قصه
Story - Histoire
القصة
القصة story نوع من السرد النثري التخيلي fictional القصير والبسيط مقارنة بالرواية. ويعتمد بناء القصة على اقتصار شديد في عدد الشخصيات والأحداث والأماكن والزمن وعلى تكثيف السرد، فالقصة تهدف عادة إلى تحقيق أثرٍ effect واحد يصدر عن حدث episode مميز أو بضعة أحداث أو مَشاهد. والشخصية في القصة لاتكون متكاملة الأبعاد كما في الرواية[ر] أو المسرحية، بل يتكشف جانب منها أو أكثر من خلال الفعل الدرامي الذي تقوم به، أو برد فعلها على الحدث الذي تواجهه.
ونتيجة للتطور الطويل الأمد الذي خبره هذا النوع من السرد، فقد يراوح طول القصة بين جملة واحدة أو جمل عدة كما في القصة القصيرة جداً short short story أو القصة البرقية telegram-story، وبين الأربع صفحات تقريباً كما في القصة القصيرة short story، وقد تبلغ مئة صفحة كما في القصة الوسطى الفرنسية (نوڤِلت) novelette، أو الأقصوصة الألمانية (نوڤِلِّه) novelle. وبسبب هذا التفاوت في الحجم الذي قد يبدو مستغرباً لابد من عدّ مصطلح «قصة» من هذا المنظور تقريبياً.
تاريخ القصة ـ النشأة
يعود تاريخ القصة إلى ما قبل معرفة الإنسان الكتابة، فالحكواتي القديم عند إنشائه الحكاية ومحاولته حفظها، كان يلجأ إلى عبارات جاهزة وإيقاعات ثابتة وإلى القافية طبعاً، ومن هنا كانت غالبية السرديات narratives في العالم القديم ذات قالب شعري مثل «ملحمة غلغامش»[ر] و«حرب الآلهة» و«قصة أدپا» من أرض الرافدين، و«القوس المقدس» و«الملك الذي نسي» من أرض كنعان، وهي قصص كُتبت على الرقم الطينية في الألف الثانية ق.م. أما القصص المصرية التي تعود إلى المرحلة نفسها تقريباً فقد كُتبت على أوراق البردي، ولكن نثراً، إذ يبدو أنهم احتفظوا بالشعر لأناشيدهم الدينية. إن أقدم قصة مصرية معروفة هي «البحّار الذي غرقت سفينته» نحو 2000ق.م وهدفها الجلي على ما يبدو هو التأكيد لمستمعيها من الأرستقراطية الفرعونية على صحة مقولة «قد يصيبكم مكروه ينقلكم من ثم إلى حياة أفضل». وهناك من مرحلة الأسرة الثانية عشرة قصة «الطبيب سنوحي المنفي» الشهيرة، والقصة التربوية الوعظية «خوفو والسحرة». أما القصة الأكثر إثارة وتفصيلاً، المعروفة بعنوان «قصة الأخوين» أو «أنپو وباتا» فقد كتبت في عصر المملكة الجديدة نحو 1250ق.م، فهي أكثر القصص المصرية تعليمية، وفي الوقت نفسه، أغناها من حيث الموضوع الشعبي الدال folk motif، وأتقنها بناءً.
تعد أقدم القصص الهندية حديثة نسبياً بالمقارنة مع الرافدية والمصرية، فقصص «البراهمانيات» Brãhmanas نحو 700ق.م ليست أكثر من ملحقات فقهية لشرح كتب الڤيدا[ر] الأربعة؛ إلا أن بعضها القليل صيغ كقصص أمثولية إرشادية instructional parables، وقد تكون مجموعة «لاتَكا» Lãtaka المدونة بلغة پالي Pãli أكثر مدعاة إلى الاهتمام بها كقصص. صحيح أنها صيغت في إطار ديني يهدف إلى توظيفها كتعاليم أخلاقية بوذية، إلا أن بؤرة اهتمامها تتركز على السلوك الدنيوي والحكمة العملية. وثمة مجموعة قصص معاصرة للسابقة نوعاً ما، هي «الأسفار الخمسة» The Pañca-Tantra نحو 500ق.م المكتوبة باللغة السنسكريتية، التي انتشرت عالمياً بترجماتها المختلفة والمتكررة. وهذه المجموعة المسلية من حكايات الحيوانات ذات الهدف التعليمي تشابه إلى هذا الحد أو ذاك «حكايات إيسوب» The Tales of Aesop الإغريقية. وقد تُرجمت إلى الفارسية الوسطى في القرن السادس الميلادي، وإلى العربية في القرن الثامن الميلادي، ومن ثم إلى العبرية واليونانية واللاتينية، وفي عام 1570 صدرت ترجمتها الإنكليزية. والمجموعة التي تسترعي الانتباه من منظور فن القصة في السياق نفسه هي «محيطُ أنهار من القصص» Katha - saritsãqara، وهي سلسلة حكايات جمعها وأعاد صياغتها شعراً في القرن الحادي عشر الميلادي الأديب السنسكريتي ساماڤيدا Samaveda. يعود معظم هذه القصص إلى مادة أكثر قدماً في التراث الهندي، أما موضوعاتها فتتنوع من بجعة مسحورة حتى خادم مخلص أُسيء فهم مقصده.
في القرون الثاني والثالث والرابع ق.م كتب العبرانيون بعض أكثر سردياتهم صقلاً (أغلبها مقتبس من مصادر محلية أقدم عهداً) لتشكل جزءاً مهماً من «العهد القديم: وأسفار الأبوكريفا» Apocrypha الملحقة به، ويعد بعضها من القصص الأكثر انتشاراً عالمياً، مثل يوديت وسوزانا ودانيال وروث وإستر ويونس.
يمكن القول إن معظم القصص الشرقية القديمة، من كنعان حتى الهند مروراً بوادي النيل وحوض الرافدين وفارس؛ كانت ذات طابع تعليمي إلى هذا الحد أو ذاك، فبعضها كان وعظياً مباشراً، وبعضها الآخر أمثولياً أخلاقياً، إلا أن الحكمة المستقاة منها جميعاًَ هي أن الإنسان الخيّر سيسعد ويتمتع بنجاحه المعنوي والمادي، في حين سيلاقي الشرير الويلات ومرّ الآلام.
وفي العالم الغربي أسهم قدماء الإغريق بقسط وافر في القصة بمختلف تجلياتها، فكما في الهند كانت قصص الحيوان واسعة الانتشار مثل «حكايات إيسوب» السابقة الذكر، وإضافة إليها انتشرت قصص أسطورية قصيرة تدور موضوعاتها حول مغامرات الآلهة في الحب والحرب. وفي القرن الثاني قبل الميلاد وضع أبولودورُس Apollodoros الأثيني الرواقي في كتابه «المكتبة» Bibliothek وصفاً لأساطير الآلهة معتمداً على تلك القصص التي فُقد معظمها لاحقاً، لكنها ظهرت مُقتبسة بأشكال متعددة في سياق الأعمال الشعرية الطويلة لهسيودوس[ر] Hesiodos وهوميروس[ر] Homeros وكبار كتاب التراجيديا (المأساة)، كما وجدت الحكايات القصيرة طريقها إلى أعمال نثرية طويلة مثل «پِرْسيكا» Persika (ق 5ق.م) للكاتب هيلانيكوس Hellanikos الذي وصف فيه بالعامية الإيونية Ion حكايات الآلهة. أما أبو التاريخ هيرودوتُس[ر] Herodotos فقد عد نفسه قصاصاً يروي الحكايات، وفي تاريخه الفلسفي «تربية كيروس» Kyru paideia ق4 ق.م يورد الكاتب زينوفون[ر] Xenophon، تلميذ سقراط، قصة الجندي أبراداتِس Abradates الشهيرة وزوجته الجميلة المخلصة بَنْتيا Panthea، ويرى بعض الباحثين أنها أول قصة حب غربية، كما يشتمل الكتاب على استطرادات سردية أخرى.
