بماذا تنجح الصحيفة ؟
١ - اتقان المظهر والمخبر
ان الصحيفة التي يجملها الابتكار الفاتن في كل شيء : في لون غلافها أو صورته الطبيعية ، وفي هندسة صفحاتها وفي تزيين هـذه الصفحات بالصور الملائمة الجذابة ، وفي موضوعاتها القيمة التي عالجها مهرة المحررين بأسلوب مشوق ، وفي افتتاحيتها التي تنبض بالحياة والاخلاص والواقعية ، وأخبارها التي تفاجىء الرأي العام قبل أن يذيعها أي مصدر آخر ، وفي عناوينها المحكمة المغرية ، لهي التي تستحق الزحام . وأتى لها ذلك اذا لم تعتمد في تحريرها على مختصين ، وبحسب كفاءاتهم توزع عليهم أعمالها ، ثم تعمل جاهدة في اتقان عناصر نجاحها الثلاثة : المادي والنفسي والفني ؟ ولا شك ان مثل هذه الصحيفة ستكسب أوفر عدد من الاعلانات أيضاً لان كثرة اعلانات الصحيفة تتوقف على مدى تعلق الرأي العام بها كما سيأتي . فهو الذي يحدد مدى نجاح الصحيفة . وبالتالي يحدد مساحة الفراغ الذي يخصص للاعلان ، ثم المورد الذي يأتي من هذا السبيل وازاء هذا تضطر الصحف الى سد رغبات الجمهور ومطالبه ، فتعني بما يهز مشاعره وتقدم له كل ممتع يدور في الاندية والمجالس ، أو يجد في الحياة من آراء طريفة ، أو يخالف المألوف من أمور الحياة . فأول أن لا تكون مملة راكدة كيلا ينفض عنها فتضعف قوة الاعلان وتقع تحت عجز مالي لا يتلافاه الا انعاش الصحيفة وايقاظها مرة بعد مرة بمراعاة أمزجة قرائها . فتقدم السياسة لأهل الحكم ، والجد لأهل الجد ، والهزل لأهل الهزل ، والادب على أنواعه المختلف طبقات المثقفين . فالعلاقة بين الطرفين هو تمرين دائم للصحيفة في دراسة علم النفس الاجتماعي ، وادراك مطالب الرأي العام الذي يتطلب التسلية والتلذذ منها ، ويكره أن تقف منه موقف الواعظ . كما يكره أن تخدعه بقبولها اعلانات عن سلع زائفة ضارة طمعاً في الاستفادة الذين يريدون ترويج بضائع فاسدة ويسخرون بعض الصحف من المعلنين الجشعة لذلك .
الصحيفة الناجحة . التي تعني بافتتاحيتها لانها أهم الموضوعات وأول ما يسترعي النظر . فمن المقالة الافتتاحية يأخذ المرء فكرة عن الصحيفة قد تكون خاطئة أو مصيبة ، ، ولكن السائد هو أن براعة الاستهلال لها الأثر الاول في استهواء نفس القارىء وصرفها المتابعة القراةء أو صرفها عنها مع قسوتها في الحكم على ما لم تره . وهي التي تتبين الموضع الذي يستميل العين أكثر من غيره ، وتعرف أين توضع أهم الاخبار ، وأي نوع من الحروف يلزم للعنوان، وأيها لرواية الاخبار وأيها للتعليق . فتحشد أهم ما لديها من العناوين البارزة في نصف الصفحة الاعلى ، لانه أول ما . يقع : عليه أعين القراء . كما تراعي أن تظهر هذه العناوين جذابة مشوقة وملخصة للمقال ، لان القارىء وخصوصاً في زمن السرعة هذا أول ما يلقي نظره على العناوين المغرية فيطالعها قبل أي شيء . وربما اكتفى بها عن كل شيء ومر على ما تحتها مر العطور ، لانها تعتبر في حد ذاتها بمثابة افتتاحيات صغيرة يقصد منها جذب نظر القارئين الى ما يليها من أفكار .
وهذا هو السبب فيما نلاحظه من اتجاه العناوين في هذا العصر نحو التلخيص والتركيز مع اشتمالها في الغالب على فعل يعبر عن حدث. وتزيد هذه العناوين انتباه القارىء أو تقلل منه تبعاً لصغرها أو كبرها أو جمودها أو حيويتها . ومطابقتها للموضوع أو بعدها عنه خاصة وان بعض وكالات الانباء ترسل نشراتها الاخبارية بدون عناوين . وينبغي أن تكون الفقرة الاولى من العنوان ملخصة جوهر الموضوع كله ، وأما الفقرات التالية فتعيد التفاصيل مرتبة أهميتها لدرجة تمكن سكرتيري التحرير من يحذفوا بسرعة فقرتين أو ثلاث أو أربع فقرات تبعاً للخبر الموجود دون الانتقاص من أهمية الموضوع .
