صادق قمش فنان تونسي عاش تجربة الرسم بين عصرين
التشكيلي التونسي اشتق طريقا لنفسه قادته خارج وصفات المحلية الجاهزة بالرغم من أنه رسم موضوعات مستلهمة من محيطه.
ا
ستون سنة وأكثر من الرسم
“خمسون سنة لا تكفي. لأن الفن أرحب من الواقع”، ذلك ما كتبه الفنان والأكاديمي التونسي فاتح بن عامر في مقدمة كتاب صدر قبل سنوات عن تجربة الصادق قمش. ذلك ما يعني أن قمش كان قد اجتاز مناطق لم تكن أصلا ضمن إطار مرحلته الزمنية. لقد قُدر له أن يمارس دورا طليعيا في مرحلة كان قد استقر فيها أسلوبيا وفكريا.
القادم بتمرده
ربما وجد قمش في تململ الرسامين الشباب الذين ظهروا في بدايات عقد ستينات القرن العشرين استمرارا لتمرده على جماعة مدرسة تونس ورفضه لاستعمال مفردات الفلكلور في صنع واجهة محلية لا تعبر عن الروح التونسية المعاصرة.
◙ خلق فن جديد
عام 1962 أسس مع مجموعة من الرسامين الشباب “مجموعة الستة” كان من بينهم رسامان سيلعبان في وقت لاحق دورا مهما في تحرير الرسم الحديث في تونس من هيمنة أفكار وأساليب جماعة مدرسة تونس هما نجيب بلخوجة ولطفي الأرناؤوط.
كانت مغامرة الرسم في تلك السنوات تهدف إلى خلق اللوحة البديلة التي كانت أساسا لقيام مفاهيم جمالية جديدة، وهي التي شكلت القاعدة التي انطلقت منها الحداثة الفنية في تونس حين كان التحول تعبيرا عن ظهور مزاج جمالي هو مزاج العصر الذي صار الانفتاح على العالم فيه جزءا من أصالة التجربة. لقد حدث تغير في مفهوم الأصالة، كان الصادق قمش واحدا من أهم دعاته. سيكون عليه في مرحلة لاحقة أن يصبح جزءا من واقع، رأى فيه مرآة لتمرده الفني.
كان هناك دائما شيء من قريته الأمازيغية “تكرونة” يظهر في أعماله. مفردات طبيعية لا تزال قوة إلهامها نضرة. وكما يقول رمزي العياري “كان قمش يعتقد صارمًا أنّ مدرسة تونس هي شجرة باسقة وعالية ومثمرة، لكنها في الوقت نفسه كانت تحجب غابة جميلة، ثرية ومزهرة. لقد اختار هذا الفنان دربا مغايرا”.
بين الحداثة والمجتمع
في ذلك الدرب بنى الفنان عالمه الذي عبر من خلاله عن نزعة حداثية تمزج بين مفردات الذاكرة بكل عاطفتها وتأثيرات محترفات الحداثة في الغرب. كان الهدف يتمحور حول الوصول إلى رسم يخلص إلى حداثته وفي الوقت نفسه لا ينقطع عن جذوره الاجتماعية.
في تلك المرحلة كانت هناك عقدة اسمها “جماعة مدرسة تونس” وكانت إزاحتها من المشهد الفني أو التقليل من تأثيرها واحدا من أهم أهداف الحداثة.
◙ نزعة حداثية تمزج بين مفردات الذاكرة
تأثر الصادق قمش بتجربة الرسام التونسي اليهودي بيار بو شارل الذي كان عضوا مؤسسا لجماعة مدرسة تونس، كما أنه لم يخف إعجابه برسوم الايطالي أميدو موديلياني، غير أنه في الحالين لم يصل بتأثره إلى مرحلة التقليد. كان لديه ما يقوله شخصيا؛ ما يرسمه لكي يكون الآخر الذي يقول شيئا مختلفا، هو الشيء الذي يشكل دعامة لقيام رسم حديث.
تربى الصادق قمش فنيا في خمسينات القرن العشرين وكان يومها معجبا بتجربة وأفكار رسامي مدرسة تونس، غير أنه سريعا ما تمرد على تربيته حين سعى إلى إعلان انفصاله عنها وانتمى إلى جوقة الفنانين المغامرين الذين انتقلوا بالرسم إلى مرحلة يكون فيها حديثا وأصيلا من غير الالتزام بشروط محلية تفرض عليهم رسم مناظر واقعية.
