ألبير داغر.. النخب اللبنانية والتنمية منذ العهد العثماني
الدوحةالعربي الجديد-27 اغسطس 2023
ساحة الشهداء في بيروت على طابع بريدي من بداية القرن الماضي
صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتاب "تجربة لبنان التنموية" لأستاذ العلوم الاقتصادية والباحث اللبناني ألبير داغر. ويتضمن الكتاب أحد عشر فصلًا تتمحور جميعها حول مواضيع تتعلق بطبقة النخب اللبنانية في حقبة الحكم العثماني وحكم المتصرفية، ثم خلال مرحلة الانتداب الفرنسي على لبنان. كما يتعرض لمسار التنمية وقواها الفاعلة في لبنان في إثر الاستقلال، وفي حقبة الستينيات، ثم في النصف الأول من السبعينيات، ويتناول الأزمة المالية التي أصابت لبنان خلال التسعينيات، ثم انخفاض حدتها بعد اتفاق الطائف، ويتطرق إلى العوامل التي أدّت إلى أزمة لبنان المالية الحادة التي يعانيها حتى زمن الكتابة.
يرى المؤلف أن مكمن مشكلة لبنان هو الثقافة السياسية لأبنائه، التي ينبغي العمل على تهذيبها وإزالة شوائبها الضارة مهما كلّفت من جهد، لأنها "بيت القصيد" في قضية "العيش المشترك"، وتستحق كل الجهد. أما بشأن الثقافة الاقتصادية، فإن أسوأ ما يمكن أن يصادفه المرء في لبنان ألا يجد الشباب ما يقولونه حينما يريدون الحديث عن تجربة بلدهم الاقتصادية، وألا يتوفّر لهم ما يُعينهم في الحكم عليها.
وفّر الفصل الأول قراءة نظرية متعلقة بالحقبة العثمانية في لبنان، وتناول دور نخب الأقاليم العثمانية في ظل تبعية السلطنة للخارج خلال مرحلة ضعفها. ويستعرض هذا الفصل أحداث الساحة اللبنانية خلال السنوات الخمسين الأخيرة من عمر "الرجل المريض"، بعد أن قبلت السلطنة أن تتحوّل خلال المئة سنة الأخيرة من عمرها إلى اقتصاد تابع يوفّر سلعًا زراعية لأسواق أوروبا من أجل سداد ديونها. ويقدّم الفصل دراسة سوسيولوجية عن العلاقة بين الشعب ودولته فيها.
يرى المؤلف أن مكمن مشكلة لبنان هو الثقافة السياسية لأبنائه
أما الفصل الثاني، فيتناول دور الدولة في التنمية خلال عهد المتصرفية، وهجرة اللبنانيين الكثيفة إلى المهاجر، ثم المجاعة القاسية التي ضربت لبنان مع عجز السلطنة عن قيادة مشروع "تصنيع متقدم"، وإنْ كان هذا الأمر قد جاء متأخّرًا كما حدث في اليابان، ووضع القوى الأوروبية المنتصرة يدها على مداخيلها؛ ما انعكس فشلًا تنمويًّا على أقاليمها التابعة، ومنها جبل لبنان الذي شهد مجاعةً قاسية، وهجرةً كثيفة.
أمّا الفصل الثالث، فقد عرض لنصوص قيّمة حول تجربة الانتداب لروجر أوين وكارولين غيتس على وجه الخصوص، وقد بين هذان المرجعان كيفية رفض الدولة في مرحلة الانتداب تحمّل أيّ مسؤولية في بناء الاقتصاد المنتج، وتحوّل بيروت إلى نقطة الثقل الاقتصادي. ويُلقي الفصل الضوء، أيضًا، على الريف اللبناني وهجرة اللبنانيين في تلك الحقبة.
واستند الفصل الرابع إلى الإضاءات التي وفرها كتابَا إيرين غندزير وكارولين غيتس لقراءة تجربتَي الانتداب ومطلع الاستقلال حتى نهاية الخمسينيات، وأظهر التناقض بين النقاش العامّ، الذي قام على تقريظ التجربة باعتبارها "معجزة اقتصادية"، وواقع الاقتصاد الفعلي، وسلّط الضوء، في تلك الفترة، على قطاع الخدمات، والزراعة في الريف، والصناعة التي نقلت لبنان إلى تجربة استحقت "التقريظ" من جهات دولية وإقليمية.
الصورة
واستعاد الفصل الخامس حول التنمية خلال الستينيات تجربتَي فؤاد شهاب وخَلَفِه شارل حلو التنمويتين، وكيف أنهما وضعا أولوية لتثبيت سعر صرف مرتفع للعملة أدى إلى خفض الرسوم الجمركية على الاستيراد؛ ما أدى إلى نموه وتصفير عجز الموازنة، كما زاد الحُكْمان الإنفاق المخصص للزراعة.
