ميشيل هنري: همجية العلم واندثار الثقافة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ميشيل هنري: همجية العلم واندثار الثقافة

    ميشيل هنري: همجية العلم واندثار الثقافة
    إسكندر حبش 23 أغسطس 2023
    تغطيات
    (ميشيل هنري، Getty)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    1- صدر كتاب الفيلسوف (الفينومينولوجي) الفرنسي ميشيل هنري (1922-2002) "الهمجية" (La barbarie) للمرة الأولى عام 1987 قبل أن يُعاد طبعه في عام 2014. وقد أثار يومها اهتمامًا كبيرًا، لكنه أيضًا أثار انتقادات شديدة، إذ حاول المؤلف – في كتابه هذا – تحذيرنا، وبشدّة، من مزاعم العلم الحديث: فالموضوعية التي يدّعيها (أي العلم) ليست في الحقيقة سوى إفقار للواقع. ووفقًا له، فإن المعرفة الأساسية للإنسان، التي تسمح بتشكيل كلّ المعارف الأخرى، ليست المعرفة العلمية بل هي معرفة الحياة.

    ثمة أمران لا بدّ أن "نكتشفهما" (إذا جاز القول) مع هذه الترجمة العربية التي صدرت (عام 2022) عن "دار الساقي" (ترجمة جلال بدلة، وهي تعتمد على طبعة 2014 الفرنسية، الصادرة عن منشورات PUF)؛ الأول، مناخ الكتاب، إذ هو مكتوب بهمّ أن يكون متاحًا أمام الجمهور الواسع، بمعنى أنه لا يتمتع بالطابع الأكاديمي والتقني الدقيق مثلما وجدنا في أعمال المؤلف السابقة. لكن، ومع ذلك، يطبق ميشيل هنري مبادئ فلسفته العامة على حالة الأزمة الثقافية الحالية، الملموسة، ويلقي ضوءًا قيّمًا على هذه الفلسفة. علاوة على ذلك، فهو يتعامل مع الأسئلة الحاسمة لفهم مجتمعاتنا المعاصرة. على هذا النحو، فإن الكاتب، يتوجه في الوقت عينه، ويخاطب كلا من الأكاديميين والقرّاء العاديين (بمعنى غير المتخصصين). ثانيًا، نكتشف، لسوء الحظ ربما، أنه كتاب موضوعي، وبقسوة شديدة؛ بمعنى أنه يشهد على "هذا الشعور المأساوي بالعجز الذي يختبره كلّ رجل متعلم اليوم في مواجهة الحقائق". قد يكون من المهم فعلًا، ومن أجل التفكير في عصرنا الراهن، أن نعود إلى تأملات هذا الفيلسوف الذي يحلل ويفكر في أسباب بربرية (همجية) عالمنا. ففي حين تزداد المعرفة العلمية بشكل مضطرد كل يوم، فإن الثقافة، هي مَن تختفي أكثر فأكثر: في هذا، وفقًا للكاتب، نرى أن هذه الهمجية تغزو مجتمعاتنا المعاصرة. في أصل هذه العملية، "عبقريان": غاليليه (أو غاليليو بلفظ آخر) وديكارت: تصور غاليليه العلم على أنه يجب أن يتجاهل الحياة والحساسية والذاتية، باختصار أن يتجاهل كل ما هو بشري في الإنسان، ليأخذ في الحسبان فقط الهدف وما هو قابل للقياس؛ أما ديكارت، فقد قرر أن يخضع "الطبيعة" (وهنا بمعنى الألوهية، ما يقود بالنتيجة إلى الروحانيات) للمعالجة الرياضية (من رياضيات) وبذلك تمّ اختزال الطبيعة إلى مساحة مجردة. فقد ولد العلم الحديث من هذا التوجه. مهمة نبيلة بالطبع. المعرفة العلمية شرعية تمامًا. كذلك التقنية، التي تستمد منها التطبيقات في مجال الممارسة، التي تبدو أيضًا بدورها مشروعة تمامًا. لكن ما لم يعد كذلك هو هذه الأيديولوجية التقنية العلمية، التي ترى في المعرفة العلمية الحقيقة الوحيدة الشرعية، الحقيقة الوحيدة الواقعية، الحقيقة الوحيدة الحقيقية. إزاء ذلك، في الواقع، تأتي إدانة جميع أشكال المعرفة الأخرى: الوعي والحياة والشعور والذاتية والروحانية، وبالتالي أيضًا الطرق المختلفة للتعبير عن الحياة: الفن والأخلاق والدين، باختصار كلمة ثقافة.

