كتب الباحث: إبراهيم الكوني..تلبيس النّمط: الصحراء نموذجاً (٣)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • كتب الباحث: إبراهيم الكوني..تلبيس النّمط: الصحراء نموذجاً (٣)



    إبراهيم الكوني
    فيلسوف وروائي
    تلبيس النّمط: الصحراء نموذجاً (٣)

    (إلى العزيز عمر عبد العزيز) جدير بنا أن نتساءل: هل التنميط مسألة رأي، أم أنه استصدارٌ لحكم؟

    يقيناً أنه حكمٌ حتّى في حال تستّر وراء قناع الرأي. وكونه ماهيّة حكم هو ما يكسبه ماهيّة الخطر، لسببٍ بسيط جدّاً وهو تجربة التمييع، التي يخضع لها موضوع الحكم، وهي هنا، ماهيّة تلعب دور رأسمال في سيرة مجال، له حضورٌ في الطبيعة، بما هو يابسة، كما الحال مع ظاهرة كالصحراء، لا لاستجوابها، كي تدلي لنا بتصريح، يرتقي إلى مستوى الإعتراف بمهمّتها الرسالية، التي خضعت لجدلٍ تاريخيّ، ذي بُعد غيبيّ، لأن الحرية، التي يطرحها منطق التنميط كعطية صحراء، ليست مجرد لُقية حظّ، ولكنها، بكل المقاييس، غنيمة ميتافيزيقية، جديرة بتناولها من منطلق علاقتها بالحقيقة. فهل الحكم هنا هو كلمة حقّ، ولكنه الحقّ الذي أُريد له أن يعتنق دين الباطل؟ أم العكس، أي أنه حكمٌ للإدلاء بشهادة الزور، القاضية بترجمة الباطل، لكي يستعير مواهب الحقّ، بدليل صنوف الخبث، التي سوّقت هذه المفردة (الحرية كسليل شرعي مستعار من معدن الصحراء)، لكي تستوي في مصطلح سيّء السمعة، وهو: المسَلَّمَة، ممّا يكشف عن وجود مكيدة، لا للنَّيْل من الحرية، كجنين صحراء، ولكن للإطاحة بعرش الأمّ، التي أتحفتنا بهذا الجنين، وهي: الصحراء، التي لم تكفّ يوماً عن تباهيها بذخيرة أجنّة أخرى سخيّة، وما الحرية سوى قرون استشعار في ثروة مستودعها؟ ما ضرّنا لو استجبنا لمشيئة الحكيم ابن منظور، صاحب موسوعة «لسان العرب، واستنسأنا من جنابه تعريف «الطريقة»، كرديف لمفردة غامضة كـ«نمط»، لتعمل على انتدابه سفيراً لنا في حملة البحث عن حقيقة الصحراء بوصفها طريقاً، استعار منه سدنة الحكمة منذ الأزل إسم الطريقة، التي أضحت في ديانات الـ«ثاو»، أو «طاو»، رديفاً للحقيقة؟

    الواقع أن الصحراء هي التي تقدّم لنا نفسها، في بطاقة التعريف، بأنها كانت منذ الأزل، وستبقى إلى الأبد، طريقاً، لسببٍ بسيط وهو أنها، كلّها، محبوكة من خيطٍ سحري، استسراريّ، لعب دوراً فروسيّاً في تشكيل وعي المهاجر، قبل أن يقوده وعيه بنفسه لأن يعي ما بالعالم، وهو: الطريق

    فاحتراف الطريق، أي إدمان الهجرة إفيوناً، هو ما أبدع الطريقة، عندما اكتسب فعل التنقّل حضوراً في السيرورة، ليستقيم في المنطق كمفهوم، إلى حدٍّ دعا الأوصياء على الوصايا لأنْ يعتمدوا كل إلهامٍ، جاد به، الطريق: نبوءةً، ولم يكتفوا، ولكنهم أبوا إلّا أن يؤمنوا بالسبيل ملاذاً، وكل وصيّة لم ينجبها الطريق لا يعوَّل عليها!

