يعد الاقتصاد العالمي أحد أهم الموضوعات الرئيسية التي تستحق النقاش، خصوصًا ما يقوله كبار الاقتصاديين في توقعاتهم الدورية، ونورد ما قالته جانيت هنري لراديو دافوس بوصفها كبيرة الاقتصاديين العالميين في بنك hsbc.
أثر فيروس كوفيد-19 على الاقتصاد العالمي
تضمن حديثها تأثّر الاقتصاد العالمي بآثار فيروس covid-19 والحرب الروسية-الأوكرانية وتداعيات ذلك في جميع أنحاء العالم، وبدأ الحوار بسؤالها عن رأيها في مسألة التضخم وآثاره في الاقتصاد العالمي، فقالت:
«كان التضخم بالفعل في أعلى مستوياته منذ عدة عقود في كثير من الأماكن عندما جاءت صدمة أسعار السلع الأساسية، إذ أدى الانتعاش الأقوى من المتوقع في الطلب العالمي على السلع بسبب مشكلات العرض إلى الكثير من الضغط التصاعدي على أسعار السلع الأساسية، من الطاقة إلى المعادن إلى المنتجات الغذائية. وبأخذ الغزو الروسي لأوكرانيا بالحسبان، والعقوبات المتصاعدة تدريجيًا التي فرضها الغرب عليها، ووجود رغبة بالانتقام من روسيا إلى حدٍ ما، إلى جانب مواجهة الدول الأخرى ارتفاعًا حادًا في أسعار المواد الغذائية، كل ذلك أدى لبدء الدول بالفعل بفرض بعض القيود على صادراتها من بعض المنتجات الزراعية.
لذا فإن كل هذه العوامل رفعت التضخم إلى مستوى مرتفع جديد، وشهدت معظم الدول تأثرًا كبيرًا خاصة في مجال الطاقة، لكن ليس في النفط فقط، فأوروبا مثلًا هي الأكثر تأثرًا بارتفاع أسعار الطاقة بسبب اعتمادها على الغاز الروسي، إذ ارتفعت أسعار الغاز والكهرباء فيها أكثر بكثير مما ارتفعت في الولايات المتحدة. وقد كانت آثار التضخم الناتج عن الحرب الروسية-الأوكرانية على اقتصادات بعض الدول (لا سيما ذات الاقتصادات الناشئة) أكبر بكثير من ارتفاع أسعار المواد الغذائية وحسب».
كيف سيصبح الاقتصاد العالمي بكل هذه المتغيرات
وعند سؤالها عن تنبؤاتها بما ستؤول إليه أوضاع الاقتصاد العالمي بينما تطرأ متغيرات أكثر من المعتاد في دورة اقتصادية واحدة، أجابت:
«بالنظر إلى ما آلت إليه حالة التضخم حاليًا، فإن ما يحدث في أسعار السلع الأساسية من ارتفاع هو بالتأكيد ما يشرح لنا طبيعة الوضع، لكن كما أسلفت مسبقًا، يصعب حاليًا التنبؤ بما سيحدث حتى لأسعار النفط، لقد كان الطلب قويًا جدًا ورأينا بالفعل الكثير من الانضباط من منظمة (أوبك+) فيما يتعلق بأسعار التوريدات النفطية.
لدينا محللون نفطيون عمومًا، وجميع المؤسسات تضع توقعات لأسعار النفط، لكننا نعلم أيضًا أن هذه التوقعات ستتوقف إلى حد كبير على ما يحدث فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، وعليه عمومًا افترضنا في hsbc أن سعر النفط سيستمر في التداول في نطاق 100-110 دولار للبرميل في المستقبل القريب.
ولكن بالطبع توجد سلع أخرى كثيرة يجب أخذها بالحسبان. بالنسبة لأسعار الطاقة نحتاج إلى النظر في أسعار المرافق المنزلية، فالولايات المتحدة مثلًا لم تشهد زيادات كبيرة في أسعار الغاز أو المرافق بحسب الرواية الأوروبية، ولذلك نأخذ أسعار الجملة للغاز على وجه الخصوص، ونفترض استقرار وضع الإمدادات، وبهذا الفرض مجال من عدم اليقين بالنظر إلى الخلفية الجيوسياسية للأحداث. وبعد ذلك بالمثل نأخذ توقعات محللينا لأسعار المواد الغذائية لمجموعة كاملة من السلع الغذائية، لكننا نعلم أننا لا نستطيع إجراء تلك التوقعات بقدر كبير من اليقين بالنتائج، سواء عبرت عن زيادة أخرى أو انخفاض في الأسعار.
وهذا كله يدور حول سعر السلعة بمجملها فقط، أما عند الحديث بالتفاصيل فعلينا أن نتذكر مجموعة كاملة من تكاليف المدخلات للشركات التي ترتفع حاليًا، وسيعتمد الكثيرون على مدى قدرة الشركات على تمريرها بزيادة السعر إلى المستهلك، وهذا بدوره سيعتمد على مدى قوة الطلب.
