امان في اسلام (نظام)
Al-Aman (Peace, pledge) - Al-Aman
الأمان في الإسلام (نظام ـ(
الأمان في الإسلام نظام جاءت به الشريعة الإسلامية لتنظيم علاقة غير المسلمين الذين يفدون من بلاد لا تدين بالإسلام (دار الحرب) إلى دار الإسلام للإقامة فيها والتعايش مع أهلها. ويرى بعض الفقهاء فيه واحداً من أصول «المركز القانوني للأجانب[ر]» في التشريع الوضعي.
دار الإسلام ودار الحرب
مع أن النزعة العالمية للإسلام، هي اتجاهه إلى مجتمعٍ إنسانيٍ واحدٍ بنظام قانوني هو «الشريعة الإسلامية"، فإنه لم يمتد إلى جميع أرجاء العالم، لذا أوجد الفقهاء المسلمون في الماضي تقسيماً نظرياً للعالم إلى مجتمعين مختلفين، هما دار الإسلام ودار الحرب.
ـ أمَّا دار الإسلام أو دار التوحيد أو دار العدل، فهي الأقاليم والأقطار التي للمسلمين عليها ولاية. وتضمُّ دار الإسلام، إلى جانب المسلمين، أشخاصاً من غير المسلمين هم أهل الذمة والمستأمنون. فأما أهل الذمة، فهم أهل الكتاب الذين فضلوا البقاء على دينهم الأصلي، والعيش في كنف الحكم الإسلامي في أمانٍ مؤبد. وأمَّا المستأمنون، فهم رعايا دار الحرب الذين يأتون دار الإسلام لتجارة أو مصلحة، ويتمتعون من أجل ذلك بأمان محدّد. وبين الذميين والمستأمنين فوارق جوهرية. فالذميون رعايا في الدولة الإسلامية، يتمتعون بما للمسلمين من حقوق «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» وهم ينقادون لحكم الإسلام، ويدفعون ضريبة اصطلح على تسميتها الجزية[ر] لقاء حماية الحاكم المسلم لهم حمايةً تامةً شاملةً مع احتفاظهم بديانتهم، «فإذا تشاجر أهل الذمة في دينهم لم يُعارضوا فيه، وإذا تنازعوا في حقٍ ارتقوا فيه إلى حاكمهم لم يُمنعوا فيه، وإن ترافعوا فيه إلى الحاكم المسلم حكم بينهم بموجب الإسلام، وتقام عليهم الحدود إذا أتوها». وهذا ليس وضع المستأمن كما سيأتي.
ـ أمَّا دار الحرب أو دار الشرك أو دار المخالفين، فهي البلاد التي ليس للمسلمين عليها ولاية، ولا تقام فيها شرائع الإسلام. ولهذه البلاد أنظمة قانونية متعددة. ولقد كانت علاقات دار الإسلام بدار الحرب تخضع لنظام يهدف إلى الدفاع عن الإسلام، مع مراعاة مبادئ التسامح واحترام العهد. وهذا يعني إمكانية دخول المسلمين مع غيرهم في معاهدات ومفاوضات وعلاقات دبلوماسية رتب لها الفقه الإسلامي قواعد وأصولاً تعرف «بالِسّير» تعدّ جزءاً لا يتجزأ من هذا الفقه.
يستخلص مما تقدم: أنّ ما يسمى بالشرع الدولي اتسم في الإسلام بالطابعين الإقليمي والشخصي معاً. فهو إلى جانب تنظيمه لعلاقات دار الإسلام بدار الحرب بصفتهما كيانين إقليميين منفصلين، يتناول أمر المستأمنين أو ما يعرفه الفقه الدولي المعاصر بالمركز القانوني للأجانب. وهكذا فالشرع الإسلامي، سبق القانون الدولي المعاصر الذي يُؤرّخُ له بدءاً من صلح وستفالية لعام 1648م، بإقراره بمركز قانوني واضح للفرد، بل بعدّه الفردَ شخصاً له حقوق، وعليه التزامات في ظل نظام الأمان.