يُنسب إلى الأغارقة شكل «الرومنس» Romance وهو سردية نثرية طويلة نوعاً ما، موضوعها الحب، ذات أسلوب ثابت ثلاثي المراحل (حب ففراق فاتحاد)، وكانت تتألف بداياتها من سلسلة من الحكايات القصيرة، وأشهرها رومنسات الكاتب بارثنيوس Parthenius في عصر القيصر أغسطس[ر] Augustus، وهي مجموعة من 36قصة نثرية عن عشاق تعساء. وفي القرن الثاني ق.م تميزت قصص أريستيدس Aristides الشبقية بشعبية واسعة وترجمت مباشرة إلى اللغة اللاتينية. ويتبدى من تنوع ماسبق ذكره من أنواع القصص الإغريقية أن التعليمية لم تكن الطابع المهيمن عليها، كما في القصص الشرقية.
وفي روما اللاتينية كانت مساهمة كتّابها على صعيد السرديات القصيرة ضئيلة جداً بالمقارنة مع جيرانهم الأغارقة. إن قصيدة أوڤيد[ر] Ovid الطويلة «التحولات أو مسخ الكائنات» Metamorphoses هي أساساً إعادة صياغة لما يزيد على مئة حكاية شعبية قصيرة في منظومة موضوع موحد. أما ما تلا ذلك من كبريات السرديات التخييلية فهي أقرب من حيث البنية إلى الرواية، مثل «ساتيريكون» Satyricon (ق1م) لبترونيوس Petronius، و «الحمار الذهبي» The Golden Ass لأبوليوس[ر] Apuleius (ق2م)، إلا أنهما استخدما كثيراً من مواد القصص القصيرة ضمن إطار أوسع وأشمل.
القرون الوسطى ـ عصر النهضة وما بعد
يبدو من خلال استعراض الأعمال الأدبية التي تعود إلى القرون الوسطى أن العصر قد تميز بتوليد الأشكال الأدبية الفنية وتكاثرها، ولكن ليس بالضرورة بتطوير وتهذيب أشكال السرد القصيرة. ففيه صارت الحكاية القصيرة وسيلة مهمة للتسلية والإمتاع. ومابين عصر الظلمات حتى عصر النهضة تبنت حضارات كثيرة شكل السرديات القصيرة للتعبير عن مقاصدها. فحتى غزو البرابرة الجرمانيين العدواني القاتم الروح، خضع للتعبير عنه في أشكال السرد القصيرة، كما أن الأساطير والحكايات البطولية القادمة من اسكندناڤيا وإيسلندا النائية تدل على أنواع الحكايات الكئيبة والعنيفة التي حملها الغزاة معهم نحو جنوبي أوربا.
وعلى نقيض ذلك فإن الخيال الرومنسي والمعنويات العالية لدى السلتيين Celts بقيت بادية للعيان في حكاياتهم وقصصهم، وأينما ظهروا سواء في إيرلندا أم في فرنسا أم في بريطانيا كانت ترافقهم قصصهم المشربة بالسحر والروعة، مثل الحكايات الأسطورية التي ظهرت في القرن التاسع حول «لونغِس مَك ن ـ ويسْلِن» Longes mac n- Uislenn التي غرست نبتة الرومنسات الفروسية chivalric romances التي ازدهرت لاحقاً في التربة الأوربية. ومن المساهمين الأبلغ تأثيراً على صعيد السرديات القصيرة في القرن الثاني عشر كريتيان دي تروا[ر] Chrétien de Troyes وماري دي فرانس Marie de France.
في تلك المرحلة اشتهر أيضاً نوع من القصص عُرف بـ «النموذج» Exemplum هدفه تحفيز القارئ أو المستمع على الاقتداء بسلوك نموذجي. ومن أشهر هذه القصص في القرنين الحادي عشر والثاني عشر تلك التي استوحت نماذج من سلوك القديسين، وهناك مايقارب المئتين منها كان الكهنة يستخدمونها في مواعظهم الكنسية أيام الآحاد. أما بين عامة الناس في أواخر القرون الوسطى فقد ظهرت حركة أدبية معارضة لنوعي الـ «رومَنْس» و«النموذج» مفضلة الفطرة السليمة، والفكاهة الدنيوية والحسية sensuality، ومالت على نحو كبير إلى الذكاء العملي لدى حيوانات حكايات الوحوش، وإلى النكات الخشنة المسلية وإلى الحكايات البذيئة Fabliaux، المنظومة شعراً، وهناك منها قرابة مئة وستين حكاية، وكانت هذه الأخيرة أبرزها أهمية، واستمرت محافظة على شعبيتها قرابة قرنين من الزمن، بدءاً من القرن الثاني عشر، ولفتت انتباه بوكاتشو[ر] Boccaccio الإيطالي وتشوسر[ر] Chaucer الإنكليزي.
كان حكواتي القرون الوسطى ـ بغض النظر عن الحكاية التي يفضلها ـ يعتمد غالباً على حكاية إطار format تساعده على رصف القصص بعضها بجانب بعض، مهما كان عددها، مع الحفاظ على استقلالية كل منها نسبياً. ولما كان تأكيد الوحدة العضوية لهذا النوع من السرديات أمراً لايؤبه له كثيراً، فقد فضل الحكواتي حينذاك إطاراً مرناً يسمح بإضافة أو استبعاد حكاية ما من دون تغير ملحوظ في التأثير. وكان النموذج الذي يبحث عنه متوفراً في «حكماء روما السبعة» The Seven Sages of Rome، وهي مجموعة من القصص ذات الشعبية الواسعة في أنحاء أوربا كافة، وإطارها قصة أمير محكوم عليه بالموت، فيقوم محاموه وهم الحكماء السبعة، كل على حِِده، بسرد قصة جديدة كل يوم، فيؤجل تنفيذ الحكم حتى تثبت براءته فينجو من براثن الموت. وهذه التقانة في السرد كما هو واضح تشابه إلى حد كبير تقنية «ألف ليلة وليلة»[ر] العربية التي تعود أيضاً إلى القرون الوسطى، وغالبية قصصها تؤطرها حكاية شهرزاد التي تعود في الأصل إلى مجموعة الحكايات الفارسية «هزار إفسان» Hazar Efsan أي «ألف حكاية خرافية»، وقد ترجمها العرب، فاحتفظوا بالإطار وابتكروا حكايات جديدة مختلفة الأنواع تدور أحداث معظمها بين بغداد في العصر العباسي والقاهرة ودمشق في العهد الفاطمي. وقد وضع الكتاب الجديد في العصر المملوكي (648ـ923هـ/1250ـ1517م).