تعمل بعض الشركات بهوامش كبيرة جدًا (تربح الكثير) وبينما أخرى هوامشها أضيق، ولدينا أمثلة لحالات في أجزاء من أوروبا بدأت فيها بعض الصناعات كثيفة الطاقة (مثل صناعات الورق) بمحاولة تقصير ساعات الإنتاج وقد تصل إلى الأغلاق التام، وذلك لأنها لا تستطيع جعل مبالغ التكاليف مجدية نظرًا لمدى الزيادة السعرية. أما الصناعات الأخرى التي تعتمد على استهلاك الطاقة بحصة أقل بكثير في مدخلاتها، فإنها لا تتعرض لضغوط كبيرة من هذه الناحية.
وفيما يتعلق بأسعار المستهلك وضغط الأجور فيجب مراعاة كثير من الأمور في مسيرة المرور من أسعار المنتجين إلى أسعار المستهلك، وسيعتمد هذا على قوة الطلب في بعض البلدان، فقد شهد العالم في 2021 تضخمًا أقوى بكثير في أسعار المنتجين بينما كان تضخم أسعار المستهلكين (كما في الصين) أبطأ بكثير، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن تأثر المستهلك في آسيا بالتخبطات كان أضعف كثيرًا.
شهدت آسيا انتعاشًا متمثلًا بالتصدير والصناعة أفضل مما كان عليه في الغرب والاقتصادات الناشئة في أمريكا اللاتينية وأوروبا الوسطى والشرقية، ففي جميع هذه الاقتصادات، وخاصة المتقدمة منها، كان المستهلك هو من يقود الانتعاش، وقد سمحت قوة الطلب الاستهلاكي للشركات بنقل هذه الزيادات في الأسعار إلى المستهلكين بسلاسة أكبر.
أما الأجور فتشكل عنصرًا لا نستطيع إغفاله فيما يتعلق بالتضخم، ويتزايد قلق البنوك المركزية بشأن تراكم ضغوطها في مثل هذه المعدلات المرتفعة للتضخم والمخاطر التي قد تستغرق وقتًا طويلًا لتهدأ حتى بعد بلوغها ذروتها. لكن مجددًا، تختلف درجات هذا الخطر من مكان لآخر حول العالم، فمن الواضح مثلًا أن الأجور تنمو باتجاه تصاعدي في بعض الاقتصادات مع إنها ما زالت أقل من التضخم. يكمن الخطر في أن بقاء التضخم مرتفعًا فترة طويلة يزيد احتمالية استمرار نمو الأجور بسرعة، ما قد يسبب دوامة متنامية في أسعار الأجور».
دور البنوك المركزية في التأثير في الاقتصاد العالمي
وفي محاولة للسيطرة على آثار ما يحدث في الاقتصاد العالمي يُطرح السؤال عن دور البنوك المركزية والخيارات السياسية المتاحة لها وأيها قابل للتنفيذ، وهل ستنجح السياسات المطبقة عادةً في الفترات التضخمية العادية بإنتاج حلول في هذه الظروف الاستثنائية، فكان رد جانيت:
«إن السياسة النقدية التي تضعها البنوك المركزية مصممة حقًا للسيطرة على فترات الضعف والقوة الدورية في الاقتصاد، فعندما يكون الطلب ضعيفًا جدًا وبالتأكيد عندما ينخفض التضخم بشدة، فإن ما ستحاول فعله هو تحفيز الطلب بخفض أسعار الفائدة وضخ كميات هائلة من السيولة في الاقتصاد، وهذا ما فعلته بالضبط بعد تأثير الأزمة المالية العالمية وفي بداية الوباء.
لذلك إذا فكرنا في تلك النقاط المنخفضة في أثناء الوباء في أوائل عام 2020 عندما انخفض الطلب تمامًا بسبب هذه القيود الشديدة على جميع الأصعدة، فإن السياسة النقدية حالت دون حدوث أزمة مالية حقيقية وساعدت على دعم الطلب، وسمحت أيضًا للحكومات بالكثير من الاقتراض ودعم الاقتصاد من خلال السياسة المالية، ومن ثم زيادة الإنفاق والتخفيضات الضريبية.
أما الآن فالوضع مختلف تمامًا لأن التضخم ليس مدفوعًا بجانب الطلب فحسب بل بجانب العرض أيضًا. لذلك عند وجود هذه القيود الشديدة على العرض، فإن البنوك المركزية تسأل نفسها: إلى أي حد يجب عليها إبطاء الطلب لكبح مزيد من الارتفاع في التضخم وإعادته باتجاه الانخفاض؟ وهو حقًا سؤال مفتوح ويعني بعبارة أخرى: ما مقدار التضحية في النمو التي يجب دفعها لخفض التضخم؟ ولكن أيضًا، نظرًا للكم الهائل من الشكوك في موضوع العرض الذي تواجهه البنوك المركزية، فإن أكبر مشكلات البنوك المركزية حاليًا هي الحفاظ على مصداقيتها.