    2- يعتبر ميشيل هنري أن الثقافة هي تطوّر الحياة. تنشأ منها وتساهم في تطويرها. (يقصد بكلمة "الحياة" هنا لا الحياة البيولوجية، أي حياة الخلايا التي يدرسها عالم الأحياء، ولكن الحياة المُعاشة، التي نشعر بها، الذاتية، الحياة التي اختبرناها منذ البداية والتي نختبرها كل لحظة عبر الحقائق البسيطة المتمثلة في الرؤية والسمع والشعور بشكل عام، الحياة التي تتجلى أيضًا في ما نسميه الروح أو النفس أيضًا). بينما التقنية هي على العكس من ذلك، إذ تضع الحياة خارج اللعبة، وذلك من حيث مبدئها -على الرغم من أنها هي بدورها واحدة من نتاجات الحياة. بالنسبة إلى الفيلسوف الفرنسي، فإن جوهر الحياة هو تأثر ضروري، "معاناة" ذاتية أساسية. لذلك، فإن الأمر متروك لنا للاختيار بين نتيجتين محتملتين فقط: إما أن نضطلع بهذا "الباتوس" (Pathos) الأساسي الذي يُشكِلنا، إذ بفضل تحقيق "العمل" الإبداعي - الفني والأخلاقي والروحي – يمكن لنا أن نغيّر هذه المعاناة الأولية إلى فرح؛ أو أن نسعى إلى نسيانها من خلال نسيان الذات، والهروب من الحياة، وتجاهل كلّ شيء، مما يؤدي في النهاية إلى اختفاء كلّ ما هو بشري في الإنسان، لتبدأ عندها "الهمجية".
    "المعرفة العلمية الغاليلية هي همجية (بربرية) لأن الحياة نفسها تتأثر، وكل قيمها تتعثر، لا الجماليات فقط ولكن أيضًا الأخلاق، المقدّس -ومعها إمكانية العيش كل يوم"
    3- عادة ما نربط تطوّر المعرفة العلمية بتطوّر الحضارة. إذ أننا نعتبر أن المجتمع الذي سوف يصل إلى مستوى عالٍ من التقنية، إلى أفضل معرفة هندسية (géométrique) ورياضية (mathématique) للطبيعة المادية، سيشكل مجتمعًا مثاليًا من وجهة نظر حضارية. لأن ظهور الحداثة، الذي تميزت بها ثورة غاليليه، أدّى إلى تغيير جذري في المفهوم الذي كنّا نملكه عن العالم في المجتمعات التقليدية. هذا التمزق، هذا الاضطراب العظيم، في نظر ميشيل هنري، ليس سوى خطر رهيب على الثقافة التي يُعرّفها بأنها "التحوّل الذاتي للحياة".

