والاطلاع عليها. وتزيد تكنولوجيا المعلومات information technology (IT)، التي تتطور على الدوام، من حدة التحدي لذلك الشيء المسمى «الكتاب» الذي يكافح، بقيمته الحضارية والثقافية والجمالية، من أجل بقائه.
طارق علوش
الكتاب
في البداية وُجدت الكلمة، ومن الكلمة نشأت اللغة، ومن اللغة تطورت الحروف التي أدت إلى كتابة تلك الكلمة فالجملة والمقطع، ومن ثم الكتاب book. والكتاب تعريفاً هو ما جُمعت بين دفتيه معلومات مطولة بهدف نشرها وتداولها بين الناس ثم حفظها، كما تُطلق التسمية على بعض الأعمال الأدبية القديمة، مثل «كتاب الأموات» Book of the Dead المصري القديم الذي ضم مجموعة صلوات وتعاويذ سحرية لمرافقة الأموات إلى العالم الآخر، و«كتاب كيلز» Book of Kells (من القرن السابع ـ التاسع الميلادي والموجود في دير كيلز في إيرلندا) حول حياة السيد المسيح، ومخطوطات البحر الميت، وبعض أجزاء العهد القديم المسماة كتباً أو أسفاراً. إلا أن هذا التعريف يستبعد الكثير مما يمكن تسميته كتاباً؛ فمن منظور تاريخي تعد النقوش الجدارية في الكهوف والرسومات التي نحتها الإنسان على الصخور في أستراليا وفي غربي سورية وشمالي إفريقيا وصولاً إلى أوربا حتى أعالي شبه الجزيرة الإسكندنافية، وأيضاً نقوش الهنود الحمر في القارة الأمريكية، بمنزلة المرحلة الأولى في مسيرة الكتاب الطويلة.
الشكل (1)
نقوش هيروغليفية على جدران المعبد الجنائزي لرعمسيس الثالث في مدينة هابو
وقد خصّ القرآن الكريم «الكتاب» مكاناً رفيعاً، مثل ذاك الذي خصه صحف موسى u، التي أنزلت لهدي الناس الذين صاروا «أهل الكتاب». ومن هنا نبعت قدسية الكلمة المكتوبة قديماً، وحديثاً تلك المطبوعة بأشكالها كافة. وصار لهذه الكلمة من الرهبة ما يجعل تكذيبها صعباً حتى لو كانت مغلوطة؛ إذ إنها تملك مصداقية عالية تعبر بدورها عن إمكانات العقل البشري الإبداعية في العلوم (آينشتاين، فرويد)، والفلسفة (أرسطو، وابن رشد الذي أحرقت كتبه في عصره) والأدب. كذلك كافح جون ملتون J.Milton في «المحاكمة» Areopagitica (1644) من أجل حرية الكلمة والتعبير، ما لم يثنِ النازيين عن إقامة محرقة الكتب، إلا أن تاريخ الحضارة الإنسانية يحفل أيضاً بإسهامات عصور النهضة والتنوير في أوربا، من نتاج علمي وفلسفي وأدبي وموسوعي، ما صار دعماً هائلاً لمفاهيم المعرفة الإبداعية التي قد تضمها صفحات قليلة في ديوان شعر مثل «أزهار الشر» لبودلير أو في ألف صفحة في رواية «أوليس» للكاتب الإيرلندي جيمس جويس [ر].
الشكل (2)
مئتان واثنان وثمانون مادة من شريعة حمورابي بالكتابة المسمارية منقوشة على الحجر البازلتي
ابتكر الإنسان، الذي استقر بالقرب من الأنهار الكبيرة في بلاد الرافدين والشام ومصر، الكتابة المسمارية (نحو 3000 ق.م)، التي قامت على غرس أسافين في رقم طينية قبل تجفيفها وشيّها، وسيلة لتداول المعلومات وحفظها، فكانت «ملحمة غلغامش» Gilgamesh epic، وشريعة حمورابي التي نُقشت على الحجر، كما ظهرت مكتبات مدن ماري، على الفرات الأوسط، وإبلا وأغاريت في غربي سورية.