علينا أن نتذكر أن توقعات التضخم كانت مثبتة بالفعل عند مستوى 2% خلال فترة 1990 إلى 2020 في معظم الاقتصادات المتقدمة، قبل أن يأتي الوباء وينخفض التضخم انخفاضًا طفيفًا، ثم بدأت البنوك المركزية في التفكير في كيفية إحداث صدمة لتوقعات التضخم بمستوى أعلى قليلًا، على الأقل للعودة إلى مستوى 2%، وربما أعلى بقليل، والآن انعكس الأمر وبدأوا يخافون من مصداقيتهم في الاتجاه الآخر، فكيف سيعيدون تثبيت توقعات التضخم إلى مستوى 2% هذا، حتى لو قبلوا أن تحديات العرض هذه تعني أن الأمر سيستغرق وقتًا أطول إلى حد ما من أجل إعادة هذا التضخم إلى الانخفاض.
لا تستطيع البنوك المركزية فعل الكثير في هذا العالم بخلاف محاولة الحفاظ على مصداقيتها فيما يتعلق باستعدادها لاتخاذ أي إجراء ضروري مطلوب للحفاظ على معدل تضخم منخفض ومستقر نسبيًا».
زيادة أسعار الفائدة وتداعياتها على الاقتصاد العالمي
وعند الاستفسار عن رأيها في سياسة زيادة أسعار الفائدة وتداعياتها على الاقتصاد العالمي، كتباطؤ النمو الاقتصادي الذي تتجنبه معظم دول العالم، وإن كان هذا التباطؤ سيأخذنا الى الركود أو ما هو أسوأ، أجابت:
«حدثت بالفعل بعض حالات الركود في العالم، فبالنظر إلى بعض الاقتصادات الناشئة كالبرازيل مثلًا، نلاحظ انتعاشًا اقتصاديًا قويًا بسبب الوباء، وتاريخيًا كانت دائمًا تميل إلى أن يكون التضخم في اقتصاداتها أعلى قليلًا، وكان لديها انضباط نقدي شديد جدًا حتى في عام 2021، فحتى حينها كانت البرازيل تعاني الركود.
وعند الحديث عن الاقتصادات المتقدمة، فإننا نعلم أن معظم دورات التشديد النقدية التي يفرضها بنك الاحتياطي الفيدرالي تنتهي بالركود. منذ 1960 تقريبًا حدثت 3 عمليات هبوط سهلة للاقتصاد الأمريكي مقابل 8 عمليات هبوط صعبة بعد دورة تشديد بنك الاحتياطي الفيدرالي. لقد اختلف الجدول الزمني وتفاوتت شدة الركود، لذلك لن يكون من غير المعتاد أن تنتهي دورة التشديد النقدية في الواقع بحالة ركود.
لا تبدأ البنوك المركزية دورة تشديد بهدف إحداث ركود بالمطلق، على الأقل ليس منذ عام 1980 تقريبًا، وعندما بدأ التضخم يصبح تحت السيطرة أصبح استخدام سياسة التشديد لإبطاء الطلب قليلًا فقط، مع السماح بفترة من النمو الاقتصادي دون الاتجاه لتلك السياسة، وذلك لئلا يضرب الاقتصاد الإنهاك التام ولإعادة التضخم إلى مستويات أكثر أمانًا، لكنهم في الحقيقة لا ينوون التسبب بهبوط حاد.
إن الصعوبة التي تواجهها البنوك المركزية حاليًا لا تتعلق فقط بما يحدث دوليًا من تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا والتصعيد المستمر للعقوبات، ولكن توجد أيضًا الكثير من الشكوك المتعلقة بالتباطؤ في الصين بسبب استراتيجية (صفر- covid)، لذلك من الصعب جدًا التنبؤ بتوقيت انتهاء الإغلاق التام في الصين وما هو التأثير الذي سيطال الاقتصاد العالمي، وبالأخص سلاسل التوريد والتجارة الدولية.
لكن حتى عندما ينظر صانعو السياسات في الاقتصادات المتقدمة إلى اقتصاداتهم المحلية، فإنهم يعرفون أن هناك ضغطًا شديدًا على الأجور الحقيقية، فلو أخذنا الولايات المتحدة مثلًا حيث بلغ التضخم 8.5% في مارس، فإننا نلاحظ نمو الأجور ما يزال أقل من 6%، وحتى لو اعتبر الاحتياطي الفيدرالي أن ذلك النمو مرتفع، فإن التضخم ما يزال يمثل ضغطًا حقيقيًا على الأجور بنسبة 2.5% أو أكثر، ونعتقد في الواقع أن الضغط على الدخل الحقيقي في المملكة المتحدة سيكون أكثر من 4% هذا العام. أما في منطقة اليورو فقد يكون 2% تقريبًا. في ظل مثل هذه الظروف، وبدون أدنى شك، سنرى ركودًا استهلاكيًا كبيرًا في العالم».
