الطاهر بن جلون كاتب الإنسانية المعذبة بهجرتها
الكاتب المغربي عرف كيف يوظف حياته وحياة الآخرين في الكتابة لينتج أدبا من طراز رفيع، تحلق به شعرية اللغة لتضفي عليه طابع المعجزات التي لن تتكرر.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
من الذاكرة المغربية إلى المنفى الفرنسي
صدمتني جملة تُعرف به “كاتب فرنسي من أصول مغربية”، هناك خطأ قد يكون مقصودا. فبالرغم من أنه عاش معظم حياته في باريس ويكتب عمودا ثابتا في صحيفة لوموند غير أنه مغربي يكتب بالفرنسية، ولقد سبقه الكثير من الكتاب المغاربة إلى ذلك.
الليالي من جديد
حصل الطاهر بن جلون على جائزة غونكور عن روايته “ليلة القدر” وهي ككل رواياته مستلهمة من الحياة الشعبية واليومية المغربية. كان بارعا في نقل طقوس الحياة اليومية إلى مستوى عجائبي كما لو أنه يقرأ في كتاب “ألف ليلة وليلة”. وقد حاول البعض النيل من انتمائه الوطني من ذلك الباب الضيق، كونه يستعرض المسكوت عنه في حياة أُريد لها أن تكون طي الكتمان.
لغته الفرنسية الناصعة أهلته لكي يكون عضوا في أكاديمية غونكور. تلك درجة لا ينالها الأدباء الفرنسيون بيسر. كان ذلك سببا للبعض من الفرنسيين لكي يعتبروا أدبه أدبا أجنبيا بالرغم من أن كل الشواهد تؤكد أن ما يكتبه بن جلون هو أدب فرنسي وإن كانت موضوعاته مستلهمة من بيئة غير فرنسية.
ولأنه كاتب سياسي فإن أدبه قوبل بتحفظ رسمي في المغرب، بالرغم من إقبال القراء العرب على قراءة رواياته.
هاتك الأسرار
واجه بن جلون معضلة مزدوجة. فبعض الفرنسيين يعتبرونه كاتبا أجنبيا لكي يقللوا من شأن أدبه، وبعض المغاربة ينسبونه إلى الاستشراق كونه حول الحياة اليومية إلى مادة للفرجة، وهذا من وجهة نظرهم السبب الذي جعل المؤسسات الثقافية الغربية تحتفي به وبأدبه. إنه هاتك الأسرار ولا يمكن النظر إلى أدبه إلا من جهة ما يحتوي عليه من فضائح.
حين كتب بن جلون رواية “تلك العتمة الباهرة” كان جريئا في تسجيل وقائع زمن أسود من خلال ذكريات سجين سياسي. في تلك الرواية سلط بن جلون الضوء على ما لم
يعرفه العالم من أحوال السجناء السياسيين في المغرب. رواية مؤلمة يشعر قارئها بأنه تورط في قراءتها. فلا هو قادر على إغلاق الكتاب ومن ثم الإفلات من ألم القراءة وليس في إمكانه أن يكون مستعدا للاستمرار في المعاناة.
عرف بن جلون كيف يوظف حياته وحياة الآخرين في الكتابة لينتج أدبا من طراز رفيع، تحلق به شعرية اللغة لتضفي عليه طابع المعجزات التي لن تتكرر. بن جلون وقد حاز على جائزة الأركانة هو شاعر بالدرجة الأساس.
فاس طنجة باريس
ولد الطاهر بن جلون عام 1944 في فاس. انتقل عام 1955 مع عائلته إلى طنجة. درس الفلسفة في الرباط إلى عام 1971 بعدها غادر بلاده إلى فرنسا حيث حصل على شهادة عليا في علم النفس. قبلها كان قد اعتقل عام 1966 لأسباب سياسية ومن يومها قرر أن يترك العمل السياسي ويتفرغ للكتابة.
◙ الطاهر بن جلون هو الصيغة المعاصرة للحكواتي
كتب الشعر في بداياته وانضم إلى مجموعة مجلة “أنفاس” مع عبداللطيف اللعبي. ومن ثم اتجه إلى الرواية فأصدر روايته “حرودة” عام 1973. من بعدها تتالت رواياته “موحي الأحمق، موحي العاقل” و”صلاة الغائب” و”طفل الرمال” و”ليلة القدر”. كتب بن جلون أكثر من عشرين رواية.
