بين الصحافة والأدب
كل صحفي اديب ولا عكس :
لقد كانت العلاقة ولا تزال متينة جدا جدا بين الصحافة والأدب منذ نشأت الاولى . وكانت حتى في نشوئها كأثر من آثار الأدب بالذات فقد كانت الطليعة الاولى من الصحفيين أدباء قبل كل شيء سواء كانوا يمارسون الشعر أم النثر . وبينما كان الأدب فنا . بالالفاظ الرشيقة والعبارات الأخاذة عما يجيش في النفس ويطوف بالخيال ويعالج مشاكل الحياة ومناحيها المختلفة ، كانت الصحافة مهنة تعمل جاهدة لاطلاع الجماهير على ما يجري حولهم من حوادث يومية او اسبوعية . وتوجيههم بما يتصل بحياتهم من خير او شر متناولة في ذلك رسالة الادب ، سالكة طريقه كما تتناول غيره من انباء العلوم و الجرائم وانواع البحوث التي قد لا يتطرق اليها هو لانها ليست في دائرة اختصاصه كفن معبر عن تجارب النفس وطاقات الانسانية . ومن . هنا كان محيط الصحافة اوسع بكثير كثير من محيط الأدب ، فهو منها كجزء يسير يسير ، الا اذا افردت له فرعاً من دوحتها الباسقة الممتدة . ومن هنا أيضاً كان الادب المنوط بالنفس البشرية المستقرة خالداً بخلودها ، بينما الصحافة المنوطة بالجماعات المتغيرة المتقلبة لا حظ لها من الخلود .
فالاديب بهذا الاعتبار رجل ذاتي يعني بنفسه وحدها فيصف مــا يتردد في جنباتها من حركات وسكنات ، وكأنه بذلك يغوص في أعماق النفس البشرية كلها ليصور اسرارها فيكون لفعله هذا صدى في قلوب القراء من كل جنس ولون ومصر . وأما الصحفي فرجل غير ذاتي لأنه مسؤول عن مجتمعه باسره ، فهو يعني باستعراض حوادثه ومظاهره يوما بيوم وينهي اخباره الى القراء في داخل البلد وخارجه . فعمله اجتماعي بحت يقوم على تثقيف وتوجيه الرأي العام بشكل مطلق ، وهو لهذا يتأمل الاخبار والاحداث من حوله ويفسرها ويعلق عليها متوخياً في ذلك مصلحة المجموع . ولذا فاننا نلاحظ ان الصحفي مقيد بقيد مصلحة المجموع ، فهو خاضع دائما لقانون المطبوعات ، مراقب في جميع الاحوال لا سيما في أوقات الحرب والمحن السياسية . بينما ينطلق الأديب من هذا القيد ما لم يتعرض لنظام الدولة او كرامة الاشخاص . والأديب قد يكون كاتباً لا يشق له غبار ، ولكن لن يكفيه ذلك ليكون صحفياً ناجحاً اذا لم يرزق الى جانب الادب الملكة الصحفية التي تساعده على الكتابة في كل ما يدعى لأن يكتب فيه حسبما تختار له الحوادث كل يوم بل كل ساعة لا حسبما يختار هو . . وهذا لا يتأتى د عقله على الكتابة بالممارسة الطويلة والدأب المستمر لكي يستطيع ان يلفت أنظار الجمهور الى ما يدلى به اليه من بضاعة ، وذلك بالاضافة الى الخبرة الكافية بالناس ، واللباقة الاجتماعية التي تمكنه من فهم كل ما يدور حوله من أمور تافهة أو هامة . فاذا توفر له هذا وغيره من ميزات الصحفيين كان جديراً بكلمة . صحفي والا فهو اديب وحسب . فأنت مع انتاج الاديب امام معلم يثبت في ذهنك ما تعلم ، أو يعلمك ما لم تعلم . ولكنك مع انتاج الصحفي أمام صديق يوصل اليك أخبار مجتمعك وغيره، ويثير في نفسك اسئلة كثيرة يساعدك على فهمها والاجابة عنها . وانتاج الاديب المفكر هو الذي يؤثر في عقول الشيوخ والشباب التأثير النافع المستمر ، وعليه يقع العبء الأكبر من بناء الأمة او تحويلها من طور الى طور والارتفاع بها من منزلة الى اخرى . والثورات المجيدة في التاريخ انما خرجت عن فلك الأدب الأصيل ، وميدان الفكر الانساني العميق . فقد كان هيجل وراء الفاشية والنازية وروسو وفولتير وراء الثورة الفرنسية والشاعر اقبال وراء انشاء دولة الباكستان وقصة العم توم وراء تحرير العبيد في امريكا وماركس وراء الاشتراكية والشيوعية .