وعلى نحو مماثل ومتزامن تقريباً ظهرت النقوش الهيروغليفية في الأوابد المصرية القديمة على طول وادي النيل. وقد استخدم المصريون القدامى البردي papyrus، الذي كان الابتكار الأكثر تقدماً على طريق الكتاب بمفهومه المعروف، على شكل لفائف volumen دُونت عليها المعلومات. وقد انتقل استعمال هذه اللفائف إلى الثقافات اليونانية ثم الرومانية فالعربية، وأمكن استنساخها بشكل متكرر لتُحفظ كما يُحفظ الكتاب في العصر الحاضر، ولا يزال بعضها في متاحف العالم، كتلك الموجودة في المتحف البريطاني ويتجاوز طولها أربعين متراً.
بدأ في العصر الهلنستي تقصير هذه المخطوطات لتسهيل حفظها في حاويات أسطوانية خاصة، فأخذت شكل صفحات مقصوصة tomes لا يتجاوز طول الواحدة منها عشرة أمتار. وصارت الإسكندرية، التي أخذت دور أثينا، مركز إشعاع يبث الثقافة اليونانية وكانت مكتباتها، بين القرن الثالث قبل الميلاد حتى الخامس بعده، مراكز نسخ وتوثيق وتنظيم لأكبر مجموعة من المؤلفات باللغة اليونانية على الإطلاق، ثم آل هذا الدور إلى روما حتى سقوطها، وأيضاً إلى قرطبة حتى سقوطها هي الأخرى.
الشكل (3)
المكتبة المسلسلة في كاتدرائية هيرِفورد الإنكليزية
كما الكتابة والحضارة الإنسانية فالكتاب أيضاً مشرقي المنشأ؛ فمع ظهور الديانات السماوية في بلاد الرافدين والشام وفي شبه الجزيرة العربية، ومع ظهور الديانات الأخرى في الهند والتبت والشرق الأقصى، تبلورت الحاجة إلى التدوين. وتم في القرن الرابع الميلادي تحول تدريجي كبير من لفائف البردي إلى الكتاب المصَحَّف codex المؤلف من لوائح خشبية موصولة بأسلاك معدنية، وأمكن بعد ذلك إضافة صفحات جديدة من الجلد، ثم كانت المرحلة التالية حين بقيت دفتا الخشب وخيطت الصفحات الجلدية معاً، وأدخل استعمال الرق pergamenum، ودُوّن الإنجيل الذي صارت تسميته Bible مرادفة لاسم جبيل Byblos، أو «الكتاب»، وكانت هذه المدينة المصدِّر الأول للبردي، وظهرت النسخة الأولى منه وهي «المصحف السينائي» Codex Sinaiticus المكتوبة باللغة اليونانية على الجلد الحيواني وهي محفوظة في المتحف البريطاني.
الشكل (4)
صفحة من المصحّف السينائي (المتحف البريطاني)
الشكل (5)
نسخة من القرآن الكريم من القرن العاشر الميلادي
(المتحف الوطني - دمشق)
تم تدوين وحفظ القرآن الكريم في منتصف القرن السادس، ودونت كتب الديانات البوذية والكونفوشية المقدسة بلغات شعوب شبه القارة الهندية والشرق الأقصى، وحفظت بعض الملاحم مثل «بيوولف» Beowulf في شمالي أوربا، وأيضاً تاريخ الغزو النورمندي لإنكلترا عام 1066، صورة وكلمة، في منسوجة بايو Bayeux Tapestry أو منسوجة الملكة ماتيلد tapisserie de la reine Mathilde بطول يتجاوز سبعين متراً وبعرض نصف المتر، المحفوظة في متحف بلدة بايو الفرنسية.