الصادق قمش هو ابن تجربة منفلتة من إطارها الزمني.
يعتبر الصادق قمش من الآباء المؤسسين للحركة التشكيلية في تونس، غير أنه كان أبا متمردا كما يُقال. لقد اشتق طريقا لنفسه قادته خارج وصفات المحلية الجاهزة بالرغم من أنه رسم موضوعات مستلهمة من المحيط الاجتماعي. كان إيمانه بإمكانية التغيير هو مصدر ثقته بالرسم الخالص الذي لا يتحكم فيه موضوعه.
كانت أسلوبيته في الرسم هي أساس تجربته الفنية. ذلك ما وضع مسافة بينه وبين رسامي الخمسينات الذين اهتم بعضهم بما يفعل. رسم أشخاصا من الواقع غير أنه سعى إلى أن يدمجهم في المحيط على سطح اللوحة الذي غالبا ما كان يحتوي على مفردات مستعارة من الواقع وإن رسمت بطريقة تبسيطية. ذلك الأسلوب هو ما جعله قريبا من الرمزية.
مزج قمش بين الفكر الوجودي والأسلوب العفوي من غير أن يتبنى أي اتجاه فني صريح. ربما لأنه كان يحلم بظهور فن ذي علاقة مباشرة بالحياة التي يعبر عنها ويجسدها من خلال أشكال إنسانية بدت كما لو أنها أشباح. تلك صورته وهو ينتقل خفيفا من غير أثقال الوصفات الجاهزة من عقد الخمسينات إلى عقد الستينات الذي انطوى على ثورة أسلوبية ضمنت له المزيد من الانتشار بين أوسط الشباب يومها. وبذلك لم يلعب قمش دور الجسر الذي يصل بين مرحلتين بل كان انحيازه للشباب الثائر هو علامة قطيعته مع الفن الذي كان سائدا والذي كان يمثل سلطة ثقافية.
فنان بنضارة تجربته
◙ الصادق قمش ابن تجربة منفلتة من إطارها الزمني
“رؤى متجذرة”، كان ذلك هو عنوان معرضه في قاعة “فسيفساء” بالعاصمة تونس عام 2020. قبلها بأربع سنوات صدر كتاب “خمسون سنة وأكثر” الذي كان يؤرخ للنتاج الفني الذي قدمه الصادق قمش ما بين سنتي 1963 و2014. فيه يقول الناقد فاتح بن عامر “خمسون سنة من الإبداع التشكيلي، خمسة عقود من البذل والعطاء لمجال أحبّه الفنان فأضحى محور حياته ومركزها. هذا ما يقدّمه الفنان الصادق قمش من شذرات رحلة تشكيلية تأسّست على البحث والمثابرة من أجل نحت أسلوب تشكيلي وشخصية فنيّة متميزين سواء على مستوى الممارسة التّصويرية التي تأسست على المقاربة التشخيصية بعيدا عن المألوف من التعبيرات التشكيلية المتوفرة في الساحة التشكيلية التونسية من تصورات تتبع نهج الاستشراق الفني وأخرى تتماهى مع اختيارات جماعة مدرسة تونس”.
في عام 2021 أقيم معرض استعادي للفنان في المركز الثقافي الدولي بالحمامات سلط الضوء على تنوع أساليب الفنان عبر ستين سنة من الإبداع.
وهكذا يكون الصادق قمش قد عاش زمنه وزمن الآخرين الذين بقوا ينظرون إلى تجربته الفنية بإعجاب، لا لأنها تمثل طموحاتهم في خلق فن جديد، بل لأنها مثلت عنصر حث على التغيير والاندفاع خارج الأطر الفنية الجاهزة.
في إطار ذلك الفهم مثل قمش ظاهرة استثنائية من جهة تمرده على الوصفات الجاهزة ونزعته الحداثية التي قربته من روح العصر وإن كان فنه قد اكتسب في بعض الأحيان قوة الوثيقة التاريخية. عبر أكثر من ستين سنة من الإبداع اجتهد الصادق قمش في أن يكون انتماؤه إلى عصره صادقا وعميقا، غير أنه لم يكن انقلابيا. ذلك لأن لوحته ظلت تتطور بهدوء وبطء معبرة عن رغبة خالقها في أن يكون فنه مرآة لروحه.
◙ رسم يخلص إلى حداثته وواقعه◙ الفنان مثّل ظاهرة استثنائية من جهة تمرده على الوصفات الجاهزة ونزعته الحداثية التي قرّبته من روح العصر
فاروق يوسف
كاتب عراقي
التشكيلي التونسي اشتق طريقا لنفسه قادته خارج وصفات المحلية الجاهزة بالرغم من أنه رسم موضوعات مستلهمة من محيطه.