ما أفضل السياسات التي قد تساعد المواطنين في مثل هذا الضغط على تكاليف المعيشة؟
ثم سُئلت بوصفها خبيرة اقتصادية: ما هي أفضل السياسات التي قد تساعد المواطنين في مثل هذا الضغط على تكاليف المعيشة؟ وهل يفي رفع الأجور بالغرض؟ أم أن الحكومات ستتجه للدعم الموجه مستهدفة الطبقات الأكثر تأثرًا؟ وما هي توقعات الخبراء بخصوص الاقتصاد العالمي وتأثره بالأحداث الجارية حول العالم؟ فأجابت:
«تعتمد بعض الاقتصادات ذات الدخل المنخفض على الواردات الغذائية أو الغذاء المدعوم من الحكومة، وبعض حكوماتها لديها بالفعل أوضاع مالية هشة لذا فهي معرضة بشدة للخطر، وكنا قد عانينا بالفعل من تخلف سريلانكا عن سداد ديونها بالعملة الصعبة، وكان ذلك قرارًا سياسيًا اتخذته من أجل تعويض بعض الضغط الذي يعانيه سكانها من تأثير ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وقد نرى بعض الاقتصادات الأخرى ذات الدخل المنخفض تتخذ نهجًا مشابهًا.
وبالانتقال إلى بعض الاقتصادات الأكثر تقدمًا، كمنطقة اليورو مثلًا، رأينا الاقتصادات الفردية تتخذ بالفعل تدابير للحد من تأثير ارتفاع أسعار المرافق، وفي أبريل كانت أسعار النفط العالمية أقل قليلًا مما كانت عليه في مارس، وعليه يجب أن يبدأ ذلك بالفعل بالتأثير في معدلات التضخم ما لم نشهد ارتفاعًا آخر في أسعار النفط، وقد رأينا الإعلان عن بعض الإعانات على تكاليف الوقود على نطاق أوسع للحد من تأثيره في المستهلكين.
أما عن المملكة المتحدة، فأفترض أن الحكومة أرادت في البداية أن تنخفض أسعار النفط والغاز في وقت لاحق من 2022 ولذلك أعلنت في البداية عن برنامج لمساعدة المواطنين لكنه سيتطلب بعض الدعم الأولي لتطبيقه في وقت لاحق من 2022. وبالنظر للخلفية السياسية والجيوسياسية للوضع، والمعدل الحالي لأسعار الغاز بالجملة، قد تجد الحكومة نفسها في الواقع مضطرة للإعلان عن مزيد من الدعم في مواجهة الطلب المتزايد، وذلك لدعم بعض الفئات ذات الدخل المنخفض من السكان، ولكن حاليًا وكما جاء في توقعات بنك إنجلترا، فإن هذه الزيادات الإضافية في أسعار المرافق ستحدث في أكتوبر، لذلك يتوقع بنك إنجلترا أن يرتفع التضخم فوق 10% في غياب أي دعم حكومي إضافي.
بوصفنا خبراء اقتصاديين لا بد لنا من أخذ القرارات السياسية بالحسبان، لكننا لا نتنبؤ بها لدرجة تسمح لنا برؤية تأثيرها المباشر وما سيعنيه ذلك بخصوص تنبؤات الاقتصاد الكلي، في الواقع نستجيب للتطورات السياسية في أثناء حدوثها بالفعل.
وبهذا الصدد يجب التركيز على الكثير في الأشهر المقبلة، فما يحدث فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا سيظل مهمًا وحيويًا عالميًا، وكذلك أي تصعيد إضافي للعقوبات التي تفرضها الاقتصادات الغربية خصوصًا، ومن الواضح أنه يوجد الكثير من عدم اليقين بشأن التخلص التدريجي من الاعتماد على النفط والغاز من جانب الدول الغربية، وفي الواقع قد تؤثر الإجراءات التي تتخذها موسكو أيضًا في الاقتصاد العالمي، سيما إذا أدت إلى اضطراب تام في الغاز والإمدادات في أوروبا، ناهيك طبعًا بما يحدث في الصين جراء الوباء، فلا نستطيع إغفال تأثير هذا في الاقتصاد العالمي، سيما أن الصين هي وجهة الاستيراد الأولى، ومع إن المؤشرات الجيدة تدل على تحسن الوضع تحسنًا طفيفًا، فإن أخذ المتحور الجديد الذي ظهر بالحسبان قد يسيئ الأحوال أكثر مما نعتقد.
عمومًا، بات من الواضح أن كل هذا مهم من منظور السياسة، كما هو الحال بالنسبة لردود الفعل المحلية في الاقتصادات الفردية، ولقد تحدثت بالفعل إلى حد ما عن ضغوط الأجور، وطالما أننا نتعرض لانقطاع العرض وزيادة الأسعار ومن روسيا أساسًا، واضطرابات الإمدادات المحتملة من الصين، فسيظل التضخم مرتفعًا (وليس بالضرورة أن يرتفع إلى مستوى أعلى)، ولكن كلما طالت مدة بقائه عند معدلات مرتفعة جدًا فإنه سيتغذى على معدلات نمو الأجور، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى درجة أكبر من القلق قبل البنوك المركزية، وبقدر ما يرغبون في تحقيق هبوط سلس لمعدل التضخم، فقد يدركون أنه من أجل استعادة مصداقيتهم، قد يحتاجون إلى قبول فترة من الانكماش الاقتصادي، ونوع من الركود، وقد أعلن بنك إنجلترا بالفعل أنه بناءً على توقعات السوق لأسعار سياسته، سيكون لدى المملكة المتحدة نوع من الانكماش المعتدل في عام 2023 وفقًا لتوقعاتها الحالية».