الأمان وسنده الشرعي
الإسلام، كما يرى فقهاؤه، لا يعارض طبيعة الحياة، فلا يفرض على جماعة ما أن تعيش وراء ستار حديدي منقطعة الصلات، أو منعزلة عن الجماعات الأخرى في أنحاء العالم. وإنما يقرُّ بوجود علاقات شتى مع مختلف البلاد في حالتي السلم والحرب.
وإذا كان لكل نظامٍ أو عصرٍ أسلوبُه في حمايةِ شخص الأجنبي، فإن الإسلام جرى على منح الأجنبي في دار الإسلام أو دار الحربِ ما يسمى بالأمانِ، سواء أكان بطريق شفاهي أم كتابي، ولأي غرض ديني أو دنيوي، حتى يسهل امتزاج الشعوب، وانتقال المعارف وتمحيص فكرة الدين.
ونظام الأمان في الإسلام يتسع لكل أنواع الحماية والرعاية المعروفة حديثاً لشخص الأجنبي وماله في بلاد الإسلام، أو لعقد الصلات السلمية بين المسلمين وغيرهم؛ ولو أن الفقهاء القدامى أو بعضهم يرى في أن أصل العلاقات مع غير المسلمين هي الحرب وليس السِّلْم. وقد كانت فكرة الأمان من الأسس المهمة لتدعيم السلام فكان إعطاء الأمان للوفود المسيحية في الحروب الصليبية، نتيجة التسامح الإسلامي، أساساً للمعاملات الدولية.
وبعبارة مختصرة فإن مناط الأمان أن العربي، إذا دخل دار الإسلام مستجيراً لغرض شرعي، كسماع كلام الله، أو دخل بأمان للتجارة، وجب تأمينه، ليكون محروساً في نفسه وماله إلى أن يبلغ داره التي يأمن فيها. وإذن ففي ظل نظام الأمان، تستمر العلائق غير العدائية مع أهل الحرب، ولو كانت الحرب مستعرة، وهذا ما لم يقره القانون الدولي المعاصر حتى اليوم. ويذهب بعضهم إلى أن الأمان في دار الإسلام، ليس فقط بمنزلة جواز سفر لدخول دار الإسلام، وإذنٍ بالإقامة يتمكن به المسلمون وغيرهم، من تبادل المنتجات، وتقوية أواصر التعاون، وزيادة التفاهم والمودة فيما بينهم؛ وإنما الأمان معاهدة لفرد أو أكثر يصبح فيه المستأمن، كالذمي في الأمان، مع أنه لا يلتزم دفع ضرائب الدولة الداخلية كالجزية مثلاً. وقد ظل نظام الأمان مطبقاً في تاريخ المسلمين على مختلف العصور.
والأمان فيما يرى فقهاء المسلمين، إما عامٌ وإما خاص.
فالعام: ما يكون لجماعة غير محصورين، كأهل ولاية، ولا يعقده إلا الإمام أو نائبه كما في الهدنة، وعقد الذمة، لأن ذلك من المصالح العامة التي من شؤون ولي الأمر النظر فيها على وجه صحيح.
والخاص: ما يكون للواحد، أو لعدد محصور لعشرة فما دون، ويصح من كل مسلم مكلّف.
والعام: إمّا مؤقت أو مؤبد؛ فالمؤقت هو الهدنة، والمؤبد هو عقد الذمة.
أمَّا الاستئمان: فهو طلب الأمان من العدو، حربياً كان أو مسلماً. وقال ابن عرفة: الاستئمان، وهو المعاهدة، تأمين حربي ينزل لأمر ينصرف بانقضائه. والمستأمن، هو من يدخل دار غيره بأمانٍ مسلماً كان أو حربياً، أي هو اللاجئ بمصطلح عصرنا.
