علينا أن نحكم العقل وان روت وكالات الانباء
كان ذلك في ٨ مايو سنة ۱۹۲۷ حينما قام الطياران كولي ونو نجسر بتنفيذ ماسبق ان اعلنا عنه من عزمهما على محاولة عبور الاطلنطي بالطائرة مهما كلفتهما هذه المحاولة من مخاطر ، واقتضتهما من ثمن . ولم يكن الناس بحاجة الى من ينبهم الى ما سيحدث في ذلك اليوم، فقد شغلت أذهانهم بخبر المحاولة زمناً طويلاً ، بعد ان تحدثت عنه الصحف وشاع على ألسنة الجميع . ولذا ما أطل فجره حتى زحفت الجماهير الغفيرة لتشهد هذا الحدث التاريخي الذي يشبه الاسطورة ، ولترى الطائرة المائية التي عليها شعار الموت رمزاً لتحدي الموت . وأزف الموعد وارتفعت الطائرة والعيون معلقة بها من كل جانب ، والبطلان يلوحان بأيديهما تحية للمحتشدين . وما هي الا دقائق حتى اختفت الأيدي ، ثم الطائرة عن الانظار . ومنذ تلك اللحظة عاشت صحف العالم في لهفة غامرة لتلقي أخبار هذين المغامرين . هذه الأخبار التي بدأت تصل سريعة مختلطة . السفن المختلفة الجنسيات والتي كانت حينئذ تشق عباب المحيط وتبرق الى وكالات الأنباء بأنها شاهدت العصفور الأبيض يخترق الابعاد باندفاع كبير . وظلت الصحف والناس في أمر مريج ، حتى وصلت الاخبار من امريكا بان العصفور شوهد على مقربة من سماء نيويورك ، وان النصر قد تحقق للبطلين ولعصفورهما الخطير .
في هذه الاثناء دخل رئيس تحرير جريدة ( لابريس ) ليرى ما اذا كتب محرر القسم الرياضي في هذا الشأن ولكنه دهش اذ لم يجد في الصحيفة التي أمامه كلمة واحدة فقال له : لماذا تتردد يا ولدي ؟ ألا تواتيك الكلمات ؟ فأجابه المحرر بلى ولكني أفضل الانتظار حتى يأتينا الخبر اليقين والتفاصيل الدقيقة . حينئذ ظهر الغضب على وجــه الرئيس وصرخ في وجهه : أنت مجنون ! كما قلت لك ، انظر الى الخريطة. قفزة واحدة ثم يصلان الى نيويورك . لقد انتصرا ، ويجب ان ننتصر نحن بدورنا . ان الوصول الى نيويورك يتشابه دائماً ... الصفارات ، والهتافات ، ثم ان لديك قائمة بالمدعوين الى حفل الاستقبال هيا تحرك أيها الشاب . اكتب وارسل الى المطبعة كل فقرة تنتهي منها . ثم خرج وترك جورج رافون يفكر في كل كلمة سمعها منه ، كما أعاد الى ذاكرته صدى الكلمات التي وجهها اليه أيضاً منذ حين : في هذه المهنة يجب ان تكون متفائلا ، وان يكون شعارك السرعة حتى لا تسبقنا الصحف الأخرى نريد أن نلقي بخمسمئة الف نسخة الى الباعة وثق انها ستنفد في دقائق . الجماهير تترقب النبأ فلا تتأخر كثيراً ... اكتب خمسين سطراً فقط ، لا أريد تنميقاً في اللفظ ، أو تزويقاً في العبارة ، ولكني أريد مقالاً صغيراً تحس بالحياة في كل كلمة منه . ردد نفس الألفاظ في كل جملة وأظهر الاضطراب في ثنايا المقال حتى يظهر وكأنه نتيجة للهفة ، وأثر للفرح الذي طغى على نفسك فلم تستطع منه فكاكا ...