الشكل (6)
منسوجة بايو (متحف مدينة بايو)
الشكل (7)
مخطوطة سنسكريتية بترجمة صينية من القرن التاسع تظهر استخدام الصين المبكر لأسلوب طباعة القوالب (مجموعة غرينجر)
تزامن هذا التطور مع ما شهدته الصين، إذ كان قد بدأ في الربع الأخير من القرن الثاني نقش النصوص الكونفوشية على الحجارة. وبدأ الصينيون استخدام الحروف والصور الطباعية الخشبية المتحركة block printing، أو ما يعرف بطباعة القوالب أو (الكليشيهات)، في القرن السادس، إلا أن صفحات الكتاب الصيني ظلت متصلة بعضها بالأخرى وكانت تفتح على مبدأ آلة الأكورديون، وهو مبدأ لا يزال متبعاً في أسلوب الطباعة التقليدية في الشرق الأقصى حتى الوقت الحاضر. ومهد كل هذا لانتقال الطباعة إلى أصقاع أخرى من الأرض، وقدَّمت الثقافة الصينية للعالم أحد أهم مكونات الكتاب الأخرى وهي الورق. فقد طُور الورق في عصر سلالة هان Han في مدينة تساي لُن Ts’ai Lun وسط الصين، وقد استطاع الرحالة السويدي سڤِن هِدين Sven Hedin في عام 1901 تحديد زمن ابتكار الصينيين للورق مع بدايات القرن الثاني. انتقل هذا الابتكار شرقاً نحو كوريا واليابان، التي كانت أول من اعتمده خارج موطنه، وغرباً على طريق الحرير فوصل سمرقند عام 751 وبلاط الخليفة هارون الرشيد في بغداد عام 794 ودمشق عام 1000، وباتجاه شمالي إفريقيا والأندلس فوصل قرطبة عام 1144 ومنها إلى بقية أوربا، كذلك دخل الورق إلى إيطاليا لاحقاً عن طريق صقلية التي كانت لا تزال تحت تأثير الثقافة العربية. طور العرب أيضاً استخدام أدوات الكتابة فكان القلم calamus والحبر الأسود، الذي بدأ استخدامه في الصين منذ القرن الرابع، فكان المداد الممزوج بالعديد من المواد مثل الصمغ العربي والزعفران وماء الليمون والرمان وماء الذهب من أجل التزيين.
كانت قرطبة في القرن الثاني عشر/القرن السادس الهجري مركزاً للعلم والإشعاع الثقافي في العالمين العربي الإسلامي والأوربي المسيحي، فتباهت بمكتباتها الكثيرة، وضمت مكتبة الخليفة المستنصر أربعمئة ألف كتاب وهو رقم خيالي وفق كل المعايير. وكان سقوط القسطنطينية في الشرق، المدينة التي لعبت دوراً مركزياً في التطور العلمي والثقافي في العصر البيزنطي، وغرناطة في الغرب، التي كانت آخر المعاقل العربية في الأندلس، العامل الرئيس في إطلاق عصر النهضة Renaissance؛ فنشطت العلوم والفلسفة والدراسات الإنسانية والمدارس والجامعات في أوربا، كما بدأت اللغات العامية المحلية المنبثقة عن اللاتينية تحل مكانها في غربي القارة والجرمانية في شماليها، وظهرت الحاجة إلى الكتابة بهذه اللغات وإلى المزيد من الكتب فيها لتلبية متطلبات الإنسان متوسط الحال الذي لا يتقن اللاتينية وصار يشكل سواد الشعب.
الشكل (8)
صفحة من إنجيل غوتنبرغ (المكتبة الوطنية في باريس)
لم يأتِ اختراع الطباعة بالحروف المعدنية المتحركة من فراغ، بل مهد له وجود الورق الذي صار متوافراً، وأيضاً التقليد الصيني في الطباعة بوساطة الحروف الخشبية المتحركة على الحرير والورق العريض broadside الذي انتشر في أوربا في أكثر من قرنين سبقا اختراع يوهانس غوتنبرغ Johannes Gutenberg للمطبعة، بعد أن عمل عليه في كل من ستراسبورغ Strasbourg وماينتس Mainz في ألمانيا لفترة تزيد على ثلاثة عقود. وكان كتاب القوالب block book، الذي استُخدمت الحروف والقوالب الخشبية في طباعة صوره ونصه، المرحلة المتوسطة ما بين الطباعة على الورق العريض والطباعة بالحروف المعدنية المتحركة كما تعرف اليوم. وكان إنجيل غوتنبرغ، الذي طبع في ماينتس عام 1450-1455 باللغة اللاتينية، النتيجة الحتمية لهذا التطور في مراحله كلها مؤذناً بإحدى أهم الثورات في تاريخ الحضارة الإنسانية.