والصحيفة الناجحة تعمل دائماً على ادخال التنويع والشمول في موضوعاتها ، والابتكار في اخراجها بدون الجاء القارىء الى التنقيب عن الاخبار ، لانه لا يهتم بالمصادر التي تأتي منها الاخبار والآراء بقدر يهتم بالاخبار والآراء نفسها ، وقد ينصرف عن الصحيفة التي تتأخر ذلك أو تنقص منه أو تنشر أفكاراً لا تلائم مزاجه ، ثم تقف منه موقف الاستاذ الذي يعتد برأيه ويدلل على فساد رأي الآخرين . لا سيما وقد أصبح من الصعب ضمان سبق الصحيفة لغيرها بدون بذل مجهود كبير بعد أن أصبحت مصادر الاخبار موحدة تقريباً ، ومسالك المراسلة متشابهة لدى الجميع . حتى ان الصحف لم تعد قادرة على الالمام بجميع الاخبار من كل مورد ، وأصبحت مهمتها جميعاً تقديم الاخبار البارزة والتعليقات المناسبة واختيار الأهم منها وعرضه بثوب قشيب . فتحتم والحالة هذه لنجاح صحيفة ما ، ان تتميز بطابعها الخاص في أخبارها وآرائها وتسبق الى مواد جديدة لم تطرق بعد ، وتبذل كل جهد لتتفادى الركود ولتتزعم منافساتها . الصحف ولتصبح اقواها انتشارا واوسعها نفوذا وتنمشى دائماً مع تطور العصر وعقلية الجيل الجديد . لأن من اقسى المشاريع الصحفية احياء صحيفة تحتضر او هي على وشك الاحتضار بسبب جمود عقلية رجالها ومسايرتهم للتقاليد القديمة ومراعاة الكهول الذين يعنون بالمناقشات العويصة والمقالات الطويلة ، بينما الجيل الجديد يميل الى المواضيع المختصرة الصغيرة ويلتهم الصور الفنية الرائعة ويفضلها على كل شيء ، لا سيما الصور الكاريكاتورية وصور الحوادث والعظماء ، فان لها أكبر الأثر في النفوس فوق ما لها من معاني النقد التي تؤثر في جميع الاوساط وهذا ما يتطلب مصوراً فناناً يلاحظ ذوق الجمهور في فنه ويعرض رسمه باللون الملائم لطبيعته ويكثر مما يرغبه ، كما يمكن شراء هذه الصور من مكاتب الدعاية والوكالات المختصة لهذا الغرض . وقد تنبأ كنت كوبر مدير عام احدى الوكالات بان » نصف صحيفة المستقبل سيكون للصور والنصف الآخر سيكون للاخبار » لان الصور تعطي للقراء فكرة صادقة عما يقع من حوادث ، ويوجد في كل جريدة كبيرة الآن قسم للتصوير له وسائله ومندوبوه .
والصحيفة الناجحة تحرص كل الحرص على ان يكون لها مكتبة ضخمة منظمة ، تضم في خزائنها مغلفات تحتوي على تقارير في الحوادث الهامة التي وقعت في البلاد او خارجها ، وصور وتراجم الاشخاص البارزين في بلادها وفي سائر بلاد العالم ، لانه لا غنى لها عن وثائق هذا النوع لتعيد نشرها عند اللزوم. وكذا سجلات تحتفظ فيها بكل مادة من مواد الصحيفة . ومجاميع لاعداد الصحيفة المتعاقبة ، ومجاميع اخرى للصحف المحلية وغير المحلية ، جرائد ومجلات مختلفة المشارب واللغات . وسجلات للقصاصات الهامة التي اعداد الصحيفة الماضية ومن غيرها . وكتب تحوي كل ما يلزم الصحيفة من معلومات لها علاقة بشؤون الصحافة . وترتب كل هذه السجلات والاضبارات حسب الاسماء والموضوعات بطريقة يسهل معها مراجعتها عند اللزوم ، ليعتمدها المحرر او رئيس التحرير كمراجع تاريخية لحوادث الماضي وسياسته . فهذه المكتبة بمثابة العمود الفقري للصحيفة . لأن المحرر كثيرا ما يضطر الى ان يصوغ نبأ يتألف من سطرين في مقال يتألف من ٤٠٠ الى ٥٠٠ كلمة على الأقل فتسعفه هذه المراجع بمعلومات زيادة على ما أبرق به المندوب ، أو تدعم حجته فيما يكتب من موضوعات و مقالات. وذلك مع مراعاة الاختصار والتركيز وابعاد التافه المكروه ومحاولة اعطاء المعلومات الكثيرة في اقل مقدار وبدون انقاصها او تشويهها . لأن الجمهور لا يهمه