حسين عبدالرحيم
في ذكراه الثامنة (آب/ أغسطس 2015)، لن نتوقف عند رحلة الفنان نور الشريف فقط، بل عند شخصه من خلال محطات جمعتني به.
وكان من حظّي أن قابلته للمرة الأولى مصادفةً في عام 1989 أمام مبنى الأهرام القديم. كنت في إجازة قصيرة من عملي كمحرر صغير يعمل في الصحافة الفنية والثقافية. وأتذكر أنني كنت مشدوهًا برؤيته وجهًا لوجه، غير مصدق، بينما يجلس هو في عربة فولفو نبيذية اللون. وما إن توقفت السيارة حتى انطلقت نحوه مسرعًا لأجده ممسكًا بنسخة من رواية "قلب الليل" لكاتبنا العظيم نجيب محفوظ.
قدمت له نفسي فأجابني بعجلة: "مكتبي هناك أهو في عمارة النهضة على رأس شارع رمسيس". حدثته بجرأة عن ضرورة إجرائي حوارًا معه قد يكون سببًا في تعييني بتلك الجريدة الوفدية التي كنت أتعاون معها.
رفض في البدء، ثم استشعر حزني فقال: "نحاول مرة تانية، أشوفك في مكتبي". حزنتُ على ضياع فرصة ذاك الحوار، رغم أنه علّل رفضه بعدم تفرغه سوى لتجربة إنتاج جديدة كان يحضر لها في مغامرة فنية مع محسن زايد، بهدف تحويل رواية "قلب الليل" المولع بها إلى عمل سينمائي عميق وبأبعاد فلسفية متعددة الرؤى.
بعد أسبوع واحد فاجأته في مكتبه، فاستقبلني وسألني إن كان يهمني أن أشتغل في المسرح، ثم قابلني بالمخرج منير راضي ومنه تعرفت بسيد راضي، المخرج المسرحي الكبير.
ومن خلاله دخلت إلى المسرح وعملت كمساعد مخرج مع بوسي زوجته. ومن ثم توالت اللقاءات إلى أن التقينا في ترعة المريوطية، في منزل الفنان الأوبرالي، حسن كامي. هناك التقته صحافية وأصرّت على إجراء حوار معه لمجلة الإذاعة والتلفزيون، كانت تطارده منذ شهور فيما كان يعتذر لانشغالاته أيضًا. في ذاك اليوم سجل الحوار مع الصحافية الشابة بعد معرفته بإمكان تعيينها مباشرة عقب حوارها مع النجم الكبير.
في تلك اللحظة، ربّت على كتفها وقال وهو يلتفت لي: "حسين دا نفسه من زمان يعمل معي حوار.. دلوقت من حقه زيك أسجل معاه".
ثم اقترب مني بحنو ليردد: "كلكم كده انتهازيين وكله عايز يتعين". ضحكت، وبالفعل تعينت المحررة بعد حوارها مع نور بشهر فقط في مجلة الإذاعة والتلفزيون.
في هذه السهرة، أخبرته أنني أعشق أغنية "حدوتة مصرية" لمنير عن فيلم شاهين الذي أدى بطولته نور الشريف، وهو من أحب الأعمال إلى قلبه، فطلب مني أن أغنيها ثم أشعل سيجارةً في ركنٍ منزوٍ في حديقة حسن كامي وراح يبكي هو والممثل ضياء الميرغني.
وفور انصرافنا، كانت الساعة تقترب من السادسة صباحًا، ركبت مع ضياء الميرغني وهو وزوجته بوسي في السيارة التي أمامنا، وما إن فتح نور سيارته حتى وجد سيدة عجوز تجرُّ عربة خضار جهة ترعة المريوطية، وكأن القدر بعثها في طريقه.
نزل من سيارته، جرّ عنها العربة وضرب يده في جيبه الخلفي وأخرج حزمة نقود ثم عاد إلى السيارة وتناول مبلغًا آخر من المال ووضعه في كفها، فراحت تبكي. يومها أحسست بجمال الدنيا والأقدار التي ساقتنا في هذا الطريق.