“هناك أنماط من الصمت” لم يكن أمامه وهو يشعر بحريته سوى أن يفكك ذلك الصمت. يحلله ويحيله إلى مصادره. كان الصمت موحيا فمن خلاله يمكن الوصول إلى الخوف وانتزاع التفاصيل من بين لفائفه. كانت رحلة بن جلون في عالم اللاوعي المغربي شاقة وصعبة غير أنها أنتجت روايات مهمة. لذلك فمن الخطأ اعتباره كاتبا فلكلوريا أو أنه استعمل الفلكلور لأغراض شخصية مبيتة.
صحيح أنه أزاح الستارة عن حكاياتنا الغامضة التي لم تكن سرية غير أنه في الوقت نفسه كشف عن مواقع السحر في الثقافة الشعبية التي يصعب على الآخر الوصول إليها. لمَ لا يُنظر إلى محاولة بن جلون باعتبارها تأسيسا لذاكرة جماعية، ستكون العودة إليها بالنسبة إلى الأجيال القادمة عملا مبهرا وإن تم ذلك عن طريق الترجمة. أتذكر هنا أن بن جلون قال “لفرط ما لطمت على رأسي تورم، لكنه صار أخف لأنه أُفرغ من ذكريات كثيرة”.
من هو العنصري؟
“ولد هذا الكتاب عندما سألت مريام، بنت السنوات العشر، والدها الطاهر بن جلون عن العنصرية يوم رافقته للمشاركة في تظاهرة ضد مشروع متعلق بالهجرة”. بهذه الجملة قدمت دار الساقي الترجمة العربية لكتاب “العنصرية كما أشرحها لابنتي”.
يعرف بن جلون أن العنصرية لم تتراجع. ربما لا يشعر بها المهاجر أحيانا لأنها تجيد إخفاء رأسها لكنها تكون مدمرة حين تظهر كما يحدث حين تتعامل الشرطة مع المهاجرين بعنف مفرط.
لا يعالج الكاتب المغربي المشكلة بطريقة روائية لكنه يملك الكثير من الحكايات الواقعية التي تعينه على توضيح فكرته التي هي خلاصة عيش طويل في الغرب. ولا يعتبر بن جلون نفسه مهاجرا غير عادي كما هو في حقيقته، ولكنه من الصفة المجردة التي ينطوي عليها الاختلاف.
العنصري حسب بن جلون “يخاف من الأجنبي، من الذي لا يعرفه، خاصة إذا كان هذا الأجنبي أفقر منه، فهو يرتاب من العامل الأفريقي أكثر من ارتيابه من الملياردير الأميركي. أو هناك مثال أوضح عندما يأتي الأمير العربي فإنه يلقى ترحيبا واستقبالا كبيرين لأن من يقضي عطلته على الشاطئ اللازوردي يُستقبل بحفاوة إذ ليس هو العربي بل الرجل الثري الذي جاء لينفق أمواله”.
بهذه اللغة المبسطة والأفكار العميقة كتب بن جلون واحدا من الكتب التي تعين البالغين والصغار على فهم ظاهرة هي الأكثر خطورة في عالم اليوم.
حكايات حياتنا
“عبدالقادر المسكين الذي مات لأنه لم يجد من يحكي له حكاية”، ذلك ما كتبه بن جلون في روايته “تلك العتمة الباهرة” وهي رواية إشكالية طغى البعد الإنساني فيها على الجانب السياسي الذي هو محورها الأساس.
من خلال تلك الجملة يعترف بن جلون بمكانة الحكاية في حياة الإنسان وقوة تأثير حضور الآخر الذي يستمع إلى تلك الحكاية. ولأن حياة البشر هي مجموعة حكاياتهم فإن تداولها في ما بينهم يهب تلك الحياة نوعا من المعنى. وكما صار معروفا فإن بن جلون يتابع خيط حكاية بدأت في الذاكرة المغربية الدافئة لتنتهي في أحضان منفى غربي بارد.
في كل رواياته هناك شيء من سيرته الشخصية. في “طفل الرمال” و”ليلة القدر” يبدو ذلك أكثر وضوحا من رواياته الأخرى التي تابع فيها سير أبطال هامشيين غير أنهم أيضا تركوا أثرا في حياته من خلال مرورهم بها.
أحيانا تكون حياته مرآة لحيوات الآخرين. يكتب عنهم كما لو أنه يكتب عن نفسه.
يلذ له أن يتشبه بالحكواتي. الطاهر بن جلون هو الصيغة المعاصرة للحكواتي الغاص بمرارة العيش في الذاكرة.