ا
ستون سنة وأكثر من الرسم
“خمسون سنة لا تكفي. لأن الفن أرحب من الواقع”، ذلك ما كتبه الفنان والأكاديمي التونسي فاتح بن عامر في مقدمة كتاب صدر قبل سنوات عن تجربة الصادق قمش. ذلك ما يعني أن قمش كان قد اجتاز مناطق لم تكن أصلا ضمن إطار مرحلته الزمنية. لقد قُدر له أن يمارس دورا طليعيا في مرحلة كان قد استقر فيها أسلوبيا وفكريا.
القادم بتمرده
ربما وجد قمش في تململ الرسامين الشباب الذين ظهروا في بدايات عقد ستينات القرن العشرين استمرارا لتمرده على جماعة مدرسة تونس ورفضه لاستعمال مفردات الفلكلور في صنع واجهة محلية لا تعبر عن الروح التونسية المعاصرة.
◙ خلق فن جديد
عام 1962 أسس مع مجموعة من الرسامين الشباب “مجموعة الستة” كان من بينهم رسامان سيلعبان في وقت لاحق دورا مهما في تحرير الرسم الحديث في تونس من هيمنة أفكار وأساليب جماعة مدرسة تونس هما نجيب بلخوجة ولطفي الأرناؤوط.
كانت مغامرة الرسم في تلك السنوات تهدف إلى خلق اللوحة البديلة التي كانت أساسا لقيام مفاهيم جمالية جديدة، وهي التي شكلت القاعدة التي انطلقت منها الحداثة الفنية في تونس حين كان التحول تعبيرا عن ظهور مزاج جمالي هو مزاج العصر الذي صار الانفتاح على العالم فيه جزءا من أصالة التجربة. لقد حدث تغير في مفهوم الأصالة، كان الصادق قمش واحدا من أهم دعاته. سيكون عليه في مرحلة لاحقة أن يصبح جزءا من واقع، رأى فيه مرآة لتمرده الفني.
كان هناك دائما شيء من قريته الأمازيغية “تكرونة” يظهر في أعماله. مفردات طبيعية لا تزال قوة إلهامها نضرة. وكما يقول رمزي العياري “كان قمش يعتقد صارمًا أنّ مدرسة تونس هي شجرة باسقة وعالية ومثمرة، لكنها في الوقت نفسه كانت تحجب غابة جميلة، ثرية ومزهرة. لقد اختار هذا الفنان دربا مغايرا”.
بين الحداثة والمجتمع
في ذلك الدرب بنى الفنان عالمه الذي عبر من خلاله عن نزعة حداثية تمزج بين مفردات الذاكرة بكل عاطفتها وتأثيرات محترفات الحداثة في الغرب. كان الهدف يتمحور حول الوصول إلى رسم يخلص إلى حداثته وفي الوقت نفسه لا ينقطع عن جذوره الاجتماعية.
في تلك المرحلة كانت هناك عقدة اسمها “جماعة مدرسة تونس” وكانت إزاحتها من المشهد الفني أو التقليل من تأثيرها واحدا من أهم أهداف الحداثة.
◙ نزعة حداثية تمزج بين مفردات الذاكرة
تأثر الصادق قمش بتجربة الرسام التونسي اليهودي بيار بو شارل الذي كان عضوا مؤسسا لجماعة مدرسة تونس، كما أنه لم يخف إعجابه برسوم الايطالي أميدو موديلياني، غير أنه في الحالين لم يصل بتأثره إلى مرحلة التقليد. كان لديه ما يقوله شخصيا؛ ما يرسمه لكي يكون الآخر الذي يقول شيئا مختلفا، هو الشيء الذي يشكل دعامة لقيام رسم حديث.
تربى الصادق قمش فنيا في خمسينات القرن العشرين وكان يومها معجبا بتجربة وأفكار رسامي مدرسة تونس، غير أنه سريعا ما تمرد على تربيته حين سعى إلى إعلان انفصاله عنها وانتمى إلى جوقة الفنانين المغامرين الذين انتقلوا بالرسم إلى مرحلة يكون فيها حديثا وأصيلا من غير الالتزام بشروط محلية تفرض عليهم رسم مناظر واقعية.
الصادق قمش هو ابن تجربة منفلتة من إطارها الزمني.