وبعد كل هذا التعدد والتنوع في السرديات القصيرة جاءت عملية الصقل الفني في القرن الرابع عشر على أيدي عملاقين هما بوكاتشو وتشوسر. ولاشك في أن مصادر قصص الـ «ديكاميرون» Decameron لبوكاتشو تحفل بمؤثرات متنوعة، بما في ذلك الحكايات والنماذج والرومنسات القصيرة. ونتيجة لاتساع شعبيته اظهرت في مختلف أنحاء أوربا وبسرعة لافتة أعمال تقلِّدها، ففي إيطاليا وحدها ظهر قرابة خمسين كاتباً مارسوا السرديات القصيرة novella كما كانت تسمى هناك. لقد تعلم هؤلاء كثيراً من فنية وحرفية بوكاتشو، وإلى حد ما أيضاً من معاصره فرانكو ساكيتّي Franco Sacchetti، فزودوا العالم الغربي على مدى ثلاثة قرون بالسرديات القصيرة. لم يكن ساكيتي مجرد مقلد لبوكاتشو، بل واقعياً صريحاً ومباشراً في وصفه الحياة اليومية في فلورنسا في مئتي قصة قصيرة أقرب إلى أسلوب «النادرة» anecdote. وثمة كاتبان آخران مهمان على صعيد القصة في القرن الرابع عشر، هما جوڤاني فيورِنتينو Giovanni Fiorentino وجوڤاني سِركامبي G.Sercambi. وفي القرن الخامس عشر حظيت مجوعة «القصص القصيرة» (1475) Il novellino للكاتب ماسوتشو سالرنيتانو Masuccio Salernitano باهتمام خاص؛ وهي تضم خمسين قصة تحفل بالفكاهة عن العشاق ورجال الكهنوت،على الرغم من أن الإسهاب فيها يحل محل البلاغة. ومع ماسوتشو بدأ انتشار القصة القصيرة يأخذ أبعاداً جديدة، ففي القرن السادس عشر كان ماتيو باندِلو M.Bandello أكثر الكتاب تأثيراً في مختلف أنواع السرد الأدبي، لكن اهتمامه تركز حول قصص الخداع deception التي شكلت أحد أنواع كثيرة برزت وانتشرت في تلك المرحلة، ومنها على سبيل المثال مجموعة «محاججة الحب» Reasoning of Love للكاتب أغنولو فيرنزولو Agnolo Firenzuolo التي اتصفت ـ على نقيض قصص الجنس المكشوف عادة ـ بأسلوب لغوي أنيق ومرهف. أما أنطون فرنشِسكو ِAnton Francesco فقد ضمَّن مجموعته المتنوعة «الكريات الزجاجية» The Marbles عدداً من القصص التي تعتمد المفاجأة أو السخرية، في حين جرَّب جانفرانشِسكو سترابارولا Gianfrancesco Straparola قلمه في ميدان الحكايات الشعبية بالعامية في مجموعته «الليالي السارة» The Pleasant Nights. وفي مطلع القرن السابع عشر حاول جامباتيستا بازيلِه Giambattista Basile أن يوَشّي المواقف الجاهزة المألوفة في حكايات الجن fairy-tales بتفاصيل واقعية، فكانت النتيجة غالباً لافتة: حكاية عن جنيات وعفاريت وأمراء بدوافع ومشاعر واقعية جداً، مما يولِّد الطرافة والتسلية. ولربما كانت هذه الصفات تحديداً في مجموعته «حكاية الحكايات» (1634) The Story of Stories هي ما ذكَّر القراء ببوكاتشو، ولاسيما أن المجموعة قد عُرفت بعنوان شائع دال هو «بينتاميرون» Pentameron أي «الأيام الخمسة». إن التشابه الكبير بين بوكاتشو وبازيله، على الرغم من فارق ثلاثة قرون بينهما، يوحي بأن القصة قد احتلت موقعاً معقولاً بين الأجناس الأدبية الأخرى، كما حققت انتشاراً واسعاً، إلا أن قالبها الأساسي وتأثيرها بالكاد تغيرا.
تكرر هذا النموذج من التطور في فرنسا أيضاً، علماً أن إنجاز بوكاتشو لم يُلحظ هناك حتى القرن الخامس عشر، حين ظهر تأثيره عام 1460 مع صدور مجموعة «مئة قصة قصيرة جديدة» Cent nouvelles nouvelles التي تتحدر من سلالة الـ «ديكاميرون». وبعد قرن كامل صدرت مجموعة «الأيام السبعة» (1559) Heptaméron لمرغريت دي أنغوليم Marguerite d’Angoulême، وضمت اثنتين وسبعين قصة غرامية تدين لبوكاتشو بما لاتغفله الملاحظة الثاقبة على الرغم من فارق الزمن. وفي مطلع القرن السابع عشر نشر الكاتب بيروالد دي ڤِرڤيل Béroalde de Verville حكاياته «طريق النجاح» (1610) Le Moyen de parvenir التي تنتمي من جهة إلى أجواء رابليه[ر] ومن جهة أخرى إلى تقاليد بوكاتشو، وهي مجموعة قصص من «الحكاية ـ الإطار» تهدف في المقام الأول إلى التسلية والإمتاع.
أما الأمة الأعظم نفوذاً في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في أوربا، ألا وهي إسبانيا؛ فقد أسهمت إلى حد كبير في صقل السرديات النثرية القصيرة وتطويرها، وأكثر ما يلفت الانتباه على هذا الصعيد هي مجموعة دون خوان مانويل Don Juan Manuel بعنوان «كتاب النماذج» (1328ـ1335) The Book of Examples السابق على الـ «ديكاميرون» ببضع سنوات. وهناك أيضاً تجارب ثربانتس[ر] التي نشرت عام 1613 بعنوان «قصص نموذجية» Exemplary Novels وهي تختلف عن معاصراتها من حيث الأسلوب والرصانة في المعالجة، علماً أن هدفها الرئيسي هو استكشاف طبيعة الوجود الدنيوي الذي انغمس فيه البشر, وقد كان هذا الموضوع جديداً نوعاً ما على السرديات القصيرة، فما قَبْل ذلك كانت هذه السرديات إما وعظية تربوية وإما بغرض الترفيه والتسلية. وعلى الرغم من توافر مجموعات قصصية عديدة ذات انتشار شعبي واسع فقد بقيت السرديات القصيرة في إسبانيا في ظل الرواية التي أخذت بالظهور بقوة في القرن السادس عشر. وكما فعل قدماء الرومان، ضمَّن الإسبان رواياتهم في عصر النهضة كثيراً من القصص القصيرة باعتبارها طرائف ونوادر.
تعرضت القصة في القرنين السابع عشر والثامن عشر إلى تراجع كبير على صعيد الكتابة وانكماش ملحوظ على صعيد التأثير؛ ويعود ذلك إلى عوامل كثيرة، منها بزوغ شمس الراوية الفنية، وإخفاق تقاليد بوكاتشو عبر ثلاثة قرون في إبداع جديدٍ يلبي احتياجات تطورات العصر واقتصارها على التقليد والتنويع الفقير، ومنها ميل العصر إلى الدراما والشعر، وتفضيل جمهور القراء في الوقت نفسه الكتابات الصحفية التي تتعاطى مع القضايا الراهنة الملموسة، إضافة إلى ثورة نشر الكتب المتنوعة ولاسيما منها كتب الرحلات التي لبت النهم للتعرف على البلدان الأخرى وسكانها وعوالمها، والسِيَر الجنائية والوصف الاجتماعي والمواعظ والمقالات متنوعة الموضوعات. وإن وجَدت قصةٌ فنية جادة طريقها ـ أحياناً ـ إلى النشر في الصحافة (صحف، مجلات أسبوعية، شهرية وفصلية) فقد كانت وراءها حتماً قامة أدبية مرموقة مثل ڤولتير أو أديسون. وقد تبدى هذا التراجع على أشده في إنكلترا.
في القرون الوسطى صارت القصة في المقام الأول وسيلة ترفيهية. أما عصر النهضة ومن ثم عصر التنوير فقد طرحا متطلبات مختلفة فكرياً وفنياً. فيقظة الاهتمام بالمسائل الدنيوية أدت إلى اهتمام جديد بالظروف الراهنة، ومن ثم لم تعد السرديات القصيرة الترفيهية مطلوبة. وفي البداية لم يستجب لهذه المطالب الجديدة إلا الصحفيون وكتاب الكراريس، في حين لم تلب القصة ذلك فتراجع دورها. وفي القرن التاسع عشر نفضت القصة عن كاهلها أعباء الترفيه الهروبي بدلاً من التصدي لقضايا الواقع، وانبعثت من جديد في شكل «القصة القصيرة الحديثة» modern short story، فكان ذلك خطوة جديدة على طريق تطور السرديات القصيرة التخييلية، اكتسبت معه القصة القصيرة رصانة جديدة وحيوية مغايرة ومكانة محترمة في سياق الإبداع الأدبي.