تعددت اللقاءات بيننا، وكان هو يستيقظ باكرًا ليقرأ الصحف كلها. وكان مهتمًا وعارفًا بالشأن السياسي، ويرى أن الفنان يجب أن يكون صاحب رأي وسطي، أن يكون رسولًا للعدل وداعيًا للحق والخير والجمال.
وبعد عرض فيلمه "قلب الليل"، بدا حزينًا لعدم إقبال الجماهير على الفيلم. ولكن جاءه تلفون على الأرضي من عاطف الطيب ليخبره أن المنتج مطيع والسيناريست محسن زايد طلبا منه أن يقول له إن الفيلم هو من الأساس ليس فيلمًا جماهيريًا وإنه لو صمد أسبوعًا في دور العرض فسيكون أمرًا هائلًا. لكن الفيلم ما زال في الصالات ومستمرًا للأسبوع الثاني.
أنتج نور بعد ذلك، مع شركة فن للإنتاج السينمائي اللبناني، فيلم "ناجي العلي" بمشاركة مع اللبناني وليد الحسيني لتقوم الدنيا على نور وما قدّمه من إساءات للأنظمة العربية كافة. هاجمته الصحافة كثيرًا، لكنّ المثقفين عقدوا لقاءات تضامنية معه واتفقت شخصيات من أقصى اليمين وأقصى اليسار لتناصره خصوصًا بعدما مُنع بشكل مريب وغير رسمي من ممارسة نشاطاته الفنية في التلفزيون المصري.
حُكي مرة عن جفاء بين نور الشريف ومحمود عبد العزيز، ولكن وقعت حادثة أمامي تُثبت عكس ما أشيع وتعكس معنى المنافسة الفنية في أجمل صورها. ففي العرض الخاص لفيلم "كيت كات"، كان نور الشريف يجلس في مقعد خلفيّ ومحمود عبد العزيز أمامه، وحين انتهى الفيلم على تصفيق حاد ومدو لمدة قاربت ربع الساعة، هرول نور ليحتضن محمود وهنأه قائلًا: "قتلتني مرات بإيماءات عيون الشيخ حسني"، كان مشهد لقاء النجمين الكبيرين بعيونهما الدامعة وبسمتهما المعبرة من أحلى المشاهد الفنية.
يومها قال نور الشريف "إن محمود عبد العزيز قد كتب بهذا الدور سطرًا جديدًا في تاريخه الفني.
نور الشريف، أو محمد جابر عبد الله، وهو اسمه الحقيقي، تمكن من أن يكون ممثل الطبقات المصرية كافةً، بكل تناقضاتها واختلافاتها. ففي أفلامه، عبّر عن آلام الفرد وطموحاته في مختلف الشرائح الاجتماعية، بدءًا من البرجوازية بمساراتها المغايرة والطبقة المتوسطة بفئتيها العليا والدنيا.
وإذا أردنا أن نلخص تاريخه بصفة واحد فنقول إنه "متعدد الكاراكتيرات"، وهذا ناجم طبعًا عن اتساع ثقافته ومعارفه.
رحل نور الشريف في مثل هذا الشهر عن 69 عامًا بعد إصابته بمرض السرطان، وقد عرفته الأوساط السينمائية والثقافية والفكرية والإبداعية، خلال تلك السنوات، بخروجه عن المألوف وتحدي المخاطر ونسف كل محظور، سواء في السينما أو المسرح أو حتى الدراما. قدم أكثر من 200 عمل سينمائي من أهمها "سواق الأوتوبيس"، "البحث عن سيد مرزوق"، "زوجتى والكلب"، "الخوف"، "الكرنك"، "العار"، "أيام الغضب"، بالإضافة إلى عشرات المسلسلات التلفزيونية والدراما الإذاعية وكثير من الأعمال المسرحية.