    يصف الفيلسوف، في "الهمجية"، صراعًا حتى الموت بين المعرفة والثقافة ويخشى انتصارًا محتملًا للأول على الثاني. فبالنسبة إليه، المعرفة العلمية ليست جزءًا من الثقافة، بل هي نفيها. لأن ثورة غاليليه، بالمعنى الدقيق للكلمة، هي بمثابة "اختزال" قياسًا إلى ما تحاوله من توصيف لأشياء من العالم عبر تجاهلها المتعمد للصفات الحسيّة التي تتكون منها. فالطريقة (أو الأسلوب) "الغاليلية" هي تشيؤ خالص للعالم تُبعد كل ما هو ذاتي وتضعه جانبًا. وبالتالي، فإنها تنكر الشرط ذاته لإمكانية إدراك الأشياء، أي التجربة الحيّة. هي إذًا هذه الحياة التي تختبر نفسها فينا عبر ظواهرها التي لا يمكن إنكارها، هذه الحياة هي التي تجعلنا نعيش، التي تجد نفسها مجردة من كل واقع حقيقي، مقلصة إلى مظهر. فالقبلة بين العشاق مثلًا، وفق رأي ميشيل هنري، ليست أكثر من قصف للجسيمات الفيزيائية الدقيقة. لا توجد ثقافة ما لم تكن هناك حياة، لأنه لا يمكن أن توجد خبرة بدون إدراك، ولا شيء بدون موضوع. الحقيقة الوحيدة التي يمكننا الوصول إليها هي حقيقة الأشياء المدركة. التجربة الحقيقية للعالم ليست أبدًا تجربة بلا جسد. عندما ينظر الشخص إلى شيء ما، فإنه يُطبق حساسيته، وذوقه، ومزاجه اليومي، وحالته الجسدية، وتركيزه في تلك اللحظة بالذات.

    4- المعرفة العلمية الحديثة فريدة من نوعها من حيث أنها تقدّم نفسها على أنها معرفة دقيقة وصحيحة بلا منازع. ينتج عن هذه "الغطرسة": رفضها تسمية "المعرفة" فيما يتعلق بجميع العلوم التقليدية التي لا تستند إلى المبدأ الغاليلي المتمثل في التشيؤ وغير القادرة على تحقيق نتائج مادية متوازية. يلخص المؤلف فكرته بالقول إن وهم غاليليه مثل كلّ أولئك الذين جاءوا من بعده إذ اعتبروا أن العلم معرفة مطلقة، وكانوا على وجه التحديد قد اتخذوا العالم الرياضي والهندسي، بهدف توفير معرفة لا لبس فيها للعالم الحقيقي، لهذا العالم الحقيقي نفسه، هذا العالم الذي يمكننا فقط الحدس والتجربة في الأنماط الملموسة لحياتنا الذاتية.

    فمن وجهة نظره، كل ثقافة هي ثقافة حياة، وبالمعنى المزدوج لأن الحياة تشكل كلًا من موضوع هذه الثقافة وموضوعها. الثقافة، كما يعرّفها الفيلسوف، ليست سوى الحركة الدائمة للحياة التي تعمل من أجل تنميتها. إنها حركة لمجمل الوعي الذاتي نحو الإنجاز التلقائي أو عدم الإنجازات العالية. في الوقت نفسه، يعد الفن بامتياز جزءًا من الثقافة لأنه الانضباط الذي يأخذ في الاعتبار نشاط الحساسية. ينطلق الإنتاج الفني بشكل أساسي من تجربة الانسان الباطنية، الداخلية التي لا تهم العالم الذي يدّعي التغاضي عن العالم. من ناحية أخرى، فإن المعرفة العلمية الغاليلية هي همجية (بربرية) لأن الحياة نفسها تتأثر، وكل قيمها تتعثر، لا الجماليات فقط ولكن أيضًا الأخلاق، المقدّس - ومعها إمكانية العيش كل يوم.

    5- في كتابه "فينومينولوجيا الحياة"، يعرّف هنري الحياة على أنها تلك القادرة على اختبار نفسها في ظلّ أسلوب "العاطفة الذاتية". "المودة الذاتية" هي الوعي البدائي للإنسان، وعي غير انعكاسي والذي، بدلًا من التفكير بأنه يفكر، يشعر أنه يفكر. إنها بامتياز دليل على اتحاد الروح والجسد. تستند المعرفة العلمية الحديثة إلى محاولة إنكار هذه الذاتية البدائية، والتي تشير إلى خصوصية ونسبية التجربة الفردية. ومع ذلك، فإن هذا "الشعور بالذات"، "تجربة الذات" هذه، تشير إلى "الطبيعة العميقة للتجربة وللحالة البشرية". بالنسبة لهنري، فإن المعرفة الأساسية، أي المعرفة التي تسمح لكل المعارف الأخرى، المعرفة التي هي أيضًا قوة، هي معرفة الحياة.