القصة القصيرة الحديثة
ظهرت القصة القصيرة الحديثة في تزامن لافت في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وروسيا. في عام 1801 في ألمانيا كان فريدريش شليغل[ر] أول من نافس نظرياً الدور الجمالي والفكري للقصة القصيرة التي بدأت تحتل حيزاً ملحوظاً في الصحافة كجزء عضوي من بنيتها وأهدافها, وفي عام 1827 علَّق غوته[ر] على الفارق الجلي ما بين القصة القصيرة الحديثة والسرديات القصيرة القديمة، متفقاً مع الناقدَين الأدبيين ڤيلاند[ر] وشلايرمَخَّر Schleiermacher على أن القصة القصيرة يجب أن تكون واقعية تتعامل مع أحداث محتملة وشخصيات ممكنة الوجود في الواقع المعيش بين الناس.إلا أن قصص كلايست[ر] وهوفمَن[ر] ولودڤيغ تيك L.Tieck تنبو عن حدود التعريف السابق فتخرج من حدود الواقع إلى عالم الميتافيزيقا والفانتازيا[ر]، في محاولة لاستكشاف عوالم الإنسان الداخلية وخفايا عقله الباطن. وبهذا نأى هؤلاء الكتاب في إنتاجهم القصصي عن الشروط التي فرضتها الصحافة، ومهدوا للكاتب أفقاً للإبداع، مادام الهدف جاداً وليس ترفيهياً وحسب، إلا أن هذا لاينفي كون العمل الأدبي ممتعاً فنياً.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية لم يختلف تطور القصة القصيرة الحديثة عما كانت عليه الحال في ألمانيا، فثمة كتاب تمسكوا بالواقعية وبعرض الأحداث من منظور موضوعي، وفي خط موازٍ تطورت القصة القصيرة الانطباعية impressionist التي تتخذ شكلها ومضمونها من خلال وعي الراوي وسلوكه النفسي. ولاشك في أن مكانة القصة القصيرة قد توطدت فنياً في أمريكا من خلال الاهتمام النقدي المكثف الذي لاقته، ليس فقط بأقلام النقاد، وإنما بإسهامات الكتاب أنفسهم نقدياً، وعلى رأسهم پو[ر].
وفي فرنسا القرن التاسع عشر حظيت قصص بروسبر مِرميه[ر] باهتمام كبير بوأه كرسياً في الأكاديمية الفرنسية ونشر سمعته حتى ماوراء الأطلسي، فكانت قصصه القصيرة نماذج رائعة عن دقة المراقبة والملاحظة للسلوك الإنساني موضوعياً من دون تحيز عاطفي. ومن هنا يمكن فهم عدم تقبل الفرنسيين للقصة الانطباعية في نموذجها الأمريكي، على الرغم من اقتباسهم أسلوب پو السردي الذي أهمله نقاد وطنه. ومع ذلك فإن أشهر انطباعيَّين فرنسيين هما شارل نودييه C.Nodier وجيرار دي نِرڤال[ر] Nerval. واللافت هو أن مشاهير الأجناس الأدبية الأخرى في فرنسا كالرواية والشعر قد جربوا أقلامهم بنجاح في القصة القصيرة، مثل بلزاك[ر] وفلوبير [ر] ودي ڤيني[ر] وغوتييه[ر]، إلا أن أحد أهم كتاب فرنسا في القرن التاسع عشر أي ألفونس دوديه[ر] امتاز بفرادة إبداعه القصصي الذي أظهر تقانات الكتابة وتجاربها في قرن بكامله. أما أكبر قصاص فرنسي تميز بموضوعيته وتنوع موضوعاته وغزارتها، فهو موباسان[ر] الذي صار نتاجه القصصي مدرسة تحتذى في جميع أنحاء العالم.
إن أول القصص القصيرة الحديثة ذات الأهمية الفنية الجمالية في روسيا في القرن التاسع عشر تلك التي قدمها الشاعر ألكسندر بوشكين[ر]. فمثله مثل الفرنسي مرميه (الذي كان أول من ترجم أعماله إلى الفرنسية) طوَّر بوشكين في قصصه أسلوباً يقارب الكلاسيكية في عرض الصراع العاطفي مع التأكيد على عدم انحياز الكاتب عاطفياً إلى أحد طرفي الصراع. وثمة نموذج مهم آخر من روسيا هو رواية الشاعر ليرمنتوف[ر] «بطل من زماننا» التي تتشكل أساساً من خمس قصص مختلفة ربطها الراوي في سياق معين هادف.
إلا أن ذروة القصة القصيرة الحديثة في روسيا تتمثل بنيكولاي غوغول[ر]، فسيد الرواية الواقعية الروسية دستويڤسكي[ر] يرى أن القصة الروسية قد خرجت من «معطف» The Overcoat غوغول، وهي أشهر قصصه. وفي المرحلة نفسها نشرت قصص إيڤان تورغينيف[ر] الذي يبدو للوهلة الأولى مختلفاً في أسلوبه عن غوغول، إلا أن كليهما كانا في الواقع أكثر اهتماماً بمواصفات الشخصيات والأمكنة منهما في تطوير حبكة متكاملة العناصر. أما عملاقا الرواية الواقعية دستويفسكي وتولستوي[ر] فقد أسهما بنصيب وافر في تطور القصة، كل على طريقته. ووصلت القصة الموضوعية objective story على يدي أنطون تشيخوف[ر] إلى ذروتها؛ فهو لايبدي كبير اهتمام بالأحداث، ومع ذلك فإنه يكشف كثيراً من طبيعة حياة شخصياته، وأسلوبه في السرد مفعم بالفكاهة الساخرة والمتعاطفة مع الشخصيات، حيث أسس لتيار امتد تأثيره إلى العالم أجمع.
القصة في القرن العشرين
يرى وليم فوكنر[ر] أن الكتاب غالباً يجربون أقلامهم في الشعر، وحينما يدركون صعوبة ذلك ينتقلون إلى القصة القصيرة، وحينما يخفقون هنا يتوجهون إلى الاستقرار في حضن الرواية.
في النصف الأول من القرن العشرين كُتبت آلاف القصص القصيرة الرائعة التي وضعها غالباً شعراء ومسرحيون وروائيون، أو كتاب قصة قصيرة وحسب. لكن الملاحظ أن القصة القصيرة قد تراجعت في بعض البلدان لمصلحة مناطق أخرى في العالم، فقد أنتجت صقلية مثلاً لويجي بيراندلّو[ر] وتشيكوسلوفاكيا كافكا[ر] واليابان أكوتاغاوا[ر] وريونوسوكه A.Ryunosuke والأرجنتين بورخِس[ر]، إضافة إلى أن كبريات المجلات الاختصاصية قد استمرت في التركيز على اكتشاف الأسماء الجديدة الواعدة من جميع أنحاء العالم. ومع ازدياد أُلفتها صار شكل القصة القصيرة أكثر تنوعاً وتعقيداً، فالأدوات الأساسية اللازمة لبناء القصة خضعت لتغيير ملحوظ. فالحدث الفريد الذي كان يميز غالباً قصة القرن التاسع عشر تراجع في القرن العشرين لمصلحة الراوي الذي انصب اهتمامه على أحداث ثانوية وأمور لاتلفت النظر.
كان الميل نحو التجريب في شكل القصة القصيرة هو المهيمن في القرن العشرين. ومن أبرز التجريبيين إرنست همنغواي[ر] في قصته الشهيرة «مكان نظيف حسن الإضاءة» A Clean Well- Lighted Place التي يبدو ظاهرياً أنها لاتقدم أي نوع من الشكل أو الحدث، إلا أن هذا النوع من القصص في واقع الأمر يتمحور حول حدث نفسي داخلي، كما لدى لورنس[ر] وكاثرين مانسفيلد وجيمس جويس[ر] وغيرهم كثر.
وفي القرن العشرين كله لم يقدم كتاب القصة ذلك الشكل الذي يمكن أن يجيب عن التساؤلات والإشكاليات المتعلقة ببنية القصة structural problems، ولاسيما أن السينما والتلفزيون صارا أقدر على تحقيق متعة الإثارة والدهشة من حيث مركزية الحدث والفعل. ومنذ أن توقفت المجلات الدورية عن نشر القصص الترفيهية للجمهور العريض، صارت القصة القصيرة الشكل الأدبي الأكثر تفضيلاً لدى عدد أصغر من القراء المثقفين.