واستكمل الفصل السادس النقاش حول التنمية مع المشرّع ميشال شيحا ومن تأثروا به، ومنهم سليم نصر، بشأن خيارات لبنان الاقتصادية، ومن ضمنها إبقاء سعر صرف ثابت للعملة لتشجيع توظيفات الخارج المالية، ويورد المؤلِّف حقائق عن فائض مستدام في ميزان المدفوعات في تلك الحقبة، وتوظيف المصارف نصف مواردها في الخارج، وتوفيرها قروضًا للقطاع التجاري تعادل ثلاثة أضعاف ما يحصل عليه قطاعَا الصناعة والزراعة مجتمعَين. وأكّد أن ريف لبنان وأهله هما اللذان دفعَا، بسبب الهجرة، الثمنَ الباهظ لتجربة لبنان المعاصرة.
وقدّم الفصل السابع قراءةً لتجربة النصف الأول من السبعينيات مع بداية غلاء المعيشة والأزمة الاجتماعية بعد فترة الستينيات المزدهرة، وكيف أن الإصلاحات الإدارية غابت في تلك الحقبة في ظل البيروقراطية المتفشية، ردًّا على التعبئة الحادة في أوساط هيئات أرباب العمل ضد الإجراءات الحكومية المنحازة إلى مصلحة التجار والمصرفيين؛ ما شكّل نذيرًا لأزمات اجتماعية وبدايةً لغلاءٍ في المعيشة بعد فترة رفاه الستينيات.
و تناول الفصل الثامن وما بعده تجربة ما بعد عام 1990، التي اعتمدت مفاهيم "المقاربة الوديّة تجاه قوى السوق" و"الاقتصاد شبه - الريعي"، و"رأسمالية أصحاب الريوع المالية"، وقد تبنّت مؤشر "سعر الصرف الفعلي الحقيقي". وقدّم هذا الفصل قراءةً لعقد التسعينيات تحت عناوين تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية والإنفاق الاستثماري خلاله. وفي هذا العقد، انطلقت المديونية الحكومية، وتباطأ النمو وزاد الإنفاق العام، وارتفع الطلب والتكلفة، والأسوأ من ذلك كله اهتزاز سعر العملة خلال الفترة 1990-1992.
وأضاء الفصل التاسع، وهو فصل مقتضب يستكمل القراءة المذكورة آنفًا، أهمّ ما في حقبة ما بعد الحرب وتوقيع "اتفاق الطائف"، وخصوصًا استعار رأسمالية أصحاب الريوع المالية، وارتفاع مؤشر سعر الصرف الفعلي الحقيقي الذي يستدلّ به الاقتصاديون على النمو المتحقّق، وغياب الاستثمار المنتج وغياب النمو، والذي يمكن من خلاله الحكم على كل تجربة ما بعد عام 1990.
وقدّم الفصل العاشر قراءة مقتضبة لحقبة ما بعد الطائف أظهرت المشترك بينها وبين تجارب ما قبل عام 1975، ونبذة عن المديونية العامة، وكان أول الجوانب المشتركة متمثّلًا في أولوية مصالح "أصحاب الريوع المالية" في تجربة لبنان وتحرير المبادلات مع الخارج. وقد أدّت السياسات المعتمدة إلى تراجع إضافي لحصة القطاعات المنتجة في الناتج، وبلوغ الهجرة مستويات غير مسبوقة. وفي هذا السياق، ذكر المؤلِّف أنّ 15 في المئة من السكان تركوا بلادهم بعد حرب السنتين، ليبلغ عدد المهاجرين في عام 1989 رُبع السكان.
أمّا الفصل الحادي عشر، فقد اهتمّ بـ "السير نحو الأزمة المالية"، وقد ركز على تعريف لبنان من جهة أنّ اقتصاده شبه ريعي؛ أي تابع على نحو فظيع للتدفقات المالية الخارجية، وركّز الفصل أيضًا على استعراض مكونات ميزان المدفوعات اللبناني وتطوره، وكيفية انتقال الميزان من الفائض الدائم إلى العجز الدائم. وقد استخدم المؤلِّف في ذلك مقاربةً مقارنةً اعتمدت أعمال المفكر الاقتصادي غابرييل بالما، وركز في هذا الفصل على محاولات الإنماء الاقتصادي بعد الحرب، والمعوقات التي اعترضته بسبب عوامل كثيرة؛ منها الاقتصاد شبه الريعي، وفي ذلك إشارة إلى تصاعد أرقام عجز الميزان التجاري في فترة ما بعد الألفية الثانية.