أما السند الشرعي للأمان بصفته نظاماً قانونياً كامل المعالم فهو بإجماع الجمهور كما يلي:
القرآن الكريم: يقول تعالى: )وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ( (التوبة 6). والنص هنا عام يشمل كل مسلم، وإن اتجه الفقه الإسلامي المعاصر إلى تخصيصه بالرسول، ثمّ بالحاكم بعده.
السّنة: قال رسول الله r: «ذِمة المسلمينَ واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفرَ مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صِرفاً ولا عدلاً». وقد أقر رسول الله r لأمان ابنته زينب وأم هانيء. قال الصنعاني: «والأحاديث دالة على صحة أمان الكافر من كل مسلم، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، مأذون أم غير مأذون، لقوله r: «يسعى به أدناهم»، فإنه شامل للكافة.
ومع أن أدلة الجمهور هي التي تفيد جواز الاستئمان لطالبه من كل مسلم، فإن بعضهم يرجح منع الأمان الفردي في الأحوال الدولية الحاضرة، لتكاثر الناس واختصاص الحكومات الحديثة بتحمل المسؤولية في مثل هذه الأمور.
موضوع الأمان
الأمان يعني: أن يتعهد المؤمن فرداً أو حاكماً توفير الأمن والطمأنينة لشخص أو أكثر ولو أهل بلدة أو حصن أو إقليم أو قطر، لأن لفظ الأمان يدل على ذلك، وهو قوله «أمنت» ويُحرِّمُ رخصة القتل والسبي والاستغنام للرجال والنساء والذراري والأموال، وكذلك يُحرّمُ الاسترقاق. ولا يجوز ضرب الجزية على المستأمن، وفعل شيء من ذلك غدر، والغدر حرام. ويؤكد الماوردي أن أمان الحربي، أمان لماله الذي هو معه إذا أطلق الأمان عن التقييد بنفس أو مال. أما إذا كان الأمان، أمان الإمام أو رئيس الدولة فالمال مؤمن كالنفس والأهل.
وإذا أودع المستأمن ماله عند مسلم أو ذمي، أو أقرضه إياه ثم عاد هو للإقامة في دار الحرب، أو نقض الأمان، فيبقى ماله في حكم الأمان، ما دام حياً، ويرد لورثته بعد وفاته. وفي «السير الكبير» للشيباني أنه لو مات المستأمن في دار الإسلام أو في دار الحرب أو قتل في الميدان محارباً المسلمين لا تذهب عنه ملكية ماله بل تنتقل إلى ورثته عند الجمهور.
كذلك إذا انتقض أمان المستأمن، فلا ينتقض أمان ذراريه، كالنساء والصبيان والمجانين، حتى يبلغوا أو يفيقوا أو يطلبهم مستحق الحضانة، ذلك لأن النقض وُجّهَ منهُ دونهم، فاختص حكمهُ بهِ.
هذا ما يشمله الأمان للمال والأهل حقاً للمستأمن. ويلتزم المسلمون حماية أشخاص المستأمنين وأموالهم، ولو خمراً أو خنزيراً. ويضمن المسلم قيمتها إذا أتلفها، لقوله e: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه». وتقطع يد من يسرق من مال المستأمن؛ لأنه فيما يروى عن الشيباني مال محترم بالأمان.
ويرى جمهور الفقهاء أنه يمكن على العموم تحديد مركز المستأمن في دار الإسلام وهو ما له من حقوق وما عليه من التزامات بسبب الأمان على النحو التالي:
ـ للمستأمن في دار الإسلام حق الانتفاع بالمرافق العامة الضرورية حتى القضاء، فإنه إذا التجأ إلى القاضي المسلم في نزاع بينه وبين ذمي أو مستأمن أو مسلم، وجب على القاضي أن يحكم في النزاع في حقوق الآدميين من ديون ومعاملات، ويُخيّر الحاكم بين الحكم والإعراض لقوله تعالى: )فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ( (المائدة 42). على أنه يجب منحهم حق التقاضي عموماً لأن الآية السابقة منسوخة بقوله تعالى: )وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ( (المائدة 49). وهذا يتفق مع ما قررته اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949م من منح رعايا الدولة المعادية حق التقاضي سواء كانوا مدعين أو مدعى عليهم بعدما كان هذا الحق مسلوباً منهم مدة طويلة في العالم الغربي.