    في "الهمجية"، يأخذ الفيلسوف مثال طالب في علم الأحياء. عندما يدرس الأخير كتابًا من أجل استيعاب المعرفة، فإنه، كموضوع، يواجه معرفة علمية مجردة موجودة في المجلد الذي أمام عينيه. بين الموضوع، الطالب، والشيء، كتاب الأحياء، ثمة فجوة مقصودة من المستحيل سدّها من دون معرفة الحياة التي تتكشف في جوهرها الخالص، بدون ركود. من دون أن يعرف ذلك من الحياة، سيبقى الطالب بلا حراك يفكر في كتابه. بفضلها يستطيع الطالب تقليب صفحات الكتاب بيديه وقراءة السطور عن طريق تحريك عينيه. القدرة بالفعل على الاتحاد مع قوة الأيدي والتعرف على الذات معها، لتكون على ما هي عليه والقيام بما تفعله، تمتلك فقط معرفة تندمج مع هذه القوة لأنه ليس سوى اختباره المستمر عن نفسه – ذاتيته الراديكالية، كما يجد المؤلف. بعبارة أخرى، معرفة الحياة هي قدرة الإنسان على جعل حركات الجسد والقصد متطابقتين في جوهرها الخالص. إنها معرفة عملية وهي شرط إمكانية كل المعرفة النظرية.

    المعرفة العلمية هي المعرفة التي تمثل العالم أمامها في معرفة مجردة، بحتة، ولكنها لا تختبرها أبدًا. لكن الحقيقة الوحيدة هي حقيقة مثبتة. عالم العلوم الغاليلية هو عالم بارد وموضوعي. بينما تنطلق معرفة الحياة من لقاء الذات والموضوع، لذا فإن المعرفة العلمية ترفض أن تأخذ في الاعتبار حقيقة الذاتية وتقدم لنا شيئًا ليس نتاج أي نظرة لا يدركها أي ضمير. ثمة نقطة داخلية يشير إليها ميشيل هنري: لا شيء على قيد الحياة، يمكنه التحدث باسمه، باسم ما يختبره، باسم ما هو عليه. فقط "الأشياء"، فقط الموت.

    6- إن تجسيد الأشياء في العالم بواسطة علم غاليليه يستجيب لـ تشيؤ الفعل من خلال التطور المتزايد للتكنولوجيا. لقد رأينا أن المعرفة الأساسية التي هي معرفة الحياة يتم تعريفها على أنها معرفة، باعتبارها ممارسة (براكسيس). في حين أنه، مع العصر الصناعي، تم استبدال العمل الحي للإنسان بأجهزة، بأدوات تقلل من علاقتنا بالأشياء إلى آليات مبسطة وغير مجسدة. بين الإنسان والعالم الآن تقف الروبوتات التي تحل محل الحياة. يؤدي هذا إلى ضمور في جميع الإمكانات الذاتية للفرد الحيّ تقريبًا وبالتالي [إلى] تزايد عدم الارتياح وعدم الرضى.