في ذكراه الثامنة (آب/ أغسطس 2015)، لن نتوقف عند رحلة الفنان نور الشريف فقط، بل عند شخصه من خلال محطات جمعتني به.
وكان من حظّي أن قابلته للمرة الأولى مصادفةً في عام 1989 أمام مبنى الأهرام القديم. كنت في إجازة قصيرة من عملي كمحرر صغير يعمل في الصحافة الفنية والثقافية. وأتذكر أنني كنت مشدوهًا برؤيته وجهًا لوجه، غير مصدق، بينما يجلس هو في عربة فولفو نبيذية اللون. وما إن توقفت السيارة حتى انطلقت نحوه مسرعًا لأجده ممسكًا بنسخة من رواية "قلب الليل" لكاتبنا العظيم نجيب محفوظ.
قدمت له نفسي فأجابني بعجلة: "مكتبي هناك أهو في عمارة النهضة على رأس شارع رمسيس". حدثته بجرأة عن ضرورة إجرائي حوارًا معه قد يكون سببًا في تعييني بتلك الجريدة الوفدية التي كنت أتعاون معها.
رفض في البدء، ثم استشعر حزني فقال: "نحاول مرة تانية، أشوفك في مكتبي". حزنتُ على ضياع فرصة ذاك الحوار، رغم أنه علّل رفضه بعدم تفرغه سوى لتجربة إنتاج جديدة كان يحضر لها في مغامرة فنية مع محسن زايد، بهدف تحويل رواية "قلب الليل" المولع بها إلى عمل سينمائي عميق وبأبعاد فلسفية متعددة الرؤى.
بعد أسبوع واحد فاجأته في مكتبه، فاستقبلني وسألني إن كان يهمني أن أشتغل في المسرح، ثم قابلني بالمخرج منير راضي ومنه تعرفت بسيد راضي، المخرج المسرحي الكبير.
ومن خلاله دخلت إلى المسرح وعملت كمساعد مخرج مع بوسي زوجته. ومن ثم توالت اللقاءات إلى أن التقينا في ترعة المريوطية، في منزل الفنان الأوبرالي، حسن كامي. هناك التقته صحافية وأصرّت على إجراء حوار معه لمجلة الإذاعة والتلفزيون، كانت تطارده منذ شهور فيما كان يعتذر لانشغالاته أيضًا. في ذاك اليوم سجل الحوار مع الصحافية الشابة بعد معرفته بإمكان تعيينها مباشرة عقب حوارها مع النجم الكبير.
في تلك اللحظة، ربّت على كتفها وقال وهو يلتفت لي: "حسين دا نفسه من زمان يعمل معي حوار.. دلوقت من حقه زيك أسجل معاه".
ثم اقترب مني بحنو ليردد: "كلكم كده انتهازيين وكله عايز يتعين". ضحكت، وبالفعل تعينت المحررة بعد حوارها مع نور بشهر فقط في مجلة الإذاعة والتلفزيون.
في هذه السهرة، أخبرته أنني أعشق أغنية "حدوتة مصرية" لمنير عن فيلم شاهين الذي أدى بطولته نور الشريف، وهو من أحب الأعمال إلى قلبه، فطلب مني أن أغنيها ثم أشعل سيجارةً في ركنٍ منزوٍ في حديقة حسن كامي وراح يبكي هو والممثل ضياء الميرغني.
وفور انصرافنا، كانت الساعة تقترب من السادسة صباحًا، ركبت مع ضياء الميرغني وهو وزوجته بوسي في السيارة التي أمامنا، وما إن فتح نور سيارته حتى وجد سيدة عجوز تجرُّ عربة خضار جهة ترعة المريوطية، وكأن القدر بعثها في طريقه.
نزل من سيارته، جرّ عنها العربة وضرب يده في جيبه الخلفي وأخرج حزمة نقود ثم عاد إلى السيارة وتناول مبلغًا آخر من المال ووضعه في كفها، فراحت تبكي. يومها أحسست بجمال الدنيا والأقدار التي ساقتنا في هذا الطريق.