يعتبر الصادق قمش من الآباء المؤسسين للحركة التشكيلية في تونس، غير أنه كان أبا متمردا كما يُقال. لقد اشتق طريقا لنفسه قادته خارج وصفات المحلية الجاهزة بالرغم من أنه رسم موضوعات مستلهمة من المحيط الاجتماعي. كان إيمانه بإمكانية التغيير هو مصدر ثقته بالرسم الخالص الذي لا يتحكم فيه موضوعه.
كانت أسلوبيته في الرسم هي أساس تجربته الفنية. ذلك ما وضع مسافة بينه وبين رسامي الخمسينات الذين اهتم بعضهم بما يفعل. رسم أشخاصا من الواقع غير أنه سعى إلى أن يدمجهم في المحيط على سطح اللوحة الذي غالبا ما كان يحتوي على مفردات مستعارة من الواقع وإن رسمت بطريقة تبسيطية. ذلك الأسلوب هو ما جعله قريبا من الرمزية.
مزج قمش بين الفكر الوجودي والأسلوب العفوي من غير أن يتبنى أي اتجاه فني صريح. ربما لأنه كان يحلم بظهور فن ذي علاقة مباشرة بالحياة التي يعبر عنها ويجسدها من خلال أشكال إنسانية بدت كما لو أنها أشباح. تلك صورته وهو ينتقل خفيفا من غير أثقال الوصفات الجاهزة من عقد الخمسينات إلى عقد الستينات الذي انطوى على ثورة أسلوبية ضمنت له المزيد من الانتشار بين أوسط الشباب يومها. وبذلك لم يلعب قمش دور الجسر الذي يصل بين مرحلتين بل كان انحيازه للشباب الثائر هو علامة قطيعته مع الفن الذي كان سائدا والذي كان يمثل سلطة ثقافية.
فنان بنضارة تجربته
◙ الصادق قمش ابن تجربة منفلتة من إطارها الزمني
“رؤى متجذرة”، كان ذلك هو عنوان معرضه في قاعة “فسيفساء” بالعاصمة تونس عام 2020. قبلها بأربع سنوات صدر كتاب “خمسون سنة وأكثر” الذي كان يؤرخ للنتاج الفني الذي قدمه الصادق قمش ما بين سنتي 1963 و2014. فيه يقول الناقد فاتح بن عامر “خمسون سنة من الإبداع التشكيلي، خمسة عقود من البذل والعطاء لمجال أحبّه الفنان فأضحى محور حياته ومركزها. هذا ما يقدّمه الفنان الصادق قمش من شذرات رحلة تشكيلية تأسّست على البحث والمثابرة من أجل نحت أسلوب تشكيلي وشخصية فنيّة متميزين سواء على مستوى الممارسة التّصويرية التي تأسست على المقاربة التشخيصية بعيدا عن المألوف من التعبيرات التشكيلية المتوفرة في الساحة التشكيلية التونسية من تصورات تتبع نهج الاستشراق الفني وأخرى تتماهى مع اختيارات جماعة مدرسة تونس”.
في عام 2021 أقيم معرض استعادي للفنان في المركز الثقافي الدولي بالحمامات سلط الضوء على تنوع أساليب الفنان عبر ستين سنة من الإبداع.
وهكذا يكون الصادق قمش قد عاش زمنه وزمن الآخرين الذين بقوا ينظرون إلى تجربته الفنية بإعجاب، لا لأنها تمثل طموحاتهم في خلق فن جديد، بل لأنها مثلت عنصر حث على التغيير والاندفاع خارج الأطر الفنية الجاهزة.
في إطار ذلك الفهم مثل قمش ظاهرة استثنائية من جهة تمرده على الوصفات الجاهزة ونزعته الحداثية التي قربته من روح العصر وإن كان فنه قد اكتسب في بعض الأحيان قوة الوثيقة التاريخية. عبر أكثر من ستين سنة من الإبداع اجتهد الصادق قمش في أن يكون انتماؤه إلى عصره صادقا وعميقا، غير أنه لم يكن انقلابيا. ذلك لأن لوحته ظلت تتطور بهدوء وبطء معبرة عن رغبة خالقها في أن يكون فنه مرآة لروحه.
◙ رسم يخلص إلى حداثته وواقعه◙ الفنان مثّل ظاهرة استثنائية من جهة تمرده على الوصفات الجاهزة ونزعته الحداثية التي قرّبته من روح العصر
فاروق يوسف
كاتب عراقي