و تردد رافون طويلاً قبل أن يكتب شيئاً لأنه لم يكن ليثق بما يصل اليه من أخبار ، حتى يتكهن بنتائجها ويصف ما لم يثبت منها . فالأمر لا يزال غامضاً مجهولاً ، وان وكالات الأنباء ليست معصومة عن النفاق وفيها المتاجرة والتكسب . فكيف يخالف حدس قلبه ويكذب على الناس يمتنع عن تلبية رئيس التحرير وهو المسؤول الأول عن العاقبة ! انه لا يعجز عن الكتابة بالاسلوب الذي طلبه منه متناولاً الآفاق الخيالية التي فتحها له في وصف الاحتفال بالبطلين وكأن الأمر حقيقة واقعة . فليكتب اذن مجارياً في ذلك رأي رئيسه فيما ذهب اليه من مغريات براقة ... سبق الصحف الاخرى بالنبأ . الف نسخة في دقائق ، وان كان لن يجاريه مطلقاً فيما ذهب اليه من أ ينبغي على الصحفي ان يكون متفائلا ، وان يكون شعاره السرعة على
الدوام . . . وأخذ يكتب . ولم يمض عليه ساعة كان المقال ربع حتى المطلوب بين يدي رئيس التحرير يقرؤه ويهز رأسه استحساناً لأنه وجده كما أراد . وبعد دقائق دارت المطبعة وسجلت حروفها المقال التالي :
الساعة الخامسة مساء نيويورك : لم تكد طائرة نونجسر تبدو من بعيد فوق خليج نيويورك حتى اسرع نحوها على رأس سرب من الطائرات الكابتن فولوا قائد الطيران البحري . وعندما شوهد العصفور الأبيض اطلقت السفن صفاراتها تحية له، وأسرعت اليها زوارق الصيد وقد رفعت اعلامها . كما اتجهت نحوه الطائرات الحربية وطائرات البريد وكذلك الطائرات المدنية التي استأجرها ممثلو الصحافة والسينما . وقد تمت عملية الهبوط بسلام ، واستقرت الطائرة على الماء . وقد رفرفت حولها ـ وعلى علو بسيط منها - الطائرات الاخرى ، بينما أحاطت بها السفن على اختلاف انواعها . ولقد ظل نونجسر وكولي داخل الطائرة دون حراك بعض الوقت ، ثم وقفا وتعانقا وتصافحا بحرارة . وبدا كأن الهتافات خارج الطائرة لم تهز مشاعرهما ، فقد انتشيا بالنصر الذي حققاه . واخيراً خرج البطلان الى الزورق الذي كان في انتظارهما لتوصيلهما الى الرصيف . وهناك كانت جموع لها في انتظار الغازيين ، من بينهم مستر هارمون رئيس الاتحاد الدولي للطيارين ، وقد سلمه لونجسر رسالة أحضرها من باريس ، كما كان في استقبال الطيارين أيضا رئيس نادي الطيارين في الولايات المتحدة ، وممثلون للهيئات الحكومية المختلفة ، ومئات من رجال الصحافة ، وقد اعتذر نونجسر عن الادلاء بأي حديث او تصريح للصحفيين ، واكتفى بقوله انه سعيد وأنه يريد الراحة » .