تعددت اللقاءات بيننا، وكان هو يستيقظ باكرًا ليقرأ الصحف كلها. وكان مهتمًا وعارفًا بالشأن السياسي، ويرى أن الفنان يجب أن يكون صاحب رأي وسطي، أن يكون رسولًا للعدل وداعيًا للحق والخير والجمال.
وبعد عرض فيلمه "قلب الليل"، بدا حزينًا لعدم إقبال الجماهير على الفيلم. ولكن جاءه تلفون على الأرضي من عاطف الطيب ليخبره أن المنتج مطيع والسيناريست محسن زايد طلبا منه أن يقول له إن الفيلم هو من الأساس ليس فيلمًا جماهيريًا وإنه لو صمد أسبوعًا في دور العرض فسيكون أمرًا هائلًا. لكن الفيلم ما زال في الصالات ومستمرًا للأسبوع الثاني.
أنتج نور بعد ذلك، مع شركة فن للإنتاج السينمائي اللبناني، فيلم "ناجي العلي" بمشاركة مع اللبناني وليد الحسيني لتقوم الدنيا على نور وما قدّمه من إساءات للأنظمة العربية كافة. هاجمته الصحافة كثيرًا، لكنّ المثقفين عقدوا لقاءات تضامنية معه واتفقت شخصيات من أقصى اليمين وأقصى اليسار لتناصره خصوصًا بعدما مُنع بشكل مريب وغير رسمي من ممارسة نشاطاته الفنية في التلفزيون المصري.
حُكي مرة عن جفاء بين نور الشريف ومحمود عبد العزيز، ولكن وقعت حادثة أمامي تُثبت عكس ما أشيع وتعكس معنى المنافسة الفنية في أجمل صورها. ففي العرض الخاص لفيلم "كيت كات"، كان نور الشريف يجلس في مقعد خلفيّ ومحمود عبد العزيز أمامه، وحين انتهى الفيلم على تصفيق حاد ومدو لمدة قاربت ربع الساعة، هرول نور ليحتضن محمود وهنأه قائلًا: "قتلتني مرات بإيماءات عيون الشيخ حسني"، كان مشهد لقاء النجمين الكبيرين بعيونهما الدامعة وبسمتهما المعبرة من أحلى المشاهد الفنية.
يومها قال نور الشريف "إن محمود عبد العزيز قد كتب بهذا الدور سطرًا جديدًا في تاريخه الفني.
نور الشريف، أو محمد جابر عبد الله، وهو اسمه الحقيقي، تمكن من أن يكون ممثل الطبقات المصرية كافةً، بكل تناقضاتها واختلافاتها. ففي أفلامه، عبّر عن آلام الفرد وطموحاته في مختلف الشرائح الاجتماعية، بدءًا من البرجوازية بمساراتها المغايرة والطبقة المتوسطة بفئتيها العليا والدنيا.
وإذا أردنا أن نلخص تاريخه بصفة واحد فنقول إنه "متعدد الكاراكتيرات"، وهذا ناجم طبعًا عن اتساع ثقافته ومعارفه.
رحل نور الشريف في مثل هذا الشهر عن 69 عامًا بعد إصابته بمرض السرطان، وقد عرفته الأوساط السينمائية والثقافية والفكرية والإبداعية، خلال تلك السنوات، بخروجه عن المألوف وتحدي المخاطر ونسف كل محظور، سواء في السينما أو المسرح أو حتى الدراما. قدم أكثر من 200 عمل سينمائي من أهمها "سواق الأوتوبيس"، "البحث عن سيد مرزوق"، "زوجتى والكلب"، "الخوف"، "الكرنك"، "العار"، "أيام الغضب"، بالإضافة إلى عشرات المسلسلات التلفزيونية والدراما الإذاعية وكثير من الأعمال المسرحية.