اقطاعيه
Feudalism - Féodalisme
الإقطاعية
الإقطاعية feudalism في اللغة مصدر صناعي من مزيد الفعل الثلاثي: قَطَعَ. وأقطعه قطيعة، أي طائفة من أرض الخراج أو نهراً، أباحه له، والإقطاع يكون تمليكاً وغير تمليك. والقطائع إنما تجوز في أرض لا ملك لأحد عليها ولا عمارة فيها لأحد، فيقطع الإمام المستقطع منها قدر ما يتهيأ له عمارته بإجراء الماء إليه أو باستخراج عين منه أو يتحجر للبناء فيه.
والمعنى نفسه في الفرنسية féodalité والإنكليزية feudalism، والكلمتان من أصل لاتيني feudalis يدل على إقطاعة أو «منطقة نفوذ». وما جاء من ذلك في العربية يبين أن مفهوم الإقطاع مؤثل فيها بالمعنى المعروف اليوم، وأن أسلوب الإقطاع كان معروفاً عند العرب المسلمين في فجر الإسلام، قبل أن يصبح نظاماً عاماً أو نمط إنتاج ونمط حياة. والأرجح أنهم لم يبتدعوه، فجذوره ضاربة في حضارات الأحواض النهرية وأنماط الإنتاج القديمة القائمة على الملكية الخاصة للأرض في نطاق ملكية الدولة. فقد كانت ملكية الأرض القاعدة العرفية، ومن ثم الحقوقية التي قامت عليها المجتمعات والدول حتى نهاية عصور الإقطاع. وتشير مصادر عدة إلى أن هذا الأسلوب كان عنصراً من عناصر النظام الاجتماعي الاقتصادي الذي جاء به الإسلام، وميز الحضارة العربية الإسلامية. فالإقطاع يكون في الأرض الموات وفي الأرض غير المملوكة وفي أرض الخراج وفي العقارات والمرافق التي ينتفع بها ويرتزق منها، وفي الأنهار والقنوات أيضاً، ويكون تمليكاً وإرفاقاً، يقتطعه ولي الأمر أو يستصفيه لنفسه، أو يمنحه لغيره ممن يصطفيهم أو يستعملهم، في الأقاليم، أو ممن يؤالفهم، لقاء خدمات يؤدونها له. وتسمى الأرض المقطعة قطيعة، أو إقطاعاً. وتطلق القطيعة أحياناً على الضريبة، كما كانت الحال في العهد الأيوبي. وقد تطلق كلمة إقطاعية على الجنود المُقطَعين. وأطلق لفظ المُقاطَعَة، أحياناً، على كِتَابِ الإقطاع في العصر العباسي، وشمل أيضاً المال الذي يدفعه المقاطع للأمير، كما حدث حين قاطع الخليفة الراضي عماد الدولة البويهي على ما بيده من بلاد فارس بمبلغ ثلاثمائة ألف ألف درهم في السنة. ومن الإقطاعات ما هو مرتجع، يسترجعه ولي الأمر ويقطعه ثانياً، أو يرده المقطع نفسه ليعتاض غيره.