نبيل الحفار
Story - Histoire
القصة
القصة story نوع من السرد النثري التخيلي fictional القصير والبسيط مقارنة بالرواية. ويعتمد بناء القصة على اقتصار شديد في عدد الشخصيات والأحداث والأماكن والزمن وعلى تكثيف السرد، فالقصة تهدف عادة إلى تحقيق أثرٍ effect واحد يصدر عن حدث episode مميز أو بضعة أحداث أو مَشاهد. والشخصية في القصة لاتكون متكاملة الأبعاد كما في الرواية[ر] أو المسرحية، بل يتكشف جانب منها أو أكثر من خلال الفعل الدرامي الذي تقوم به، أو برد فعلها على الحدث الذي تواجهه.
ونتيجة للتطور الطويل الأمد الذي خبره هذا النوع من السرد، فقد يراوح طول القصة بين جملة واحدة أو جمل عدة كما في القصة القصيرة جداً short short story أو القصة البرقية telegram-story، وبين الأربع صفحات تقريباً كما في القصة القصيرة short story، وقد تبلغ مئة صفحة كما في القصة الوسطى الفرنسية (نوڤِلت) novelette، أو الأقصوصة الألمانية (نوڤِلِّه) novelle. وبسبب هذا التفاوت في الحجم الذي قد يبدو مستغرباً لابد من عدّ مصطلح «قصة» من هذا المنظور تقريبياً.
تاريخ القصة ـ النشأة
يعود تاريخ القصة إلى ما قبل معرفة الإنسان الكتابة، فالحكواتي القديم عند إنشائه الحكاية ومحاولته حفظها، كان يلجأ إلى عبارات جاهزة وإيقاعات ثابتة وإلى القافية طبعاً، ومن هنا كانت غالبية السرديات narratives في العالم القديم ذات قالب شعري مثل «ملحمة غلغامش»[ر] و«حرب الآلهة» و«قصة أدپا» من أرض الرافدين، و«القوس المقدس» و«الملك الذي نسي» من أرض كنعان، وهي قصص كُتبت على الرقم الطينية في الألف الثانية ق.م. أما القصص المصرية التي تعود إلى المرحلة نفسها تقريباً فقد كُتبت على أوراق البردي، ولكن نثراً، إذ يبدو أنهم احتفظوا بالشعر لأناشيدهم الدينية. إن أقدم قصة مصرية معروفة هي «البحّار الذي غرقت سفينته» نحو 2000ق.م وهدفها الجلي على ما يبدو هو التأكيد لمستمعيها من الأرستقراطية الفرعونية على صحة مقولة «قد يصيبكم مكروه ينقلكم من ثم إلى حياة أفضل». وهناك من مرحلة الأسرة الثانية عشرة قصة «الطبيب سنوحي المنفي» الشهيرة، والقصة التربوية الوعظية «خوفو والسحرة». أما القصة الأكثر إثارة وتفصيلاً، المعروفة بعنوان «قصة الأخوين» أو «أنپو وباتا» فقد كتبت في عصر المملكة الجديدة نحو 1250ق.م، فهي أكثر القصص المصرية تعليمية، وفي الوقت نفسه، أغناها من حيث الموضوع الشعبي الدال folk motif، وأتقنها بناءً.
تعد أقدم القصص الهندية حديثة نسبياً بالمقارنة مع الرافدية والمصرية، فقصص «البراهمانيات» Brãhmanas نحو 700ق.م ليست أكثر من ملحقات فقهية لشرح كتب الڤيدا[ر] الأربعة؛ إلا أن بعضها القليل صيغ كقصص أمثولية إرشادية instructional parables، وقد تكون مجموعة «لاتَكا» Lãtaka المدونة بلغة پالي Pãli أكثر مدعاة إلى الاهتمام بها كقصص. صحيح أنها صيغت في إطار ديني يهدف إلى توظيفها كتعاليم أخلاقية بوذية، إلا أن بؤرة اهتمامها تتركز على السلوك الدنيوي والحكمة العملية. وثمة مجموعة قصص معاصرة للسابقة نوعاً ما، هي «الأسفار الخمسة» The Pañca-Tantra نحو 500ق.م المكتوبة باللغة السنسكريتية، التي انتشرت عالمياً بترجماتها المختلفة والمتكررة. وهذه المجموعة المسلية من حكايات الحيوانات ذات الهدف التعليمي تشابه إلى هذا الحد أو ذاك «حكايات إيسوب» The Tales of Aesop الإغريقية. وقد تُرجمت إلى الفارسية الوسطى في القرن السادس الميلادي، وإلى العربية في القرن الثامن الميلادي، ومن ثم إلى العبرية واليونانية واللاتينية، وفي عام 1570 صدرت ترجمتها الإنكليزية. والمجموعة التي تسترعي الانتباه من منظور فن القصة في السياق نفسه هي «محيطُ أنهار من القصص» Katha - saritsãqara، وهي سلسلة حكايات جمعها وأعاد صياغتها شعراً في القرن الحادي عشر الميلادي الأديب السنسكريتي ساماڤيدا Samaveda. يعود معظم هذه القصص إلى مادة أكثر قدماً في التراث الهندي، أما موضوعاتها فتتنوع من بجعة مسحورة حتى خادم مخلص أُسيء فهم مقصده.
في القرون الثاني والثالث والرابع ق.م كتب العبرانيون بعض أكثر سردياتهم صقلاً (أغلبها مقتبس من مصادر محلية أقدم عهداً) لتشكل جزءاً مهماً من «العهد القديم: وأسفار الأبوكريفا» Apocrypha الملحقة به، ويعد بعضها من القصص الأكثر انتشاراً عالمياً، مثل يوديت وسوزانا ودانيال وروث وإستر ويونس.
يمكن القول إن معظم القصص الشرقية القديمة، من كنعان حتى الهند مروراً بوادي النيل وحوض الرافدين وفارس؛ كانت ذات طابع تعليمي إلى هذا الحد أو ذاك، فبعضها كان وعظياً مباشراً، وبعضها الآخر أمثولياً أخلاقياً، إلا أن الحكمة المستقاة منها جميعاًَ هي أن الإنسان الخيّر سيسعد ويتمتع بنجاحه المعنوي والمادي، في حين سيلاقي الشرير الويلات ومرّ الآلام.
وفي العالم الغربي أسهم قدماء الإغريق بقسط وافر في القصة بمختلف تجلياتها، فكما في الهند كانت قصص الحيوان واسعة الانتشار مثل «حكايات إيسوب» السابقة الذكر، وإضافة إليها انتشرت قصص أسطورية قصيرة تدور موضوعاتها حول مغامرات الآلهة في الحب والحرب. وفي القرن الثاني قبل الميلاد وضع أبولودورُس Apollodoros الأثيني الرواقي في كتابه «المكتبة» Bibliothek وصفاً لأساطير الآلهة معتمداً على تلك القصص التي فُقد معظمها لاحقاً، لكنها ظهرت مُقتبسة بأشكال متعددة في سياق الأعمال الشعرية الطويلة لهسيودوس[ر] Hesiodos وهوميروس[ر] Homeros وكبار كتاب التراجيديا (المأساة)، كما وجدت الحكايات القصيرة طريقها إلى أعمال نثرية طويلة مثل «پِرْسيكا» Persika (ق 5ق.م) للكاتب هيلانيكوس Hellanikos الذي وصف فيه بالعامية الإيونية Ion حكايات الآلهة. أما أبو التاريخ هيرودوتُس[ر] Herodotos فقد عد نفسه قصاصاً يروي الحكايات، وفي تاريخه الفلسفي «تربية كيروس» Kyru paideia ق4 ق.م يورد الكاتب زينوفون[ر] Xenophon، تلميذ سقراط، قصة الجندي أبراداتِس Abradates الشهيرة وزوجته الجميلة المخلصة بَنْتيا Panthea، ويرى بعض الباحثين أنها أول قصة حب غربية، كما يشتمل الكتاب على استطرادات سردية أخرى.