أثر فيروس كوفيد-19 على الاقتصاد العالمي
تضمن حديثها تأثّر الاقتصاد العالمي بآثار فيروس covid-19 والحرب الروسية-الأوكرانية وتداعيات ذلك في جميع أنحاء العالم، وبدأ الحوار بسؤالها عن رأيها في مسألة التضخم وآثاره في الاقتصاد العالمي، فقالت:
«كان التضخم بالفعل في أعلى مستوياته منذ عدة عقود في كثير من الأماكن عندما جاءت صدمة أسعار السلع الأساسية، إذ أدى الانتعاش الأقوى من المتوقع في الطلب العالمي على السلع بسبب مشكلات العرض إلى الكثير من الضغط التصاعدي على أسعار السلع الأساسية، من الطاقة إلى المعادن إلى المنتجات الغذائية. وبأخذ الغزو الروسي لأوكرانيا بالحسبان، والعقوبات المتصاعدة تدريجيًا التي فرضها الغرب عليها، ووجود رغبة بالانتقام من روسيا إلى حدٍ ما، إلى جانب مواجهة الدول الأخرى ارتفاعًا حادًا في أسعار المواد الغذائية، كل ذلك أدى لبدء الدول بالفعل بفرض بعض القيود على صادراتها من بعض المنتجات الزراعية.
لذا فإن كل هذه العوامل رفعت التضخم إلى مستوى مرتفع جديد، وشهدت معظم الدول تأثرًا كبيرًا خاصة في مجال الطاقة، لكن ليس في النفط فقط، فأوروبا مثلًا هي الأكثر تأثرًا بارتفاع أسعار الطاقة بسبب اعتمادها على الغاز الروسي، إذ ارتفعت أسعار الغاز والكهرباء فيها أكثر بكثير مما ارتفعت في الولايات المتحدة. وقد كانت آثار التضخم الناتج عن الحرب الروسية-الأوكرانية على اقتصادات بعض الدول (لا سيما ذات الاقتصادات الناشئة) أكبر بكثير من ارتفاع أسعار المواد الغذائية وحسب».
كيف سيصبح الاقتصاد العالمي بكل هذه المتغيرات
وعند سؤالها عن تنبؤاتها بما ستؤول إليه أوضاع الاقتصاد العالمي بينما تطرأ متغيرات أكثر من المعتاد في دورة اقتصادية واحدة، أجابت:
«بالنظر إلى ما آلت إليه حالة التضخم حاليًا، فإن ما يحدث في أسعار السلع الأساسية من ارتفاع هو بالتأكيد ما يشرح لنا طبيعة الوضع، لكن كما أسلفت مسبقًا، يصعب حاليًا التنبؤ بما سيحدث حتى لأسعار النفط، لقد كان الطلب قويًا جدًا ورأينا بالفعل الكثير من الانضباط من منظمة (أوبك+) فيما يتعلق بأسعار التوريدات النفطية.
لدينا محللون نفطيون عمومًا، وجميع المؤسسات تضع توقعات لأسعار النفط، لكننا نعلم أيضًا أن هذه التوقعات ستتوقف إلى حد كبير على ما يحدث فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، وعليه عمومًا افترضنا في hsbc أن سعر النفط سيستمر في التداول في نطاق 100-110 دولار للبرميل في المستقبل القريب.
ولكن بالطبع توجد سلع أخرى كثيرة يجب أخذها بالحسبان. بالنسبة لأسعار الطاقة نحتاج إلى النظر في أسعار المرافق المنزلية، فالولايات المتحدة مثلًا لم تشهد زيادات كبيرة في أسعار الغاز أو المرافق بحسب الرواية الأوروبية، ولذلك نأخذ أسعار الجملة للغاز على وجه الخصوص، ونفترض استقرار وضع الإمدادات، وبهذا الفرض مجال من عدم اليقين بالنظر إلى الخلفية الجيوسياسية للأحداث. وبعد ذلك بالمثل نأخذ توقعات محللينا لأسعار المواد الغذائية لمجموعة كاملة من السلع الغذائية، لكننا نعلم أننا لا نستطيع إجراء تلك التوقعات بقدر كبير من اليقين بالنتائج، سواء عبرت عن زيادة أخرى أو انخفاض في الأسعار.
وهذا كله يدور حول سعر السلعة بمجملها فقط، أما عند الحديث بالتفاصيل فعلينا أن نتذكر مجموعة كاملة من تكاليف المدخلات للشركات التي ترتفع حاليًا، وسيعتمد الكثيرون على مدى قدرة الشركات على تمريرها بزيادة السعر إلى المستهلك، وهذا بدوره سيعتمد على مدى قوة الطلب.