يحيل مصطلح الإقطاعية على نظام اجتماعي اقتصادي قوامه الإنتاج الزراعي وما يقتضيه من حرفة وتجارة، وعلى نظام سياسي مراتبي ذي طابع عسكري يقوم على الولاء الشخصي والامتيازات. وقاعدته العامة في تداول السلطة وحيازة الثروة هي القوة والغلبة وخضوع المحكومين. وهو منظومة من الأعراف والحقوق المختلفة والمتعارضة على العين الواحدة، ولاسيما على الأرض، وما ينجم عن ذلك كله من تمثلات ثقافية ومنظومات قيمية وأخلاقية. فالعلاقات الاجتماعية السياسية وعلاقات الإنتاج تتحدد دوماً بأنماط الملكية، وكانت الملكية، ولاسيما ملكية الأرض، في أكثر الحالات، مصدراً للتنافس والمنازعات والحروب بين الفئات الاجتماعية في المجتمع الواحد وبين الدول والشعوب، وكثيراً ما كانت تلك المنازعات والحروب تنتهي بتركيز ملكية الأرض في أيدي الغالبين. ويمكن القول: إن نظام الإقطاع كان السمة الأساسية للنظام الاجتماعي الاقتصادي، أو لنمط الإنتاج في العصور الوسطى. ومبدؤه هو ميل الحاكم المحلي إلى الاستقلال بما تحت يده، جراء ضعف الدولة المركزية وسيطرة أصحاب النفوذ على مقدراتها، واستقلال الولاة وحكام الأقاليم في ولاياتهم واستئثارهم بثرواتها، ونزوع كل منهم إلى زيادة ثروته وقوته وبسط سلطانه على الأقاليم المجاورة، وتحولهم إلى أمراء وملوك يقطعون من هم دونهم من الزعماء والأعيان المحليين، مع بقاء روابطهم بالدولة المركزية اسمياً يؤدون لها الخراج ويسهمون في أعمالها الحربية. وهكذا يغدو الإقطاع علاقة أساسية تحدد جميع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في تلك الدولة.
لمحة تاريخية
عرف الشرق في عصوره القديمة الإقطاع بصور ومضامين مختلفة. وتذكر المصادر القديمة أن سادة كل من بلاد الرافدين ومصر وسورية اعتمدوا في بدايات تكوّن دولهم نظام الإقطاع العسكري لحاجتهم إلى خدمات المقاتلين في مقابل عدم قدرتهم على الوفاء بالتزام مادي ثابت تجاههم. وقد تطور هذا النوع من الإقطاع إلى إقطاعات دينية واقتصادية وإدارية، واستمر حتى مرحلة ما قبل الإسلام بأنماط متعددة. وعلى العموم فقد تميز إقطاع الشرق القديم بالخصائص الآتية:
1ـ ارتبط الإقطاع، بوصفه جزءاً من النشاط الاقتصادي، بالمعتقد الذي ينظم حركة المجتمع وكان يرتكز على المعبد والقصر.
2ـ بقي الإقطاع موالياً للسلطة في الدول المركزية والامبراطورية، وهذا الولاء هو الذي كان يضمن استمرار حق الانتفاع بالإقطاعية.
3ـ راوحت علاقة الإقطاعي بالأرض والوظيفة ما بين حق الانتفاع وحق الاستثمار والإدارة من دون أن تتحول إلى حق التملك والتوريث.
وقد عرفت بلاد اليونان أيضاً الإقطاع العسكري في العصر الموكيني (المسيني) في الألف الثاني ق.م. كما ظهر مجدداً في العصر الهليني حينما كان الملوك يمنحون قوادهم وجنودهم إقطاعات يتعهد أصحابها مقابل ذلك بالخدمة العسكرية كلما دعت الحاجة. وفي مرحلة متأخرة أصبح وارث الإقطاع ملزماً بتأدية التزام مورثه العسكري وإلا آل الإقطاع إلى مالك جديد.
أما في صدر الإسلام، فإن أنظار القبائل العربية لم تتجه أول الأمر نحو تملك الأرض الزراعية، لانصرافهم إلى الجهاد وانشغالهم بالفتوح. وقد رفض الخليفة عمر بن الخطاب إقطاع أرض السواد لقادة الفتح ضماناً لحق الأجيال التالية في الأرض، وتجنباً لما قد يؤديه التقسيم الإقطاعي من تنافس وانقسام، فضلاً عن التفاوت الاجتماعي.