ومع كل ذلك فالشيء الذي لا يختلف فيه هو ومع ان يكون ينبغي الصحفي أديباً ولا عكس . فمحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وجرجي زيدان ولطفي السيد وعباس العقاد وطه حسين وغيرهم من أعلام الادب المعدودين ، وفرسان الصحافة المجلين ، بل من مؤسسي الصحافة العربية بلا ريب . والصحافة ما تزال وستظل دائماً الطريق السريع الى شهرة الاديب سواء كان كاتباً أم شاعراً أم فيلسوفاً أم عالمة اذا نزل باغرائها من قصره العاجي الى مستوى الحياة العامة للشعب الذي هو منه ، وينبغي أن يكون اليه . فليس اذن كل أديب صحفياً ، ولكن ينبغي ان يكون كل صحفي أديباً ، لأن الصحافة قد ارتفعت الى المنزلة التي لا تدانيها فيها أي مهنة أخرى من حيث شمولها واتساع نطاقها . وقد اصبحت اشبه بدائرة معارف عامة ، والأدب من جملة ما تعرض له من أمور . واصبح الصحفي كأنه موسوعة كبيرة لسائر المعارف ، وكأن الاديب بجانبه كتاب في فن معين وحسب .
ولعل هذه الحقيقة اذا وعيت تدفع الوهم الذي يخالج بعض من يجيدون فن الكتابة من أن في مقدورهم ان يصبحوا صحفيين متى شاؤوا . فيزجون بأنفسهم في هذه المهنة ويتخذونها مرتزقاً لهم اذا سدت في وجوههم ابواب العمل ، أو حركت كوامن غرورهم بوارق الشهرة . ناسين بأنهم تطفلوا بعملهم هذا على أمر يحتاج الى كثير من التفكير والمهارة واليقظة والموهبة المبدعة قبل كل شيء . فما كل ثرثرة تجدي ، وما كل كتابة تقرأ . فهذا شيخ الصحافة الانجليزية ويكهام ستيد الذي ظل يعمل في الصحافة خمسين سنة بنجاح عظيم يغشى المجتمعات ويحضر المحاضرات ويفتح عينيه ويرهف اذنيه لكل شيء يمنحه مادة دسمة لصحيفته يكاد . هذه المهمة الجليلة التي تصدى لها ، فيسأل زميلا قديماً له من اساطين الصحافة هو ي. ت. ستد أن يزيده من خبرته علماً ، ويدله على طريقة الكتابة الصحفية التي تزيده نجاحا الى نجاحه ، فيجيبه هذا مختصراً : كل ما يحضرك في الكتابة فأسرع واكتبه ، وبعد ان تكتبه تصور انك ستبعث به تلغرافيا وانت في انجلترا الى استراليا على نفقتك الخاصة بحسبان ان الكلمة تكلفك شلنا مثلا ... وعلى هذا الاساس استبعد من كتابتك كل ما لا يستأهل الشلن . وستجد انك استبعدت كلاماً كثيراً وبقي كلام قليل . هذا الكلام القليل الباقي ابعث به الى صحيفتك فهو المطلوب .
تعليق