وهكذا ظهر العدد الخاص من جريدة لابريس ، وغزا جميع شوارع باريس . وما تسامع الناس به حتى تزاحموا حول الباعة وتدافعوا لاجله بالمناكب . وتم لرئيس التحرير ما اراد ، اذ نفذت الاعداد جميعها بعد دقائق معدودات ، وطلب الناس منها المزيد فاوحى للمطبعة بان لا تتوقف عن الدوران حتى تروي لهفة الجمهور . واستخفه الطرب حتى اعلن للمحررين جميعاً بانه سيمنحهم علاوة على مخصصاتهم احتفاء بهذه المناسبة السعيدة . ثم ما عتم ان انتشر الخبر بين الاهلين فساروا في الشوارع يحملون الاعلام ، وينشدون المارسيلييز ويريقون براميل الخمر ، وكيف لا يفعلون ذلك وجريدة لا بريس لم تترك في أنفسهم أية شبهة بنجاح البطلين نجاحاً يرفع الرأس ؟
أما هيئة تحرير ا الجريدة فقد بقيت حيث هي تنتظر ورود تأكيد للنبأ وبقدر ما كانت آلات التسجيل نشطة تبعث بعشرات ، بل بمئات من البرقيات عن العصفور الابيض صمتت فجأة . ثم لم تعد تنفرج عن شيء . وتجمعت الهيئة حول الآلات وتسمرت فوقها اعينهم ينتظرون منها ان تدق ، وساد الصمت الحاضرين ، وأسرعت دقات قلوبهم من الروع ، ولكن حركة منها لم تحدث ، وكأن العالم كله قد توقف فلم تعد فيه حركة تسجلها وتبعث بها وكالات الانباء . واضطر الرئيس الى اصدار أمره بوقف المطبعة لتشاركهم هي ا الأخرى هذه الحيرة والصمت . وطال الانتظار ، وتفاقم معه القلق ، حتى أقبل الليل برهبته و وحشته ، وحينئذ فقط برزت الحقيقة بملامحها الواضحة النقية من شوائب التكهن والشك . وهي انه اذا كان العالم قد ظن انه شاهد العصفور الابيض فالواقع أن أحداً لم يره منذ ان غادر فرنسا ، لقــد سقط في البحر ولم يعثر على بقاياه أو على جثتي قائديه ، وهكذا انطوى ومعه سره العميق .
وما كانت تنحسر تلك الليلة الثقيلة الرهيبة عن صبح ثقيل رهيب مثلها حتى بدأت الجماهير تلتف حول بناء الجريدة وتتكاثف على ابوابها محاولة الدخول لتحطم في هياجها الكاسح كل ما تقع عليه ، واضطر من فيه الى طلب النجدة من البوليس . ورغم ذلك فلم تنفض عنه الا بعد ان حطمت زجاج نوافذه بالحجارة ، واضرت به انتقاماً ممن سخروا منها وكذبوا عليها بشكل يدعو للحنق الشديد . ثم لم تكتف بهذا بل تقدمت الى الحكومة تطلب محاسبة الجريدة ، ووكالات الانباء الرسمية وغير الرسمية التي أذاعت النبأ قبل أن تتأكد منه . تلبية للهفة الجماعية التي سيطرت على اعصاب الناس حينئذ . وهنا يعترف جورج رافون في مذكراته بمصير لابريس المحزن » وعلى أية حال فقد كانت النتيجة الوحيدة لهذا الخبر الصغير الذي أثار ضجة لم يثرها أي خبر كتبته بعد، ان ماتت صحيفة لا بريس بعد ان فقدت ثقة القراء بها . وقد يلومني أحد لانني كتبت هذا الخبر الكاذب . ولكن هل كان في استطاعتي في ذلك الوقت أن اعارض رئيس التحرير ? » .
فمتى تحاسب جماهيرنا العربية بعض صحفها الصفيقة التي تطلع كل يوم بخبر مدسوس أو دعاية مركزة في غير صالح البلاد . أو افتراءات شتى على العاملين المخلصين ، لاحباط ما يرمون اليه من اصلاح خدمة لمآرب الغزاة الطامعين ؟ متى تحاسبهم بمقاطعة صحفهم على الأقل ? حتى يعلم السفهاء المأجورون ، المتطفلون على مهنة الصحافة ، المدنسون لرسالتها ان الشعب العربي الذي استيقظ على المآسي وخبر فيها الوان الرجال لن ينطلي عليه الخداع بعد اليوم ، ولن تغره المظاهر ، ولا الاصباغ ، ولا الكلام المعسول .
تعليق