    وبالطبع فإن الطريق ليس مجرد فسحة، تغوي لممارسة نزهة، لممارسة غزوة، ولكن الطريق مسئولية وجودية تتطلّع لأداء مكوس. مكوسٌ ما يهبها ماهية قدسية، هو وجوب سداد فاتورة دَيْن، الطريق فيها ملحمة التحدّي، لأنه لا يستقبلنا في رحابه لكي يستضيفنا، ولكن لكي يطردنا، لكي يهجرنا، في صفقة متبادلة تكشفها لنا اللغة نفسها. فمفردة «طريق» ليست سوى «تريك»، لأن القاف والكاف يتعاقبان، والتريك متروك، أي مهجور. ونستطيع أن نتخيّل ما الذي يمكن أن يعنيه الطريق لو لم نهجر الطريق. سوف يتنكّر آنذاك لماهيّته، ليغدو مكاناً، يغدو مقاماً، يغدو سجناً، لن يختلف عن أي ركنٍ من أركان العمران. أي أنه لا يعود صحراءً. هذه الصحراء لم تكن لتكون صحراءً لو لم تكن كلّها طريق يتواصل في طريق. الطريق لا كـ تركٍ وحسب، ولكن الطريق كهبة نفيسة أخرى تجود بها علينا اللغة. وهو: الطَّرْق. الطَّرْق كفعل يجادل «الترك»، لينال فيه الفحوى. فأن نطرق مجالاً مّا، فهذا سيعني أننا لا نترك مساحة مّا وحسب، ولكننا نتقدّم إلى الأمام، لنقتحم فضاءً آخر نُقبل عليه، بديلاً للفضاء الذي خلّفناه وراءنا. أي أن الطريق مفهومٌ عبقريّ، له القدرة على إحكام القبضة على الضدَّين، فلا يكتفي، ولكنه يستميت كي يجد لهما تسوية في المنطق، الذي لن يكون هنا سوى احتواء الماضي والمستقبل معاً، أو استرداد الزمن الضائع، كي يتحوّل رصيداً في ثروة المستقبل، فلا يعود ضائعاً، بل يغدو عتبة في سلّم معراج يُتوَّج في صيغة تأنيث هو قياس في أية تجربة حرفيّة، كما الطريقة! الطريقة التي ندركها بفنون الطَّرْق ليست اشتقاقاً من الطريقة، التي سوّقها لنا إبن منظور، لتؤدّي دوراً بهلوانياً في تعريفٍ مخزٍ هو: «التنميط» ولكنها الطريقة الناتجة عن نزيف الروح، الذي سفحناه في مسيرنا الطويل عبر الطريق، مجبولاً بتقنيات زُهدية لسنا في حاجة لاستعراضها هنا، لأن الآلام هي ما يشفع لها فتستغني عن التعريف. هذا النزيف هو حجر الحكمة الذي يحيل الطريق إلى طريقة، فلا يكتفي، ولكنه لا يتوقّف في استنطاق الحدس كي يكتشف الحقيقة، التي تتكتّم عليها الطريقة، ليتحقّق القِران بين اللُّقيَتَين، لا في بُعدهما في منطق الحرف في اللغة، ولكن قرانهما في المدلول، لأن الحقيقة لم تكن في المفهوم لُقيةً ساكنةً، ملقاة على قارعة الطريق، ولكنها تسكن الطريق نفسه، لتتنقّل مع الطريق، لتسير في ركاب الطريق، لتسكن شريان الطريق، لتستعير مواهب أمثولة الجبل الجليدي العائم، الذي لا يكشف لنا سوى عن تُسع حجمه، أمّا التسعة أعشار الباقية، فتغيب في جوف الغمر، وكونه عائماً يعني أنه متحوّل، أي أنه وَفيٌّ لمذهب الطريق، الذي لفّق، بقدرته على طَرْق أبواب المجهول، الطريقة، التي تستطيع أن تستوعب طريداً خالداً هو: الحقيقة!

    وموهبة الأمثولة ليست فقط صفة الجبل كجرمٍ عائم، أي مرتحل، أي بوصفه غنيمة طريق، ولكن في صيغة التاسوع، أي التسعة أعشار المستترة في يَمّ المياه، لأن التسعة هو رقم الربوبية في معادلة الوجود، بصفته كلمة الختام في حسبة الأعداد، كما بيَّنّا في معالجة سابقة لحقيقة هذا الرقم، المسكون بنصيبٍ سخيّ من حمولة غيبيّة. وهكذا تغدو الصحراء هي الإسم المستعار للحقيقة؛ أمّا الحرية، التي شاء لها الحواة أن تكون، في صحيفتها، موضوع تنميط، فإنها تستعيد حُجّتها بصفتها الترجمان لهذه الحقيقة، التي تبدأ مسيرتها كطريق، لأنها برمّتها طريق، طريق ليس له إلّا أن يستوي، بالاحتراف، في طريقة، الطريقة في مفهومها المعتمد كحقيقة، لم تخطيء ديانات الـ«ثاو» أن تعتنقها في متنها المقدّس، فتتغنّى: «مَن عرف الحقيقة في الصباح، في المساء يستطيع أن يموت»
يعمل...
X