ـ وللمستأمن كذلك الحق في ممارسة الأعمال التجارية في حدود الشرع. ولا يجوز له مثلاً شراء الأسلحة والعبيد وتعاطي الربا. ويحرم على المسلم أن يبيعه بيعاً فاسداً. وتفسخ مبايعات المستأمن كما تفسخ مبايعات المسلمين الفاسدة بينهم. وبدهي أنه لا يقبل من المستأمن كما لا يقبل من غيره الجهل بالأحكام.
ـ وللمستأمن أيضاً حرية التملك والتمليك.
ويمنع المستأمن في حالة الحرب الفعلية من الدعاية لقومه لرفع قواهم المعنوية أو إضعاف الروح العامة لدى خصومهم. وهذا عدل حتى للاجئ اليوم.
ـ وللمستأمن أن يتزوج ذمية، ويعود بها إلى دار الحرب. فإن تزوجت المستأمنة ذمياً صارت لذلك ذمية، لأنها التزمت حينئذ المُقام تبعاً للزوج بعكس الرجل لو تزوج امرأة، فليس فيه دلالة التزامه المُقام في دار الإسلام، إذ بيده طلاقها والمضي عنها. وهذه الأحكام شبيهة بأحكام كسب الجنسية وفقدها في عدد من القوانين الحديثة. أضف إلى ذلك حكماً هو غاية في احترام حرية المستأمن، ومفاده أنه لا يجوز فرض جنسية الدولة الإسلامية على المستأمن مهما طال مكوثه فيها ما لم يطلب التجنس. وهذا ما ذهب إليه عدد من فقهاء أيامنا، والقاعدة عندهم: أنه إذا تجاوز مكوث المستأمن المدة المحددة للأمان، وجب خروجه من دار الإسلام ما لم يطلب تجنساً ويمنحه بإرادة الحاكم.
Al-Aman (Peace, pledge) - Al-Aman
الأمان في الإسلام (نظام ـ(
الأمان في الإسلام نظام جاءت به الشريعة الإسلامية لتنظيم علاقة غير المسلمين الذين يفدون من بلاد لا تدين بالإسلام (دار الحرب) إلى دار الإسلام للإقامة فيها والتعايش مع أهلها. ويرى بعض الفقهاء فيه واحداً من أصول «المركز القانوني للأجانب[ر]» في التشريع الوضعي.
دار الإسلام ودار الحرب
مع أن النزعة العالمية للإسلام، هي اتجاهه إلى مجتمعٍ إنسانيٍ واحدٍ بنظام قانوني هو «الشريعة الإسلامية"، فإنه لم يمتد إلى جميع أرجاء العالم، لذا أوجد الفقهاء المسلمون في الماضي تقسيماً نظرياً للعالم إلى مجتمعين مختلفين، هما دار الإسلام ودار الحرب.
ـ أمَّا دار الإسلام أو دار التوحيد أو دار العدل، فهي الأقاليم والأقطار التي للمسلمين عليها ولاية. وتضمُّ دار الإسلام، إلى جانب المسلمين، أشخاصاً من غير المسلمين هم أهل الذمة والمستأمنون. فأما أهل الذمة، فهم أهل الكتاب الذين فضلوا البقاء على دينهم الأصلي، والعيش في كنف الحكم الإسلامي في أمانٍ مؤبد. وأمَّا المستأمنون، فهم رعايا دار الحرب الذين يأتون دار الإسلام لتجارة أو مصلحة، ويتمتعون من أجل ذلك بأمان محدّد. وبين الذميين والمستأمنين فوارق جوهرية. فالذميون رعايا في الدولة الإسلامية، يتمتعون بما للمسلمين من حقوق «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» وهم ينقادون لحكم الإسلام، ويدفعون ضريبة اصطلح على تسميتها الجزية[ر] لقاء حماية الحاكم المسلم لهم حمايةً تامةً شاملةً مع احتفاظهم بديانتهم، «فإذا تشاجر أهل الذمة في دينهم لم يُعارضوا فيه، وإذا تنازعوا في حقٍ ارتقوا فيه إلى حاكمهم لم يُمنعوا فيه، وإن ترافعوا فيه إلى الحاكم المسلم حكم بينهم بموجب الإسلام، وتقام عليهم الحدود إذا أتوها». وهذا ليس وضع المستأمن كما سيأتي.