يُنسب إلى الأغارقة شكل «الرومنس» Romance وهو سردية نثرية طويلة نوعاً ما، موضوعها الحب، ذات أسلوب ثابت ثلاثي المراحل (حب ففراق فاتحاد)، وكانت تتألف بداياتها من سلسلة من الحكايات القصيرة، وأشهرها رومنسات الكاتب بارثنيوس Parthenius في عصر القيصر أغسطس[ر] Augustus، وهي مجموعة من 36قصة نثرية عن عشاق تعساء. وفي القرن الثاني ق.م تميزت قصص أريستيدس Aristides الشبقية بشعبية واسعة وترجمت مباشرة إلى اللغة اللاتينية. ويتبدى من تنوع ماسبق ذكره من أنواع القصص الإغريقية أن التعليمية لم تكن الطابع المهيمن عليها، كما في القصص الشرقية.
وفي روما اللاتينية كانت مساهمة كتّابها على صعيد السرديات القصيرة ضئيلة جداً بالمقارنة مع جيرانهم الأغارقة. إن قصيدة أوڤيد[ر] Ovid الطويلة «التحولات أو مسخ الكائنات» Metamorphoses هي أساساً إعادة صياغة لما يزيد على مئة حكاية شعبية قصيرة في منظومة موضوع موحد. أما ما تلا ذلك من كبريات السرديات التخييلية فهي أقرب من حيث البنية إلى الرواية، مثل «ساتيريكون» Satyricon (ق1م) لبترونيوس Petronius، و «الحمار الذهبي» The Golden Ass لأبوليوس[ر] Apuleius (ق2م)، إلا أنهما استخدما كثيراً من مواد القصص القصيرة ضمن إطار أوسع وأشمل.
القرون الوسطى ـ عصر النهضة وما بعد
يبدو من خلال استعراض الأعمال الأدبية التي تعود إلى القرون الوسطى أن العصر قد تميز بتوليد الأشكال الأدبية الفنية وتكاثرها، ولكن ليس بالضرورة بتطوير وتهذيب أشكال السرد القصيرة. ففيه صارت الحكاية القصيرة وسيلة مهمة للتسلية والإمتاع. ومابين عصر الظلمات حتى عصر النهضة تبنت حضارات كثيرة شكل السرديات القصيرة للتعبير عن مقاصدها. فحتى غزو البرابرة الجرمانيين العدواني القاتم الروح، خضع للتعبير عنه في أشكال السرد القصيرة، كما أن الأساطير والحكايات البطولية القادمة من اسكندناڤيا وإيسلندا النائية تدل على أنواع الحكايات الكئيبة والعنيفة التي حملها الغزاة معهم نحو جنوبي أوربا.
وعلى نقيض ذلك فإن الخيال الرومنسي والمعنويات العالية لدى السلتيين Celts بقيت بادية للعيان في حكاياتهم وقصصهم، وأينما ظهروا سواء في إيرلندا أم في فرنسا أم في بريطانيا كانت ترافقهم قصصهم المشربة بالسحر والروعة، مثل الحكايات الأسطورية التي ظهرت في القرن التاسع حول «لونغِس مَك ن ـ ويسْلِن» Longes mac n- Uislenn التي غرست نبتة الرومنسات الفروسية chivalric romances التي ازدهرت لاحقاً في التربة الأوربية. ومن المساهمين الأبلغ تأثيراً على صعيد السرديات القصيرة في القرن الثاني عشر كريتيان دي تروا[ر] Chrétien de Troyes وماري دي فرانس Marie de France.
في تلك المرحلة اشتهر أيضاً نوع من القصص عُرف بـ «النموذج» Exemplum هدفه تحفيز القارئ أو المستمع على الاقتداء بسلوك نموذجي. ومن أشهر هذه القصص في القرنين الحادي عشر والثاني عشر تلك التي استوحت نماذج من سلوك القديسين، وهناك مايقارب المئتين منها كان الكهنة يستخدمونها في مواعظهم الكنسية أيام الآحاد. أما بين عامة الناس في أواخر القرون الوسطى فقد ظهرت حركة أدبية معارضة لنوعي الـ «رومَنْس» و«النموذج» مفضلة الفطرة السليمة، والفكاهة الدنيوية والحسية sensuality، ومالت على نحو كبير إلى الذكاء العملي لدى حيوانات حكايات الوحوش، وإلى النكات الخشنة المسلية وإلى الحكايات البذيئة Fabliaux، المنظومة شعراً، وهناك منها قرابة مئة وستين حكاية، وكانت هذه الأخيرة أبرزها أهمية، واستمرت محافظة على شعبيتها قرابة قرنين من الزمن، بدءاً من القرن الثاني عشر، ولفتت انتباه بوكاتشو[ر] Boccaccio الإيطالي وتشوسر[ر] Chaucer الإنكليزي.
كان حكواتي القرون الوسطى ـ بغض النظر عن الحكاية التي يفضلها ـ يعتمد غالباً على حكاية إطار format تساعده على رصف القصص بعضها بجانب بعض، مهما كان عددها، مع الحفاظ على استقلالية كل منها نسبياً. ولما كان تأكيد الوحدة العضوية لهذا النوع من السرديات أمراً لايؤبه له كثيراً، فقد فضل الحكواتي حينذاك إطاراً مرناً يسمح بإضافة أو استبعاد حكاية ما من دون تغير ملحوظ في التأثير. وكان النموذج الذي يبحث عنه متوفراً في «حكماء روما السبعة» The Seven Sages of Rome، وهي مجموعة من القصص ذات الشعبية الواسعة في أنحاء أوربا كافة، وإطارها قصة أمير محكوم عليه بالموت، فيقوم محاموه وهم الحكماء السبعة، كل على حِِده، بسرد قصة جديدة كل يوم، فيؤجل تنفيذ الحكم حتى تثبت براءته فينجو من براثن الموت. وهذه التقانة في السرد كما هو واضح تشابه إلى حد كبير تقنية «ألف ليلة وليلة»[ر] العربية التي تعود أيضاً إلى القرون الوسطى، وغالبية قصصها تؤطرها حكاية شهرزاد التي تعود في الأصل إلى مجموعة الحكايات الفارسية «هزار إفسان» Hazar Efsan أي «ألف حكاية خرافية»، وقد ترجمها العرب، فاحتفظوا بالإطار وابتكروا حكايات جديدة مختلفة الأنواع تدور أحداث معظمها بين بغداد في العصر العباسي والقاهرة ودمشق في العهد الفاطمي. وقد وضع الكتاب الجديد في العصر المملوكي (648ـ923هـ/1250ـ1517م).