تعمل بعض الشركات بهوامش كبيرة جدًا (تربح الكثير) وبينما أخرى هوامشها أضيق، ولدينا أمثلة لحالات في أجزاء من أوروبا بدأت فيها بعض الصناعات كثيفة الطاقة (مثل صناعات الورق) بمحاولة تقصير ساعات الإنتاج وقد تصل إلى الأغلاق التام، وذلك لأنها لا تستطيع جعل مبالغ التكاليف مجدية نظرًا لمدى الزيادة السعرية. أما الصناعات الأخرى التي تعتمد على استهلاك الطاقة بحصة أقل بكثير في مدخلاتها، فإنها لا تتعرض لضغوط كبيرة من هذه الناحية.
وفيما يتعلق بأسعار المستهلك وضغط الأجور فيجب مراعاة كثير من الأمور في مسيرة المرور من أسعار المنتجين إلى أسعار المستهلك، وسيعتمد هذا على قوة الطلب في بعض البلدان، فقد شهد العالم في 2021 تضخمًا أقوى بكثير في أسعار المنتجين بينما كان تضخم أسعار المستهلكين (كما في الصين) أبطأ بكثير، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن تأثر المستهلك في آسيا بالتخبطات كان أضعف كثيرًا.
شهدت آسيا انتعاشًا متمثلًا بالتصدير والصناعة أفضل مما كان عليه في الغرب والاقتصادات الناشئة في أمريكا اللاتينية وأوروبا الوسطى والشرقية، ففي جميع هذه الاقتصادات، وخاصة المتقدمة منها، كان المستهلك هو من يقود الانتعاش، وقد سمحت قوة الطلب الاستهلاكي للشركات بنقل هذه الزيادات في الأسعار إلى المستهلكين بسلاسة أكبر.
أما الأجور فتشكل عنصرًا لا نستطيع إغفاله فيما يتعلق بالتضخم، ويتزايد قلق البنوك المركزية بشأن تراكم ضغوطها في مثل هذه المعدلات المرتفعة للتضخم والمخاطر التي قد تستغرق وقتًا طويلًا لتهدأ حتى بعد بلوغها ذروتها. لكن مجددًا، تختلف درجات هذا الخطر من مكان لآخر حول العالم، فمن الواضح مثلًا أن الأجور تنمو باتجاه تصاعدي في بعض الاقتصادات مع إنها ما زالت أقل من التضخم. يكمن الخطر في أن بقاء التضخم مرتفعًا فترة طويلة يزيد احتمالية استمرار نمو الأجور بسرعة، ما قد يسبب دوامة متنامية في أسعار الأجور».
دور البنوك المركزية في التأثير في الاقتصاد العالمي
وفي محاولة للسيطرة على آثار ما يحدث في الاقتصاد العالمي يُطرح السؤال عن دور البنوك المركزية والخيارات السياسية المتاحة لها وأيها قابل للتنفيذ، وهل ستنجح السياسات المطبقة عادةً في الفترات التضخمية العادية بإنتاج حلول في هذه الظروف الاستثنائية، فكان رد جانيت:
«إن السياسة النقدية التي تضعها البنوك المركزية مصممة حقًا للسيطرة على فترات الضعف والقوة الدورية في الاقتصاد، فعندما يكون الطلب ضعيفًا جدًا وبالتأكيد عندما ينخفض التضخم بشدة، فإن ما ستحاول فعله هو تحفيز الطلب بخفض أسعار الفائدة وضخ كميات هائلة من السيولة في الاقتصاد، وهذا ما فعلته بالضبط بعد تأثير الأزمة المالية العالمية وفي بداية الوباء.
لذلك إذا فكرنا في تلك النقاط المنخفضة في أثناء الوباء في أوائل عام 2020 عندما انخفض الطلب تمامًا بسبب هذه القيود الشديدة على جميع الأصعدة، فإن السياسة النقدية حالت دون حدوث أزمة مالية حقيقية وساعدت على دعم الطلب، وسمحت أيضًا للحكومات بالكثير من الاقتراض ودعم الاقتصاد من خلال السياسة المالية، ومن ثم زيادة الإنفاق والتخفيضات الضريبية.
أما الآن فالوضع مختلف تمامًا لأن التضخم ليس مدفوعًا بجانب الطلب فحسب بل بجانب العرض أيضًا. لذلك عند وجود هذه القيود الشديدة على العرض، فإن البنوك المركزية تسأل نفسها: إلى أي حد يجب عليها إبطاء الطلب لكبح مزيد من الارتفاع في التضخم وإعادته باتجاه الانخفاض؟ وهو حقًا سؤال مفتوح ويعني بعبارة أخرى: ما مقدار التضحية في النمو التي يجب دفعها لخفض التضخم؟ ولكن أيضًا، نظرًا للكم الهائل من الشكوك في موضوع العرض الذي تواجهه البنوك المركزية، فإن أكبر مشكلات البنوك المركزية حاليًا هي الحفاظ على مصداقيتها.