    يضع هنري هنا عمل الحرفي، وهو إبداع دائم وتعبئة دائمة لمعرفة الحياة، مقابل عمل العامل، وهو مجرد تكرار لأفعال "نمطية" و"رتيبة". الحرفي على علاقة جسدية مع العالم، وذاتيته تعمل لنشر معرفة الحياة في الجوهر. يختار صانع الخزانة الخشب الذي سيعمل عليه ويقيم جودته ومقاومته وحبيباته وعروقه. عندما يقوم بصناعة خشبه وتلميعه ثم طلائه بالورنيش، عندما يقوم بتجميع الأجزاء لصنع قطعة أثاث، فإنه يقوم بعمل فريد يتضمن بعمق شخصيته وحياته. من ناحية أخرى، فإن العامل الذي يعمل في خط التجميع في علاقة باردة ومتوسطة ​​حيث يأتي الجهاز الآلي ليحل محل المعرفة. يعد الضغط على زر تشغيل رافعة مهمة بسيطة يمكن أن يؤديها الجميع بنفس الطريقة. بالنسبة إلى الفيلسوف الفرنسي، التقنية ليست سوى "الطبيعة بدون الإنسان"، أي "الطبيعة المجردة، مختزلة لنفسها" وقد "عادت إلى نفسها". إنها البربرية، همجية عصرنا الجديدة، لا الثقافة. وبقدر ما يُخرج الحياة، وصفاتها وأنظمتها من اللعبة، فإن الهمجية في شكلها المتطرف والأكثر لاإنسانية التي أُعطيت للإنسان ليعرفها، هي الجنون.
    "في عصر وسائل الإعلام، يفرض الإعلان قيمه الزائفة علينا -الأدبية والفنية والأخلاقية -بينما تفشل القيم الحقيقية في التعبير عن نفسها"
    7- تُعبر الهمجية الحديثة، عن نفسها أيضًا، وفق الكاتب، في عدد معين من الأيديولوجيات، ولا سيما الماركسية والفرويدية والبنيوية؛ إذ يرى أن هذه الأخيرة، ليست سوى تنظير "العلوم الإنسانية"، وهي تجرّد الإنسان بدورها، من كل ما هو بشري وتجعله موضوعًا للإحصاء. يتم التعبير عن الهمجية أيضًا في الممارسات؛ في التدهور من خلال العمل الآلي، تدمير الجامعة من خلال هيمنة التخصصات العلمية على حساب الأدبية وانحرافها عن طريق غزو التكنولوجيا، واستعباد الإنسان من قبل وسائل الإعلام... إلخ. كل ذلك، يؤدي إلى ظهور التكنولوجيا على حساب الحياة، وبالتالي يقودنا إلى تغيير جذري، إلى "ثورة" وجودية، أي إلى ظهور واقع جديد للنظام الاقتصادي. يهدف هنري هنا إلى قلب علم الغائية الحيوي الذي حدث في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر عندما توقف إنتاج السلع الاستهلاكية التي تميز أي مجتمع [...] نحو "قيم الاستخدام، بهدف الحصول على قيمة التبادل وزيادتها، أي المال". هذا ما هو همجي بامتياز بالنسبة إلى الفيلسوف: ظهور حقيقة لا تنتجها الطبيعة ولا الجسد نفسه. يتطابق حكم المال كقيمة تبادلية مع ظهور افتراضي محض داخل الوجود. يحدد المال وجودنا اليوم عندما لا يكون نتاجًا لأي حياة ولا يخدم أي غرض سوى هدفه. وبالتالي، فإن البربرية التي وصفها هنري هي، في الحالة الأخيرة، اغتصاب: ما هو ميت - التكنولوجيا والمال - يتحول إلى نفسه على أنه كائن.