ـ أمَّا دار الحرب أو دار الشرك أو دار المخالفين، فهي البلاد التي ليس للمسلمين عليها ولاية، ولا تقام فيها شرائع الإسلام. ولهذه البلاد أنظمة قانونية متعددة. ولقد كانت علاقات دار الإسلام بدار الحرب تخضع لنظام يهدف إلى الدفاع عن الإسلام، مع مراعاة مبادئ التسامح واحترام العهد. وهذا يعني إمكانية دخول المسلمين مع غيرهم في معاهدات ومفاوضات وعلاقات دبلوماسية رتب لها الفقه الإسلامي قواعد وأصولاً تعرف «بالِسّير» تعدّ جزءاً لا يتجزأ من هذا الفقه.
يستخلص مما تقدم: أنّ ما يسمى بالشرع الدولي اتسم في الإسلام بالطابعين الإقليمي والشخصي معاً. فهو إلى جانب تنظيمه لعلاقات دار الإسلام بدار الحرب بصفتهما كيانين إقليميين منفصلين، يتناول أمر المستأمنين أو ما يعرفه الفقه الدولي المعاصر بالمركز القانوني للأجانب. وهكذا فالشرع الإسلامي، سبق القانون الدولي المعاصر الذي يُؤرّخُ له بدءاً من صلح وستفالية لعام 1648م، بإقراره بمركز قانوني واضح للفرد، بل بعدّه الفردَ شخصاً له حقوق، وعليه التزامات في ظل نظام الأمان.
الأمان وسنده الشرعي
الإسلام، كما يرى فقهاؤه، لا يعارض طبيعة الحياة، فلا يفرض على جماعة ما أن تعيش وراء ستار حديدي منقطعة الصلات، أو منعزلة عن الجماعات الأخرى في أنحاء العالم. وإنما يقرُّ بوجود علاقات شتى مع مختلف البلاد في حالتي السلم والحرب.
وإذا كان لكل نظامٍ أو عصرٍ أسلوبُه في حمايةِ شخص الأجنبي، فإن الإسلام جرى على منح الأجنبي في دار الإسلام أو دار الحربِ ما يسمى بالأمانِ، سواء أكان بطريق شفاهي أم كتابي، ولأي غرض ديني أو دنيوي، حتى يسهل امتزاج الشعوب، وانتقال المعارف وتمحيص فكرة الدين.
ونظام الأمان في الإسلام يتسع لكل أنواع الحماية والرعاية المعروفة حديثاً لشخص الأجنبي وماله في بلاد الإسلام، أو لعقد الصلات السلمية بين المسلمين وغيرهم؛ ولو أن الفقهاء القدامى أو بعضهم يرى في أن أصل العلاقات مع غير المسلمين هي الحرب وليس السِّلْم. وقد كانت فكرة الأمان من الأسس المهمة لتدعيم السلام فكان إعطاء الأمان للوفود المسيحية في الحروب الصليبية، نتيجة التسامح الإسلامي، أساساً للمعاملات الدولية.
