رواية"المئذنة البيضاء"... من ينقذ دمشق؟
وداد سلوم
الاثنين 28 مارس 202212:13 م
لمع في قائمة البوكر الطويلة لهذا العام عنوان "المئذنة البيضاء" الرواية الصادرة عن دار المتوسط، والأولى للصحفي السوري يعرب العيسى، التي يتناول فيها الحرب السورية، الموضوعة التي شكلت مادة خاماً للكثير من الروايات على اختلاف التباساتها وتحولاتها ومواقف الأدباء منها ، ووصل بعضها إلى قائمة البوكر العربية، سواء القصيرة او الطويلة.
المئذنة البيضاء سر من أسرار دمشق القديمة كما يقال، تقف بالقرب من باب شرقي، وحيدة على طريق الكنيسة المريمية وملاصقة تماما لبطريركية الروم، دون أي مسجد تقوم عليه أو مكان للصلاة، لكن ينطلق منها الأذان بعدد الصلوات. وتقول الحكاية إنها بنيت استعداداً لنزول المسيح عليها، حيث سيلتقي بالأعور الدجال, تسمى بالمئذنة العمرية أو مئذنة باب الكنيسة، هي علامة لإحدى الحكايات التي برعت المنطقة في حبكها عبر التاريخ في انتظار الخلاص الإنساني.
يشكل العنوان اختياراً مهما للكاتب، هو عتبة القارئ الأولى وعلامة لدخول عالم الرواية الذي يرتبط بتاريخ دمشق وعمقها الروحي والمدينة التي لا تزال ترتفع في سماء بلاد تغطيها غيوم الحرب وطيرانه، بعد العنوان، يسحب يعرب العيسى قارئه إلى عمق الرواية، إلى المكان الذي تدور حوله الأحداث في جزء منها والذي يشكل الذاكرة الحية للبطل. هناك ينسج الكاتب حكايته الخاصة عن بلاده التي جرفتها الحرب إلى القاع باختيار شخصيته المحورية، الطالب الجامعي غريب الحصو، اليتيم والمنبوذ والقاطن في باب شرقي بالقرب من المئذنة البيضاء، والذي طرد من غرفته ليلاً قبل أربعين عاماً، ليلتمس النوم في المسجد الأموي، لكنه يطرد منه أيضاً ليكتشف أن حذاءه قد سرق، وهكذا خرج حافياً يعد الخطوات إلى باب شرقي قبل أن يسافر إلى بيروت بحذاء التقطه من حاوية قمامة .
"المئذنة البيضاء" سر من أسرار دمشق القديمة، تقف وحيدة دون أي مسجد تقوم عليه ودون مكان للصلاة، ويقال إنها مَحَطُّ يسوع المسيح حين يهبط من السماء لمواجهة الأعور الدجال
يتحول غريب الحصو في بيروت إلى مايك الشرقي، ويبدو كمن يحمل على جبهته نجمة القدر الذي كافأه في لبنان برعاية الشيخ القسام، أحد متنفذي الحرب الأهلية اللبنانية. نجمة القدر اللامرئية دعمته ليصعد من الوحل إلى عالم الثروة القادر على ابتلاع كل ما يأتي في طريقه، بدءاً من المال وانتهاء بالسياسة، عبر رحلة امتدت منذ الثمانينيات حتى نهاية الرواية في الزمن الحالي، نتأمل عبرها مسيرة الحصو الذي كان شاباً مُعدماً فقيراً منبوذاً، لفظته مدينته، حتى عاد إليها كمايك الشرقي، شخصيةٌ مرموقة تملك مالاً لا ينضب يبذله بلا حساب .
يفوق حجم الرواية الـ400 صفحة، نتلمس فيها أحداثاً لاتصدق وقفزات نوعية رافقت تنامي شخصية البطل وتوسعها العابر للأنواع، إذ صار صاحب ثروة لا تأكلها النيران ،مستفيداً من وفاة القسام على صدر فتاة مراهقة لأخذ ما اعتبره حقاً له، كمكافأة على إخلاصه في عمله وتفانيه لرب عمله القسام، الذي ترك وراءه ملايين الدولارات وفنادق وكازينوهات، يمكن القول إنها في الحقيقة ليست إلا الصالة الخلفية لإدارة السياسة في لبنان.
حلم مايك الشرقي بالثراء دفعه للحفاظ على دوره كلاعب أصيل على الساحة السياسية، إذ ورث مهارات القسام وابتكر الجديد منها، ما جعله يمسك عدداً أكبر من الخيوط في اللعبة السياسية والاقتصادية التي لابد تنمو على هامش الحروب بأنواعها، إذ يحقق من حرب صدام حسين على الكويت أرباحاً لا يمكن تخيلها، سواء باستغلال الفرصة او بالاحتيال، ليقوم بعدها باستثمار هذه الأموال بذكاء انتهازي لافت ساهم في نهوض الخليج العربي اقتصادياً .