ان يتعمق ويغوص وراء الافكار ، بل يود ان يستفيد من اسهل الطرق باقصر وقت . فالمواضيع الطويلة العميقة انما . هي للعلماء والباحثين. وحسب الايجاز فضلا أن يتيح لنا عرض مواد متنوعة مما يريح القارىء ويلذه . وحياتنا اليوم هي حياة السرعة مع التلوين . وقد تجلى ذلك كاملا فيما وصل اليه انتاج الصحافة واعمالها اخبار وطباعة وبيع ونحو ذلك ، بسبب وجود التليفون والآلات الكاتبة وآلات الاختزال وآلات التسجيل ، والمطابع الحديثة ، وتنظيم الوكالات. وهذا ما حدى باصحاب الصحف الى تنويع مواد صحفهم من الى قصة الى حكمة الى شعر الى غير السبق في اعداد الاخبار والتعليق عليها حال وصولها ثم تقديمها باسرع وقت . الصحيفة الناجحة هي التي تشعر قبل كل شيء باحساس الجمهور ، وتساهم بارشاده ، فتسير معه خطوة خطوة ، ولا تسبقه بعيدا فتفقد اتصالها به . وقد عبر ويكهام ستيد عن الصحافة المثالية بقوله : « انني اعتقد ان الصحيفة المثالية هي التي تغطي ارباحها تكاليف انتاجها دون تضحي بالكمال الصحفي ، او الواجب الاجتماعي في سبيل الاعتبارات المالية » . ونجاح مثل هذه الصحيفة يعتمد أولا" على قدرة قراءة أفكار الجماعة. وثانياً على حسن التعبير عما يجول بخاطرها، وقيادتها نحو سواء السبيل . فمهمة الصحيفة الحديثة الاولى هي اخراج المجتمع من حيرته وانارة طريقه ومعالجة مشاكله : مستقبله باخلاص ، ولذا فهي تبحث الحقيقة لذاتها وتعلنها في غير خداع او تدليس او خضوع للتقاليد السيئة او نعت للاشخاص بغير ما يستحقون . انها جريئة في الحق تعترف بالخطأ ان وقعت فيه ، وتقبل من الاعلانات ما يتلاءم مع مثلها العليا ومبادئها السياسية فقط . ولا تؤيد حكومة او سياسة معينة الا اذا استحقت هذا التأييد لا للمطامع والزلفى . كما انها تخصص فراغاً من صفحاتها لمناقشة الموضوعات والمثل القومية ، فتوجه المتعلمين جميعهم نحو العمل الانشائي . ففي كل مجتمع اناس يفكرون في الاصلاح وقد تساعدهم الصحافة اكثر من غيرها على نشر آرائهم وبثها بين الناس على اوسع نطاق .
قال مستر سنيدر في كتابه ( الحياة والصحافة والسياسة ) في معرض الثناء على اللورد نور تکلیف « لقد اصاب هو ومن اتبعه من الصحفيين من النجاح في التأثير على العقل العام ما لم يصبه جميع وزراء المعارف لو ضممنا مجهوداتهم بعضاً لبعض . وكان ابلغ نجاح له قضاؤه على الاساليب العتيقة في السياسة ، وعلى صحفيي الصف الثالث وقد كان اقوى الجميع منهاجاً ولم اعرف مثله ديمقراطياً آمن بالديمقراطية واخلص لها ، واعتقد بضرورة اتباع ما يقره الرأي العام فيما يخص الشؤون العامة . فعلى الصحافة اذن ان تبحث عن هذا الرأي العام وما سيكون عليه في المستقبل وتعبر عنه بقوة ـ وان هذه الطريقة تجمع الى الكسب الحكمة والعقل أيضاً » .
ان مثل هذه الصحيفة المبدعة التي كانت ولا تزال بلادنا في أمس الحاجة اليها سيستقبلها الجمهور - يوم تظهر - كما استقبل اهل شيلي العدد الأول من مجلة ( فجر شيلي ) التي صدرت في سنة ١٨١٢ . وقد وصف احد المؤرخين ذلك بقوله : من الصعب علي بل ربما يكون مستحيلا أن اصف بصورة دقيقة غبطة الناس وفرحهم بظهور هـذه الجريدة . ولا تظنني أبالغ اذا قلت ان الناس كانوا يسرعون في الشوارع ومعهم نسخ من الصحيفة ، ويوقفون المارة الذين يعرفونهم والذين لا يعرفونهم ويقرؤون لهم محتوياتها ويهنئونهم ويعلنون أن الجهل والعمى الفكري اللذين سادا بلادهم سيرحلان الى الأبد ويختفيان تماما، وسيحل محلهما علم وثقافة تحولان شيلي الى مملكة للعلماء » •
تعليق