وبعبارة مختصرة فإن مناط الأمان أن العربي، إذا دخل دار الإسلام مستجيراً لغرض شرعي، كسماع كلام الله، أو دخل بأمان للتجارة، وجب تأمينه، ليكون محروساً في نفسه وماله إلى أن يبلغ داره التي يأمن فيها. وإذن ففي ظل نظام الأمان، تستمر العلائق غير العدائية مع أهل الحرب، ولو كانت الحرب مستعرة، وهذا ما لم يقره القانون الدولي المعاصر حتى اليوم. ويذهب بعضهم إلى أن الأمان في دار الإسلام، ليس فقط بمنزلة جواز سفر لدخول دار الإسلام، وإذنٍ بالإقامة يتمكن به المسلمون وغيرهم، من تبادل المنتجات، وتقوية أواصر التعاون، وزيادة التفاهم والمودة فيما بينهم؛ وإنما الأمان معاهدة لفرد أو أكثر يصبح فيه المستأمن، كالذمي في الأمان، مع أنه لا يلتزم دفع ضرائب الدولة الداخلية كالجزية مثلاً. وقد ظل نظام الأمان مطبقاً في تاريخ المسلمين على مختلف العصور.
والأمان فيما يرى فقهاء المسلمين، إما عامٌ وإما خاص.
فالعام: ما يكون لجماعة غير محصورين، كأهل ولاية، ولا يعقده إلا الإمام أو نائبه كما في الهدنة، وعقد الذمة، لأن ذلك من المصالح العامة التي من شؤون ولي الأمر النظر فيها على وجه صحيح.
والخاص: ما يكون للواحد، أو لعدد محصور لعشرة فما دون، ويصح من كل مسلم مكلّف.
والعام: إمّا مؤقت أو مؤبد؛ فالمؤقت هو الهدنة، والمؤبد هو عقد الذمة.
أمَّا الاستئمان: فهو طلب الأمان من العدو، حربياً كان أو مسلماً. وقال ابن عرفة: الاستئمان، وهو المعاهدة، تأمين حربي ينزل لأمر ينصرف بانقضائه. والمستأمن، هو من يدخل دار غيره بأمانٍ مسلماً كان أو حربياً، أي هو اللاجئ بمصطلح عصرنا.
أما السند الشرعي للأمان بصفته نظاماً قانونياً كامل المعالم فهو بإجماع الجمهور كما يلي:
القرآن الكريم: يقول تعالى: )وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ( (التوبة 6). والنص هنا عام يشمل كل مسلم، وإن اتجه الفقه الإسلامي المعاصر إلى تخصيصه بالرسول، ثمّ بالحاكم بعده.
السّنة: قال رسول الله r: «ذِمة المسلمينَ واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفرَ مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صِرفاً ولا عدلاً». وقد أقر رسول الله r لأمان ابنته زينب وأم هانيء. قال الصنعاني: «والأحاديث دالة على صحة أمان الكافر من كل مسلم، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، مأذون أم غير مأذون، لقوله r: «يسعى به أدناهم»، فإنه شامل للكافة.
ومع أن أدلة الجمهور هي التي تفيد جواز الاستئمان لطالبه من كل مسلم، فإن بعضهم يرجح منع الأمان الفردي في الأحوال الدولية الحاضرة، لتكاثر الناس واختصاص الحكومات الحديثة بتحمل المسؤولية في مثل هذه الأمور.
موضوع الأمان
الأمان يعني: أن يتعهد المؤمن فرداً أو حاكماً توفير الأمن والطمأنينة لشخص أو أكثر ولو أهل بلدة أو حصن أو إقليم أو قطر، لأن لفظ الأمان يدل على ذلك، وهو قوله «أمنت» ويُحرِّمُ رخصة القتل والسبي والاستغنام للرجال والنساء والذراري والأموال، وكذلك يُحرّمُ الاسترقاق. ولا يجوز ضرب الجزية على المستأمن، وفعل شيء من ذلك غدر، والغدر حرام. ويؤكد الماوردي أن أمان الحربي، أمان لماله الذي هو معه إذا أطلق الأمان عن التقييد بنفس أو مال. أما إذا كان الأمان، أمان الإمام أو رئيس الدولة فالمال مؤمن كالنفس والأهل.