وبعد كل هذا التعدد والتنوع في السرديات القصيرة جاءت عملية الصقل الفني في القرن الرابع عشر على أيدي عملاقين هما بوكاتشو وتشوسر. ولاشك في أن مصادر قصص الـ «ديكاميرون» Decameron لبوكاتشو تحفل بمؤثرات متنوعة، بما في ذلك الحكايات والنماذج والرومنسات القصيرة. ونتيجة لاتساع شعبيته اظهرت في مختلف أنحاء أوربا وبسرعة لافتة أعمال تقلِّدها، ففي إيطاليا وحدها ظهر قرابة خمسين كاتباً مارسوا السرديات القصيرة novella كما كانت تسمى هناك. لقد تعلم هؤلاء كثيراً من فنية وحرفية بوكاتشو، وإلى حد ما أيضاً من معاصره فرانكو ساكيتّي Franco Sacchetti، فزودوا العالم الغربي على مدى ثلاثة قرون بالسرديات القصيرة. لم يكن ساكيتي مجرد مقلد لبوكاتشو، بل واقعياً صريحاً ومباشراً في وصفه الحياة اليومية في فلورنسا في مئتي قصة قصيرة أقرب إلى أسلوب «النادرة» anecdote. وثمة كاتبان آخران مهمان على صعيد القصة في القرن الرابع عشر، هما جوڤاني فيورِنتينو Giovanni Fiorentino وجوڤاني سِركامبي G.Sercambi. وفي القرن الخامس عشر حظيت مجوعة «القصص القصيرة» (1475) Il novellino للكاتب ماسوتشو سالرنيتانو Masuccio Salernitano باهتمام خاص؛ وهي تضم خمسين قصة تحفل بالفكاهة عن العشاق ورجال الكهنوت،على الرغم من أن الإسهاب فيها يحل محل البلاغة. ومع ماسوتشو بدأ انتشار القصة القصيرة يأخذ أبعاداً جديدة، ففي القرن السادس عشر كان ماتيو باندِلو M.Bandello أكثر الكتاب تأثيراً في مختلف أنواع السرد الأدبي، لكن اهتمامه تركز حول قصص الخداع deception التي شكلت أحد أنواع كثيرة برزت وانتشرت في تلك المرحلة، ومنها على سبيل المثال مجموعة «محاججة الحب» Reasoning of Love للكاتب أغنولو فيرنزولو Agnolo Firenzuolo التي اتصفت ـ على نقيض قصص الجنس المكشوف عادة ـ بأسلوب لغوي أنيق ومرهف. أما أنطون فرنشِسكو ِAnton Francesco فقد ضمَّن مجموعته المتنوعة «الكريات الزجاجية» The Marbles عدداً من القصص التي تعتمد المفاجأة أو السخرية، في حين جرَّب جانفرانشِسكو سترابارولا Gianfrancesco Straparola قلمه في ميدان الحكايات الشعبية بالعامية في مجموعته «الليالي السارة» The Pleasant Nights. وفي مطلع القرن السابع عشر حاول جامباتيستا بازيلِه Giambattista Basile أن يوَشّي المواقف الجاهزة المألوفة في حكايات الجن fairy-tales بتفاصيل واقعية، فكانت النتيجة غالباً لافتة: حكاية عن جنيات وعفاريت وأمراء بدوافع ومشاعر واقعية جداً، مما يولِّد الطرافة والتسلية. ولربما كانت هذه الصفات تحديداً في مجموعته «حكاية الحكايات» (1634) The Story of Stories هي ما ذكَّر القراء ببوكاتشو، ولاسيما أن المجموعة قد عُرفت بعنوان شائع دال هو «بينتاميرون» Pentameron أي «الأيام الخمسة». إن التشابه الكبير بين بوكاتشو وبازيله، على الرغم من فارق ثلاثة قرون بينهما، يوحي بأن القصة قد احتلت موقعاً معقولاً بين الأجناس الأدبية الأخرى، كما حققت انتشاراً واسعاً، إلا أن قالبها الأساسي وتأثيرها بالكاد تغيرا.
تكرر هذا النموذج من التطور في فرنسا أيضاً، علماً أن إنجاز بوكاتشو لم يُلحظ هناك حتى القرن الخامس عشر، حين ظهر تأثيره عام 1460 مع صدور مجموعة «مئة قصة قصيرة جديدة» Cent nouvelles nouvelles التي تتحدر من سلالة الـ «ديكاميرون». وبعد قرن كامل صدرت مجموعة «الأيام السبعة» (1559) Heptaméron لمرغريت دي أنغوليم Marguerite d’Angoulême، وضمت اثنتين وسبعين قصة غرامية تدين لبوكاتشو بما لاتغفله الملاحظة الثاقبة على الرغم من فارق الزمن. وفي مطلع القرن السابع عشر نشر الكاتب بيروالد دي ڤِرڤيل Béroalde de Verville حكاياته «طريق النجاح» (1610) Le Moyen de parvenir التي تنتمي من جهة إلى أجواء رابليه[ر] ومن جهة أخرى إلى تقاليد بوكاتشو، وهي مجموعة قصص من «الحكاية ـ الإطار» تهدف في المقام الأول إلى التسلية والإمتاع.
أما الأمة الأعظم نفوذاً في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في أوربا، ألا وهي إسبانيا؛ فقد أسهمت إلى حد كبير في صقل السرديات النثرية القصيرة وتطويرها، وأكثر ما يلفت الانتباه على هذا الصعيد هي مجموعة دون خوان مانويل Don Juan Manuel بعنوان «كتاب النماذج» (1328ـ1335) The Book of Examples السابق على الـ «ديكاميرون» ببضع سنوات. وهناك أيضاً تجارب ثربانتس[ر] التي نشرت عام 1613 بعنوان «قصص نموذجية» Exemplary Novels وهي تختلف عن معاصراتها من حيث الأسلوب والرصانة في المعالجة، علماً أن هدفها الرئيسي هو استكشاف طبيعة الوجود الدنيوي الذي انغمس فيه البشر, وقد كان هذا الموضوع جديداً نوعاً ما على السرديات القصيرة، فما قَبْل ذلك كانت هذه السرديات إما وعظية تربوية وإما بغرض الترفيه والتسلية. وعلى الرغم من توافر مجموعات قصصية عديدة ذات انتشار شعبي واسع فقد بقيت السرديات القصيرة في إسبانيا في ظل الرواية التي أخذت بالظهور بقوة في القرن السادس عشر. وكما فعل قدماء الرومان، ضمَّن الإسبان رواياتهم في عصر النهضة كثيراً من القصص القصيرة باعتبارها طرائف ونوادر.
تعرضت القصة في القرنين السابع عشر والثامن عشر إلى تراجع كبير على صعيد الكتابة وانكماش ملحوظ على صعيد التأثير؛ ويعود ذلك إلى عوامل كثيرة، منها بزوغ شمس الراوية الفنية، وإخفاق تقاليد بوكاتشو عبر ثلاثة قرون في إبداع جديدٍ يلبي احتياجات تطورات العصر واقتصارها على التقليد والتنويع الفقير، ومنها ميل العصر إلى الدراما والشعر، وتفضيل جمهور القراء في الوقت نفسه الكتابات الصحفية التي تتعاطى مع القضايا الراهنة الملموسة، إضافة إلى ثورة نشر الكتب المتنوعة ولاسيما منها كتب الرحلات التي لبت النهم للتعرف على البلدان الأخرى وسكانها وعوالمها، والسِيَر الجنائية والوصف الاجتماعي والمواعظ والمقالات متنوعة الموضوعات. وإن وجَدت قصةٌ فنية جادة طريقها ـ أحياناً ـ إلى النشر في الصحافة (صحف، مجلات أسبوعية، شهرية وفصلية) فقد كانت وراءها حتماً قامة أدبية مرموقة مثل ڤولتير أو أديسون. وقد تبدى هذا التراجع على أشده في إنكلترا.
في القرون الوسطى صارت القصة في المقام الأول وسيلة ترفيهية. أما عصر النهضة ومن ثم عصر التنوير فقد طرحا متطلبات مختلفة فكرياً وفنياً. فيقظة الاهتمام بالمسائل الدنيوية أدت إلى اهتمام جديد بالظروف الراهنة، ومن ثم لم تعد السرديات القصيرة الترفيهية مطلوبة. وفي البداية لم يستجب لهذه المطالب الجديدة إلا الصحفيون وكتاب الكراريس، في حين لم تلب القصة ذلك فتراجع دورها. وفي القرن التاسع عشر نفضت القصة عن كاهلها أعباء الترفيه الهروبي بدلاً من التصدي لقضايا الواقع، وانبعثت من جديد في شكل «القصة القصيرة الحديثة» modern short story، فكان ذلك خطوة جديدة على طريق تطور السرديات القصيرة التخييلية، اكتسبت معه القصة القصيرة رصانة جديدة وحيوية مغايرة ومكانة محترمة في سياق الإبداع الأدبي.