كما رفض علي بن أبي طالب ذلك، وقد أُثر عنه قوله: «لولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض لقسمت السواد بينكم». وقد حذر علي واليه على مصر، الأشتر النخعي، من اتباع أسلوب الإقطاع في كتاب قال فيه: «إن للوالي خاصة وبطانة وفيهم استئثار وتطاول... لا تقطعن لأحد من حاميتك وحاشيتك قطيعة». بيد أن الأمر لم يدم على ذلك، فقد توسع الأمويون، باستثناء عمر بن عبد العزيز، في منح الإقطاعات بالمفهوم الإسلامي والذي يؤدي إلى ملكية تامة للأرض مع دفع العشر. وتعزز هذا الاتجاه بعد قيام الدولة العباسية فقد استولى العباسيون على ضياع الأمراء الأمويين وأحدثوا ديواناً خاصاً لضياع الخلافة التي وسعت بحفر الأنهار والترع واستصلاح الأراضي وبالشراء والمصادرة. وكانت تلك الضياع واسعة وغنية وموزعة في أرجاء بلاد الخلافة. والجدير بالذكر أن ثمة فرقاً كبيراً وأساسياً بين الإقطاع الذي عرفه الإسلام والنظام الإقطاعي الأوربي، إذ إن الفلاحين في ظل الخلافة العربية الإسلامية لم يكونوا ملكاً للمُقطع بل للأرض ولم يكونوا يقطعون معها، إضافة إلى أن صاحب الإقطاع لم يكن يورثه.
ولعل من أهم أساليب تحول ملكية الأرض إلى ملكية إقطاعية هو أسلوب الإلجاء، وأساسه لجوء الفلاحين وأهل القرى والضياع إلى التعزز بأمير قوي أو بمتنفذ معروف للاحتماء به من ظلم الولاة وعسف الجباة واعتداء الصعاليك، فيصير له نوع من «حق الحماية» عليهم ويتحولون إلى أتباع له وفلاحين في الأرض التي غدت أرضه، أو يتسلمها بعضهم منه ثانية على سبيل الإقطاع فيصيرون تنَّاء (مفردها تانئ ويقابلها الدهقان بالفارسية) وهم المستوطنون المستقرون في الأرض من أصحاب الضياع. وهذا الأسلوب نفسه كان من أساليب نشوء الملكية الإقطاعية في الغرب أيضاً، لاسيما أنه كان معمولاً به في الامبراطورية الرومانية وفي العالم البيزنطي، وقد عرف بحق الحماية autopragia الذي كان يحصل عليه النبلاء البيزنطيون.
وفي القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي لجأ القائمون على شؤون الخلافة إلى إقطاع أنصارهم وحواشيهم البلاد والقرى وحقوق بيت مال المسلمين. وأول من بدأ ذلك البويهيون (320 - 447هـ/932 - 1055)، وتسلم معز الدولة البويهي وجنوده من الديلم وغيرهم أعمال العراق ولاية وإقطاعاً، فأقطع قادته وأصحابه وأهل عصبيته وخواصه من الأتراك جميع ما امتدت إليه يده. وقد أهمل كثير من هؤلاء المقطعين عمارة ما أقطعوا، وبات من السهل عليهم أن يخربوا إقطاعاتهم ويردوها، فيعتاضوا عنها حيث يختارون. وزاد الأمر سوءاً حين اعتمد هؤلاء على وكلائهم الذين عمدوا إلى الظلم والمصادرة، مما أدى إلى خراب البلاد وإقصاء سكانها من العرب عنها بالتدريج.
وجاء السلاجقة بعد البويهيين ففرضوا أنفسهم على ممتلكات الخلافة كلها، وتقاسموها إقطاعات، ويذكر المؤرخون أن أول من فرق الإقطاعات في بني سلجوق هو نظام الملك (408 - 485 هـ) وزير السلطان ألب أرسلان ووزير ابنه ملكشاه؛ إذ عمد نظام الملك إلى روك الأراضي (وهو مسح الأرض وإعادة توزيعها) ليمكن المقطعين من الأرض الخصبة والأقل خصوبة والرديئة على السواء، فحلت الإقطاعات محل العطاء (الرواتب). وزاد السلاجقة في ذلك فجعلوا الإقطاع ضرباً من تقسيم البلاد بين أمراء البيت السلجوقي الذين أرسوا أسس الإقطاع الحربي أو العسكري، وأخذه عنهم من جاء بعدهم من الزنكيين والأيوبيين. وبلغ هذا النظام ذروة تطوره في عهد المماليك.
تعليق