يروي العيسي قصة هذا العملاق المالي الذي يتوسع بلا هوادة على طول صفحات تتجاوز في عددها نصف الرواية، كاشفاً قدرة الصحفي المتمكن من متابعة وكشف المستور من الحدث السياسي، في منطقة تعج بأحداث لا تتوقف ولا تأخذ شكلاً واحداً ولا تسير باتجاه محدد، منطقة تحمل بنية التغيير حسب معطيات العالم الجديد وتجذب إليها تغيرات العالم كلها. نتلمس أيضاً كيف يسبر العيسى صعود الفئات المستفيدة، تلك التي تتحرك خارج الصراع دوماً، لكنها لا تتوقف عن الصعود، هذه الفئات من تجار حرب وسياسيين وغيرهم، تنشط أفقياً لتوسع نشطها على أقاليم عدة، كونها تولد من رحم الحدث وتغذي نفسها من نهب الفرص، هم قراصنة العالم الجديد الذي يملكون أدواته المتطورة كما يتقنون استخدام أدواته التقليدية .
ينتقل الكاتب بأحداث الرواية وببطله بعد الحرب الأهلية اللبنانية إلى حرب الكويت، ثم النهوض الاقتصادي في دبي إلى سقوط بغداد، ثم العودة إلى سوريا عشية أحداث الربيع العربي، ويرافق ذلك رحلة أسطول المال العابر للقارات والبحار والذي لا يعرف حدوداً للانتماء أو حدوداً للمكان أو الزمان، إذ يمتد نفوذ الشرقي من بيروت إلى بلغاريا والصين وتركيا وقبرص واسكتلندا، كما أنه يشرف على ناقلات النفط الإيرانية ويدير سلسلة من البواخر التي تحوي عالمها الخاص للعربدة واستقطاب أسماء لها شهرتها العالمية، كل هذا لأجل العودة إلى دمشف والانتقام منها، المدينة التي نبذته وطردته حافياً، ثم عاد إليها ملكاً لقافلة الاستثمار ولاعباً هاماً في تجارة الحرب، ليكمل الحكاية التي عاشت معه على مدار الأعوام، في محاولة لتشكيلها (المدينة/الحكاية) من جديد على هامش الحرب السورية.
يشكل الجزء السوري الثلث الاخير من الرواية، رغم ان الكاتب من العتبة الأولى وضع القارئ في تمهيد الانتماء لدمشق، لكنه أبحر بالقارئ إلى العالم الخلفي للأحداث السياسية في المنطقة، ورصد شبكة متكاملة تدير الأحداث عن بعد تارة، وتتحرك معها تارة أخرى دون توقف، وكأنه يتتبع مسيرة رأس المال المنهوب من الشعوب والدول، ذاك الذي يسيطر عليه قراصنة الأحداث، ليبدو الجزء الأكبر من الرواية (تقريباً أكثر من ثلثيها) مقدمة طويلة للحكاية الأصلية التي وعدنا بها الكاتب منذ البداية، أي لحظة عودة غريب الحصو أو مايك الشرقي إلى دمشق لتحقيق حكايته ودلالاتها، معتمداً على مخزون العقل الشرقي في إيمانه بالرموز عبر الماضي المليء بالأساطير والحكايات .
تكشف حكاية مايك الشرقي في رواية "المئذنة البيضاء" عن دور تجار الحروب في المنقطة العربية، وكيفية قرصنتهم لثروات الشعوب من أجل بناء إمبراطورياتهم المالية
المافيوزو الذي يريد إنقاذ مدينتهتتكرر الكثير من التفاصيل في الرواية بأشكال مختلفة لإظهار حجم هذه الطغمة المالية، وكان بإمكان الكاتب اختصارها وعدم إرهاق الرواية والقارئ بالسرد الكثير للوصول أخيراً إلى عمق الحدث، الذي يمكن تلخيصه بحكاية زائر لدمشق (مايك الشرقي) في بداية الحرب، هذا الزائر يعرف أنه سيعود لاحقاً إلى المدينة ليقيم بها، فيترك اللوحة (بورتريه) التي أنجزها فنان شارع لوجهه على ضفة نهر بردى، بعد أن ينقد هذا الزائر ثمنها للرسام، في إشارة لعودته التالية بوصفه مقيماً وغنياً وذا نفوذ، بينما دمشق في أوج أزمتها، هذا الزائر يلقي بأوراقه في ساحة تعج بأطراف الصراع، مستعرضاً ما تعلمه من مهارات اللعب، كرجل مافيا حقيقي يراهن على فوز بعيد الأجل، مستثمراً نماذج مهمة ومؤثرة من الواقع السوري، ومشكلاً فريقاً للعمل تحت ما سماه "شركة الشرق الجديد"، شعاره المعلن لإخراج البلاد من أزمتها.