القصة القصيرة الحديثة
ظهرت القصة القصيرة الحديثة في تزامن لافت في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وروسيا. في عام 1801 في ألمانيا كان فريدريش شليغل[ر] أول من نافس نظرياً الدور الجمالي والفكري للقصة القصيرة التي بدأت تحتل حيزاً ملحوظاً في الصحافة كجزء عضوي من بنيتها وأهدافها, وفي عام 1827 علَّق غوته[ر] على الفارق الجلي ما بين القصة القصيرة الحديثة والسرديات القصيرة القديمة، متفقاً مع الناقدَين الأدبيين ڤيلاند[ر] وشلايرمَخَّر Schleiermacher على أن القصة القصيرة يجب أن تكون واقعية تتعامل مع أحداث محتملة وشخصيات ممكنة الوجود في الواقع المعيش بين الناس.إلا أن قصص كلايست[ر] وهوفمَن[ر] ولودڤيغ تيك L.Tieck تنبو عن حدود التعريف السابق فتخرج من حدود الواقع إلى عالم الميتافيزيقا والفانتازيا[ر]، في محاولة لاستكشاف عوالم الإنسان الداخلية وخفايا عقله الباطن. وبهذا نأى هؤلاء الكتاب في إنتاجهم القصصي عن الشروط التي فرضتها الصحافة، ومهدوا للكاتب أفقاً للإبداع، مادام الهدف جاداً وليس ترفيهياً وحسب، إلا أن هذا لاينفي كون العمل الأدبي ممتعاً فنياً.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية لم يختلف تطور القصة القصيرة الحديثة عما كانت عليه الحال في ألمانيا، فثمة كتاب تمسكوا بالواقعية وبعرض الأحداث من منظور موضوعي، وفي خط موازٍ تطورت القصة القصيرة الانطباعية impressionist التي تتخذ شكلها ومضمونها من خلال وعي الراوي وسلوكه النفسي. ولاشك في أن مكانة القصة القصيرة قد توطدت فنياً في أمريكا من خلال الاهتمام النقدي المكثف الذي لاقته، ليس فقط بأقلام النقاد، وإنما بإسهامات الكتاب أنفسهم نقدياً، وعلى رأسهم پو[ر].
وفي فرنسا القرن التاسع عشر حظيت قصص بروسبر مِرميه[ر] باهتمام كبير بوأه كرسياً في الأكاديمية الفرنسية ونشر سمعته حتى ماوراء الأطلسي، فكانت قصصه القصيرة نماذج رائعة عن دقة المراقبة والملاحظة للسلوك الإنساني موضوعياً من دون تحيز عاطفي. ومن هنا يمكن فهم عدم تقبل الفرنسيين للقصة الانطباعية في نموذجها الأمريكي، على الرغم من اقتباسهم أسلوب پو السردي الذي أهمله نقاد وطنه. ومع ذلك فإن أشهر انطباعيَّين فرنسيين هما شارل نودييه C.Nodier وجيرار دي نِرڤال[ر] Nerval. واللافت هو أن مشاهير الأجناس الأدبية الأخرى في فرنسا كالرواية والشعر قد جربوا أقلامهم بنجاح في القصة القصيرة، مثل بلزاك[ر] وفلوبير [ر] ودي ڤيني[ر] وغوتييه[ر]، إلا أن أحد أهم كتاب فرنسا في القرن التاسع عشر أي ألفونس دوديه[ر] امتاز بفرادة إبداعه القصصي الذي أظهر تقانات الكتابة وتجاربها في قرن بكامله. أما أكبر قصاص فرنسي تميز بموضوعيته وتنوع موضوعاته وغزارتها، فهو موباسان[ر] الذي صار نتاجه القصصي مدرسة تحتذى في جميع أنحاء العالم.
إن أول القصص القصيرة الحديثة ذات الأهمية الفنية الجمالية في روسيا في القرن التاسع عشر تلك التي قدمها الشاعر ألكسندر بوشكين[ر]. فمثله مثل الفرنسي مرميه (الذي كان أول من ترجم أعماله إلى الفرنسية) طوَّر بوشكين في قصصه أسلوباً يقارب الكلاسيكية في عرض الصراع العاطفي مع التأكيد على عدم انحياز الكاتب عاطفياً إلى أحد طرفي الصراع. وثمة نموذج مهم آخر من روسيا هو رواية الشاعر ليرمنتوف[ر] «بطل من زماننا» التي تتشكل أساساً من خمس قصص مختلفة ربطها الراوي في سياق معين هادف.
إلا أن ذروة القصة القصيرة الحديثة في روسيا تتمثل بنيكولاي غوغول[ر]، فسيد الرواية الواقعية الروسية دستويڤسكي[ر] يرى أن القصة الروسية قد خرجت من «معطف» The Overcoat غوغول، وهي أشهر قصصه. وفي المرحلة نفسها نشرت قصص إيڤان تورغينيف[ر] الذي يبدو للوهلة الأولى مختلفاً في أسلوبه عن غوغول، إلا أن كليهما كانا في الواقع أكثر اهتماماً بمواصفات الشخصيات والأمكنة منهما في تطوير حبكة متكاملة العناصر. أما عملاقا الرواية الواقعية دستويفسكي وتولستوي[ر] فقد أسهما بنصيب وافر في تطور القصة، كل على طريقته. ووصلت القصة الموضوعية objective story على يدي أنطون تشيخوف[ر] إلى ذروتها؛ فهو لايبدي كبير اهتمام بالأحداث، ومع ذلك فإنه يكشف كثيراً من طبيعة حياة شخصياته، وأسلوبه في السرد مفعم بالفكاهة الساخرة والمتعاطفة مع الشخصيات، حيث أسس لتيار امتد تأثيره إلى العالم أجمع.
القصة في القرن العشرين
يرى وليم فوكنر[ر] أن الكتاب غالباً يجربون أقلامهم في الشعر، وحينما يدركون صعوبة ذلك ينتقلون إلى القصة القصيرة، وحينما يخفقون هنا يتوجهون إلى الاستقرار في حضن الرواية.
في النصف الأول من القرن العشرين كُتبت آلاف القصص القصيرة الرائعة التي وضعها غالباً شعراء ومسرحيون وروائيون، أو كتاب قصة قصيرة وحسب. لكن الملاحظ أن القصة القصيرة قد تراجعت في بعض البلدان لمصلحة مناطق أخرى في العالم، فقد أنتجت صقلية مثلاً لويجي بيراندلّو[ر] وتشيكوسلوفاكيا كافكا[ر] واليابان أكوتاغاوا[ر] وريونوسوكه A.Ryunosuke والأرجنتين بورخِس[ر]، إضافة إلى أن كبريات المجلات الاختصاصية قد استمرت في التركيز على اكتشاف الأسماء الجديدة الواعدة من جميع أنحاء العالم. ومع ازدياد أُلفتها صار شكل القصة القصيرة أكثر تنوعاً وتعقيداً، فالأدوات الأساسية اللازمة لبناء القصة خضعت لتغيير ملحوظ. فالحدث الفريد الذي كان يميز غالباً قصة القرن التاسع عشر تراجع في القرن العشرين لمصلحة الراوي الذي انصب اهتمامه على أحداث ثانوية وأمور لاتلفت النظر.
كان الميل نحو التجريب في شكل القصة القصيرة هو المهيمن في القرن العشرين. ومن أبرز التجريبيين إرنست همنغواي[ر] في قصته الشهيرة «مكان نظيف حسن الإضاءة» A Clean Well- Lighted Place التي يبدو ظاهرياً أنها لاتقدم أي نوع من الشكل أو الحدث، إلا أن هذا النوع من القصص في واقع الأمر يتمحور حول حدث نفسي داخلي، كما لدى لورنس[ر] وكاثرين مانسفيلد وجيمس جويس[ر] وغيرهم كثر.
وفي القرن العشرين كله لم يقدم كتاب القصة ذلك الشكل الذي يمكن أن يجيب عن التساؤلات والإشكاليات المتعلقة ببنية القصة structural problems، ولاسيما أن السينما والتلفزيون صارا أقدر على تحقيق متعة الإثارة والدهشة من حيث مركزية الحدث والفعل. ومنذ أن توقفت المجلات الدورية عن نشر القصص الترفيهية للجمهور العريض، صارت القصة القصيرة الشكل الأدبي الأكثر تفضيلاً لدى عدد أصغر من القراء المثقفين.
نبيل الحفار