    8- لا يتورع الكاتب عن إطلاق العديد من التأكيدات والأحكام القاطعة التي قد تثير بعض القراء الذين قد يجدونها قاسية جدًا. على سبيل المثال يعتبر أن عصر المعلوماتية سيكون عصر الحمقى؛ أو عندما يرى في التلفزيون "الممارسة الجوهرية للهمجية"؛ إذ لم يعد يستطيع تحمل سيل تلك الصور التي تتحرك أمامه، ليعتبر أنه كلما كان التلفزيون أكثر عبثية، كلما كان أداء وظيفته أفضل. إنه ابن الملل، يهدف إلى التنويم المغناطيسي والنسيان. ومع ذلك، دعونا لا نتسرع بإصدار حكم سريع. صحيح أن لائحة الاتهامات التي يقدمها، تبدو من دون أي تهاون، هذا أكيد، ولكن أيضًا، لا تأتي هذه اللائحة من دون أي أسس. في الواقع هي تقوم على تأمل عميق، من ناحية، تتأمل جوهر الإنسان بعمق، ومن ناحية ثانية، تتأسس على الشروط والحالات التي وضع هذا الإنسان في قلبها. لننظر من حولنا فعلًا إلى ما نشهده اليوم على مختلف الصعد. ربما كان محقًا في ذلك. فإنسان العصر التقني لم يعد يعرف كيف يوفر لنفسه الوقت الكافي ليعيش. ولا كيف يتذوق جمال المناظر الطبيعية. ولا يقدر قيمة الفعل. ولا ينتهز قدسية الحياة. لم يعد يعرف كيف يشعر بأنه على قيد الحياة، ليختبر نفسه على قيد الحياة في جوهر الحياة الراديكالية. لقد أصبح يعتقد أن هذا كله أمر غير مربح. الثقافة أيضًا ليست مربحة، لا الفن، ولا المقدس، ولا القيمة. يحكم عالمنا المعاصر على الثقافة بالعيش تحت الأرض؛ الجامعة نفسها نفتها وأخضعت كل شيء، بما في ذلك الإنسان، لمعاملة تقنية - علمية. في عصر وسائل الإعلام، يفرض الإعلان قيمه الزائفة علينا -الأدبية والفنية والأخلاقية - بينما تفشل القيم الحقيقية في التعبير عن نفسها. من ناحية أخرى، تسير التكنولوجيا بطريقتها الخاصة، دون أن تهتم بأي شكل من الأشكال بالمعايير الأخلاقية، كما لو تم الاعتراف بأن كل ما يمكن لها القيام به، على المستوى التقني، سيتحقق حتمًا.

    9- "الهمجية" ليس "كتيبًا نقديًا" لا مبرر له، ولكنه في الواقع صرخة ألم يطلقها فيلسوف، أتعبته أوهام القرن العشرين الذي كان يشارف على نهايته (علينا أن لا ننسى أن الطبعة الأولى صدرت عام 1987). كتاب يؤخذ على محمل الجد فعلًا. مثل الكاتب، الذي هو بالتأكيد فيلسوف ذو قيمة كبيرة، وأحد الفلاسفة الفرنسيين النادرين في المشهد الفلسفي الفرنسي (قبل رحيله).

    من جهتي، وبصرف النظر عن بعض "التجاوزات اللفظية"، التي اعتدنا أن تكون غير موجودة في الفلسفة (لكن من حدد ذلك أصلًا، من حدّد بأنها يجب أن لا تكون موجودة؟) أجدني مندهشًا بشدة إلى عمق التحليل وثرائه. من هنا، أسمح لنفسي، في الختام، أن أطرح سؤالين يتعلقان بنظام فلسفي يبدو لي أنه ينشأ من التحليل نفسه: كيف يمكننا أن نفهم أن الحياة، بقدر ما هي "المُطْلقة"، قد سمحت لنفسها بأن تكون محاصرة بهذه الطريقة داخل الإنسان، لدرجة أن تطورها الذاتي يصبح كل يوم أكثر تدميرًا للذات؟ والثاني، مرتبط بالأول: هل يجب أن نعتبر أن هذه السرطنة التدريجية للحياة والثقافة عن طريق التكنولوجيا، هي بمثابة سيرورة عملية وعلمية حتمية؟

    يختم ميشيل هنري كتابه بتساؤل مليء بثقل الكآبة والقلق (الجملة الأخيرة في الكتاب): "هل من سبيل لإنقاذ العالم على يد بعضهم"؟ (والبعض المقصود بهم هنا هم أفراد منعزلون... يرغبون في تناقل هذه الثقافة...) أستعيد طرح سؤال الفيلسوف الفرنسي، لأنحو به صوب الأمل، عن طيب خاطر، أي: ألا يمكننا أن نأمل أن تتغلب الحياة، التي تغلبت على العديد من التجارب على مدى مئات السنين الماضية، على التكنولوجيا وأن ما هو بشري، في الإنسان، يمكن أن يجد خلاصه؟ هذا صحيح، سؤالي ليس سوى مجرّد أمل بدوره.
يعمل...
X