علينا أن نتذكر أن توقعات التضخم كانت مثبتة بالفعل عند مستوى 2% خلال فترة 1990 إلى 2020 في معظم الاقتصادات المتقدمة، قبل أن يأتي الوباء وينخفض التضخم انخفاضًا طفيفًا، ثم بدأت البنوك المركزية في التفكير في كيفية إحداث صدمة لتوقعات التضخم بمستوى أعلى قليلًا، على الأقل للعودة إلى مستوى 2%، وربما أعلى بقليل، والآن انعكس الأمر وبدأوا يخافون من مصداقيتهم في الاتجاه الآخر، فكيف سيعيدون تثبيت توقعات التضخم إلى مستوى 2% هذا، حتى لو قبلوا أن تحديات العرض هذه تعني أن الأمر سيستغرق وقتًا أطول إلى حد ما من أجل إعادة هذا التضخم إلى الانخفاض.
لا تستطيع البنوك المركزية فعل الكثير في هذا العالم بخلاف محاولة الحفاظ على مصداقيتها فيما يتعلق باستعدادها لاتخاذ أي إجراء ضروري مطلوب للحفاظ على معدل تضخم منخفض ومستقر نسبيًا».
زيادة أسعار الفائدة وتداعياتها على الاقتصاد العالمي
وعند الاستفسار عن رأيها في سياسة زيادة أسعار الفائدة وتداعياتها على الاقتصاد العالمي، كتباطؤ النمو الاقتصادي الذي تتجنبه معظم دول العالم، وإن كان هذا التباطؤ سيأخذنا الى الركود أو ما هو أسوأ، أجابت:
«حدثت بالفعل بعض حالات الركود في العالم، فبالنظر إلى بعض الاقتصادات الناشئة كالبرازيل مثلًا، نلاحظ انتعاشًا اقتصاديًا قويًا بسبب الوباء، وتاريخيًا كانت دائمًا تميل إلى أن يكون التضخم في اقتصاداتها أعلى قليلًا، وكان لديها انضباط نقدي شديد جدًا حتى في عام 2021، فحتى حينها كانت البرازيل تعاني الركود.
وعند الحديث عن الاقتصادات المتقدمة، فإننا نعلم أن معظم دورات التشديد النقدية التي يفرضها بنك الاحتياطي الفيدرالي تنتهي بالركود. منذ 1960 تقريبًا حدثت 3 عمليات هبوط سهلة للاقتصاد الأمريكي مقابل 8 عمليات هبوط صعبة بعد دورة تشديد بنك الاحتياطي الفيدرالي. لقد اختلف الجدول الزمني وتفاوتت شدة الركود، لذلك لن يكون من غير المعتاد أن تنتهي دورة التشديد النقدية في الواقع بحالة ركود.
لا تبدأ البنوك المركزية دورة تشديد بهدف إحداث ركود بالمطلق، على الأقل ليس منذ عام 1980 تقريبًا، وعندما بدأ التضخم يصبح تحت السيطرة أصبح استخدام سياسة التشديد لإبطاء الطلب قليلًا فقط، مع السماح بفترة من النمو الاقتصادي دون الاتجاه لتلك السياسة، وذلك لئلا يضرب الاقتصاد الإنهاك التام ولإعادة التضخم إلى مستويات أكثر أمانًا، لكنهم في الحقيقة لا ينوون التسبب بهبوط حاد.
إن الصعوبة التي تواجهها البنوك المركزية حاليًا لا تتعلق فقط بما يحدث دوليًا من تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا والتصعيد المستمر للعقوبات، ولكن توجد أيضًا الكثير من الشكوك المتعلقة بالتباطؤ في الصين بسبب استراتيجية (صفر- covid)، لذلك من الصعب جدًا التنبؤ بتوقيت انتهاء الإغلاق التام في الصين وما هو التأثير الذي سيطال الاقتصاد العالمي، وبالأخص سلاسل التوريد والتجارة الدولية.
لكن حتى عندما ينظر صانعو السياسات في الاقتصادات المتقدمة إلى اقتصاداتهم المحلية، فإنهم يعرفون أن هناك ضغطًا شديدًا على الأجور الحقيقية، فلو أخذنا الولايات المتحدة مثلًا حيث بلغ التضخم 8.5% في مارس، فإننا نلاحظ نمو الأجور ما يزال أقل من 6%، وحتى لو اعتبر الاحتياطي الفيدرالي أن ذلك النمو مرتفع، فإن التضخم ما يزال يمثل ضغطًا حقيقيًا على الأجور بنسبة 2.5% أو أكثر، ونعتقد في الواقع أن الضغط على الدخل الحقيقي في المملكة المتحدة سيكون أكثر من 4% هذا العام. أما في منطقة اليورو فقد يكون 2% تقريبًا. في ظل مثل هذه الظروف، وبدون أدنى شك، سنرى ركودًا استهلاكيًا كبيرًا في العالم».