مع تعاظم سلطة الكلمة المطبوعة في الكتاب حاولت السلطات الدينية والدنيوية السيطرة عليها من دون كبير نجاح؛ وتأسست دور النشر الكبيرة، مثل تلك التابعة للفاتيكان أو البلاطات الملكية أو الجامعات، مما رفع من مستوى الكتب المطبوعة. وانتقلت هذه الثورة إلى أرجاء العالم كافة مع ظهور الكتّاب والشعراء الأوربيين الكبار. وبعد أن كان الكتاب بدائياً في أشكاله الأولى عند ولادته Incunabula، بدأت تلك الأشكال تتعدد وتتطور فظهرت الطباعة الفوطية (القوطية) Gothic المزينة، ومن ثم الحفر على الخشب والنقش على النحاس والطباعة المضاءة التي استخدمها كثيرون ومنهم الإنكليزيان وليم بليك W.Blake ووليم موريس W.Morris في تزيين كتبهما بإرفاق الكلمة بالصورة المزينة. وارتقى استعمال الجلود للتجليد إلى درجة الكمال، فاستخدم جلد الماعز المسمى موروكو Morocco (مراكش) نسبة إلى منشئه، وأيضاً أسلوب التطعيم والتذهيب الذي أخذته أوربا عن العرب الذين أخذوه بدورهم عن الأقباط. وقد استُخدم التزيين في توليفة كلاسيكية إسلامية في كتب عصر النهضة التي صُنعت خصيصاً لمقتنيها، كما استُخدم التغليف أو التجليد القماشي، في كتاب الطاولة الڤكتوري، ولاحقاً التغليف بالورق القاسي hardcover، وأخيراً التغليف الورقي paperback لصنع الكتاب خفيف الوزن زهيد الثمن.
الشكل (9)
تمت في القرن التاسع عشر، ومع حلول عصر الآلة، أتمتة صناعة الكتاب مثل الصناعات الأخرى كافة، فأمكن إنتاج الكتاب بأعداد هائلة وكلفة زهيدة أوصلته إلى كل منزل وشخص، وعالج كل موضوع علمي أو أدبي أو ترفيهي. إلا أن تطور تكنولوجيا الإعلام في القرن العشرين خلق التحديات في وجه الكتاب من قبل السينما والراديو والتلفزيون والحاسوب ومايوفره مثل الأسطوانة المضغوطة المقروءة compact disk (CD) والإنترنت Internet. وقد ظهرت إضافة إلى ذلك الكتب الصوتية المسجلة audiobook إذ لم يعد بعض الناس يعتمد على القراءة بل على السمع؛ إذ تُقرأ تلك الكتب من قبل المؤلف نفسه أو شخصية أخرى متخصصة، وتوافر بذلك الكتاب للناس في أوقات وأمكنة قد لا يتمكنون فيها من القراءة. وواكب ذلك تطور الكتاب الإلكتروني المتوافر عن طريق شبكة معلومات الإنترنت، وصار بالإمكان أيضاً أن يحمل الإنسان في جيبه إصبعاً صغيراً flash memory وUSP، يخزن في ذاكرته ما يعادل مكتبة مصغرة نقالة ذات سعة هائلة، ويكون هذا الإصبع طوع أنامل صاحبه يدخله في الحاسوب لاسترجاع المعلومات المحفوظة فيه والاطلاع عليها. وتزيد تكنولوجيا المعلومات information technology (IT)، التي تتطور على الدوام، من حدة التحدي لذلك الشيء المسمى «الكتاب» الذي يكافح، بقيمته الحضارية والثقافية والجمالية، من أجل بقائه.
طارق علوش