وإذا أودع المستأمن ماله عند مسلم أو ذمي، أو أقرضه إياه ثم عاد هو للإقامة في دار الحرب، أو نقض الأمان، فيبقى ماله في حكم الأمان، ما دام حياً، ويرد لورثته بعد وفاته. وفي «السير الكبير» للشيباني أنه لو مات المستأمن في دار الإسلام أو في دار الحرب أو قتل في الميدان محارباً المسلمين لا تذهب عنه ملكية ماله بل تنتقل إلى ورثته عند الجمهور.
كذلك إذا انتقض أمان المستأمن، فلا ينتقض أمان ذراريه، كالنساء والصبيان والمجانين، حتى يبلغوا أو يفيقوا أو يطلبهم مستحق الحضانة، ذلك لأن النقض وُجّهَ منهُ دونهم، فاختص حكمهُ بهِ.
هذا ما يشمله الأمان للمال والأهل حقاً للمستأمن. ويلتزم المسلمون حماية أشخاص المستأمنين وأموالهم، ولو خمراً أو خنزيراً. ويضمن المسلم قيمتها إذا أتلفها، لقوله e: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه». وتقطع يد من يسرق من مال المستأمن؛ لأنه فيما يروى عن الشيباني مال محترم بالأمان.
ويرى جمهور الفقهاء أنه يمكن على العموم تحديد مركز المستأمن في دار الإسلام وهو ما له من حقوق وما عليه من التزامات بسبب الأمان على النحو التالي:
ـ للمستأمن في دار الإسلام حق الانتفاع بالمرافق العامة الضرورية حتى القضاء، فإنه إذا التجأ إلى القاضي المسلم في نزاع بينه وبين ذمي أو مستأمن أو مسلم، وجب على القاضي أن يحكم في النزاع في حقوق الآدميين من ديون ومعاملات، ويُخيّر الحاكم بين الحكم والإعراض لقوله تعالى: )فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ( (المائدة 42). على أنه يجب منحهم حق التقاضي عموماً لأن الآية السابقة منسوخة بقوله تعالى: )وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ( (المائدة 49). وهذا يتفق مع ما قررته اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949م من منح رعايا الدولة المعادية حق التقاضي سواء كانوا مدعين أو مدعى عليهم بعدما كان هذا الحق مسلوباً منهم مدة طويلة في العالم الغربي.
ـ وللمستأمن كذلك الحق في ممارسة الأعمال التجارية في حدود الشرع. ولا يجوز له مثلاً شراء الأسلحة والعبيد وتعاطي الربا. ويحرم على المسلم أن يبيعه بيعاً فاسداً. وتفسخ مبايعات المستأمن كما تفسخ مبايعات المسلمين الفاسدة بينهم. وبدهي أنه لا يقبل من المستأمن كما لا يقبل من غيره الجهل بالأحكام.
ـ وللمستأمن أيضاً حرية التملك والتمليك.
ويمنع المستأمن في حالة الحرب الفعلية من الدعاية لقومه لرفع قواهم المعنوية أو إضعاف الروح العامة لدى خصومهم. وهذا عدل حتى للاجئ اليوم.
ـ وللمستأمن أن يتزوج ذمية، ويعود بها إلى دار الحرب. فإن تزوجت المستأمنة ذمياً صارت لذلك ذمية، لأنها التزمت حينئذ المُقام تبعاً للزوج بعكس الرجل لو تزوج امرأة، فليس فيه دلالة التزامه المُقام في دار الإسلام، إذ بيده طلاقها والمضي عنها. وهذه الأحكام شبيهة بأحكام كسب الجنسية وفقدها في عدد من القوانين الحديثة. أضف إلى ذلك حكماً هو غاية في احترام حرية المستأمن، ومفاده أنه لا يجوز فرض جنسية الدولة الإسلامية على المستأمن مهما طال مكوثه فيها ما لم يطلب التجنس. وهذا ما ذهب إليه عدد من فقهاء أيامنا، والقاعدة عندهم: أنه إذا تجاوز مكوث المستأمن المدة المحددة للأمان، وجب خروجه من دار الإسلام ما لم يطلب تجنساً ويمنحه بإرادة الحاكم.
تعليق