ما أفضل السياسات التي قد تساعد المواطنين في مثل هذا الضغط على تكاليف المعيشة؟
ثم سُئلت بوصفها خبيرة اقتصادية: ما هي أفضل السياسات التي قد تساعد المواطنين في مثل هذا الضغط على تكاليف المعيشة؟ وهل يفي رفع الأجور بالغرض؟ أم أن الحكومات ستتجه للدعم الموجه مستهدفة الطبقات الأكثر تأثرًا؟ وما هي توقعات الخبراء بخصوص الاقتصاد العالمي وتأثره بالأحداث الجارية حول العالم؟ فأجابت:
«تعتمد بعض الاقتصادات ذات الدخل المنخفض على الواردات الغذائية أو الغذاء المدعوم من الحكومة، وبعض حكوماتها لديها بالفعل أوضاع مالية هشة لذا فهي معرضة بشدة للخطر، وكنا قد عانينا بالفعل من تخلف سريلانكا عن سداد ديونها بالعملة الصعبة، وكان ذلك قرارًا سياسيًا اتخذته من أجل تعويض بعض الضغط الذي يعانيه سكانها من تأثير ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وقد نرى بعض الاقتصادات الأخرى ذات الدخل المنخفض تتخذ نهجًا مشابهًا.
وبالانتقال إلى بعض الاقتصادات الأكثر تقدمًا، كمنطقة اليورو مثلًا، رأينا الاقتصادات الفردية تتخذ بالفعل تدابير للحد من تأثير ارتفاع أسعار المرافق، وفي أبريل كانت أسعار النفط العالمية أقل قليلًا مما كانت عليه في مارس، وعليه يجب أن يبدأ ذلك بالفعل بالتأثير في معدلات التضخم ما لم نشهد ارتفاعًا آخر في أسعار النفط، وقد رأينا الإعلان عن بعض الإعانات على تكاليف الوقود على نطاق أوسع للحد من تأثيره في المستهلكين.
أما عن المملكة المتحدة، فأفترض أن الحكومة أرادت في البداية أن تنخفض أسعار النفط والغاز في وقت لاحق من 2022 ولذلك أعلنت في البداية عن برنامج لمساعدة المواطنين لكنه سيتطلب بعض الدعم الأولي لتطبيقه في وقت لاحق من 2022. وبالنظر للخلفية السياسية والجيوسياسية للوضع، والمعدل الحالي لأسعار الغاز بالجملة، قد تجد الحكومة نفسها في الواقع مضطرة للإعلان عن مزيد من الدعم في مواجهة الطلب المتزايد، وذلك لدعم بعض الفئات ذات الدخل المنخفض من السكان، ولكن حاليًا وكما جاء في توقعات بنك إنجلترا، فإن هذه الزيادات الإضافية في أسعار المرافق ستحدث في أكتوبر، لذلك يتوقع بنك إنجلترا أن يرتفع التضخم فوق 10% في غياب أي دعم حكومي إضافي.
بوصفنا خبراء اقتصاديين لا بد لنا من أخذ القرارات السياسية بالحسبان، لكننا لا نتنبؤ بها لدرجة تسمح لنا برؤية تأثيرها المباشر وما سيعنيه ذلك بخصوص تنبؤات الاقتصاد الكلي، في الواقع نستجيب للتطورات السياسية في أثناء حدوثها بالفعل.
وبهذا الصدد يجب التركيز على الكثير في الأشهر المقبلة، فما يحدث فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا سيظل مهمًا وحيويًا عالميًا، وكذلك أي تصعيد إضافي للعقوبات التي تفرضها الاقتصادات الغربية خصوصًا، ومن الواضح أنه يوجد الكثير من عدم اليقين بشأن التخلص التدريجي من الاعتماد على النفط والغاز من جانب الدول الغربية، وفي الواقع قد تؤثر الإجراءات التي تتخذها موسكو أيضًا في الاقتصاد العالمي، سيما إذا أدت إلى اضطراب تام في الغاز والإمدادات في أوروبا، ناهيك طبعًا بما يحدث في الصين جراء الوباء، فلا نستطيع إغفال تأثير هذا في الاقتصاد العالمي، سيما أن الصين هي وجهة الاستيراد الأولى، ومع إن المؤشرات الجيدة تدل على تحسن الوضع تحسنًا طفيفًا، فإن أخذ المتحور الجديد الذي ظهر بالحسبان قد يسيئ الأحوال أكثر مما نعتقد.
عمومًا، بات من الواضح أن كل هذا مهم من منظور السياسة، كما هو الحال بالنسبة لردود الفعل المحلية في الاقتصادات الفردية، ولقد تحدثت بالفعل إلى حد ما عن ضغوط الأجور، وطالما أننا نتعرض لانقطاع العرض وزيادة الأسعار ومن روسيا أساسًا، واضطرابات الإمدادات المحتملة من الصين، فسيظل التضخم مرتفعًا (وليس بالضرورة أن يرتفع إلى مستوى أعلى)، ولكن كلما طالت مدة بقائه عند معدلات مرتفعة جدًا فإنه سيتغذى على معدلات نمو الأجور، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى درجة أكبر من القلق قبل البنوك المركزية، وبقدر ما يرغبون في تحقيق هبوط سلس لمعدل التضخم، فقد يدركون أنه من أجل استعادة مصداقيتهم، قد يحتاجون إلى قبول فترة من الانكماش الاقتصادي، ونوع من الركود، وقد أعلن بنك إنجلترا بالفعل أنه بناءً على توقعات السوق لأسعار سياسته، سيكون لدى المملكة المتحدة نوع من الانكماش المعتدل في عام 2023 وفقًا لتوقعاتها الحالية».