كانت (امانويل) Kant (Immanuel-) - Kant (Immanuel-)
كانْت (إمانويل -)
(1724-1804)
إمانويل كانْت أو (كانط) Immanuel Kant فيلسوف ألماني ومؤسس «المثالية الكلاسيكية الألمانية»، و«المثالية النقدية» أو «المتعالية». ولد في مدينة كونيغسبرغ Königsberg في بروسيا الشرقية (حالياً كالينينغراد Kaliningrad في روسيا) لأسرة من البورجوازية الصغيرة. درس في جامعة كونيغسبرغ، وعمل فيها محاضراً ثم أستاذاً ثم مديراً لها وكان يجيد الإنكليزية والفرنسية. لكنه لم ينل درجة الأستاذية إلا بعد عامه السادس والأربعين، وظل في مدينته إلى أن تقاعد على أثر مرض ألمَّ به عام 1799، مات بعدها بأربع سنوات.كان كانْت أول فيلسوف يقضي حياته مدرساً للفلسفة، وطبعت حياته فلسفته، وجاءت كتاباته مرتبة ومنظمة أكاديمياً، فأثرت في عصره وشطرت الفلسفة الحديثة شطرين، «ماقبل كانْت» و«مابعد كانْت»، وسيطرت فلسفته على القرن التاسع عشر برمته، وكانت نتاجاً أصيلاً لما استقاه من سابقيه. تأثرت فلسفته بتيارين كبيرين من تيارات الفلسفة الأوربية، أحدهما النزعة العقلية، كما صاغها لايبنِتس[ر] Leibniz، وفولف[ر] Wolff وباومغارتن Baumgarten، والتيار الآخر هو النزعة التجريبية التي قرأها عند هيوم[ر] Hume وكان تأثيره شديداً فيه، حتى وصفه أنه «أيقظه من سباته الاعتقادي».
وتنقسم فلسـفة كانْت إلى مرحلتين أسـاسيتين: مرحلة ما قبل 1770 وتسـمى «قبل النقدية»، وما بعد 1770 وتسـمى «النقدية». وكلمة نقدية وضعها كانْت نفسه، إذ وصف فلسـفته الناضجة أنها «مثالية نقدية تقوم على نقد الفلسـفة العقلية». وفيها كتب «نقد العقل الخالص» Kritik der reinen Vernunft عام (1781) «مقدمة لكل ميتافيزيقا مستقبلية» Prolegomena zu einer jeden künftigen Metaphysik عـام (1783)، و«تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق»Grundlegung der Metaphysik der Sitten عـام (1875)، والمبادئ الميتافيزيقية للعلم الطبيعي Metaphysische Anfangsgründe der Naturwissenschaft عـام (1786)، و«نقد العقل العملي»Kritik der praktischen vernunft عام (1788) و«نقد ملكة الحكم» Kritik der Urteilskraft عام (1790) و«الدين في حدود العقل المحض» Die Religion innerhalb der Grenzen der blossen vernunft عام (1793) و«السلام الدائم»Zum ewigen Frieden عام (1795). و«ميتافيزيقا الأخلاق» Metaphysik der Sitten عام (1797) في جزأين، الأول «المبادئ الميتافيزيقية للحق»، والثاني «المبادئ الميتافيزيقية للفضيلة».
ويجمع كانْت في كتابه «نقد العقل النظري» بين النزعة العقلية والتجريبية في مركب واحد، كمحاولة لتبيان قدرة العقل على التفكير في قضايا ما بعد الطبيعة ونسبة الحقيقة في هذا التفكير، عن طريق تبيان حدوده وقدراته، والوقوف عند حقيقة ادعاءاته بمعارف تجاوز الطبيعة. ولم يشك كانْت في المعرفة الرياضية، لكنه شك في المعرفة الميتافيزيقية وفي قدرة العقل على الحصول على هذه المعرفة. ويحسم كانْت هذه المفارقة بمناقشة الأحكام، لأنها أفعال عقلية تتجلى فيها المعرفة الحقة وتحتمل الصدق والكذب ويعتمد عليها العلم، فإذا أمكن تعرف خصائصها والطريقة التي تتألف بها، أمكن قيام ميتافيزيقا علمية، فيميز بين الأحكام التحليلية والأحكام التركيبية. فالأحكام التحليلية يكون محمولها جزءاً من موضوعها كما القول: «الكل أكبر من الجزء». وتعتمد مبدأ عدم التناقض، وهي أحكام مستقلة عن كل خبرة حسّية، فالحكم فيها أولي قبلي وضروري أي صادق أو كاذب بالضرورة من دون حاجة للتجربة، وكلي لا احتمال ولا استثناء فيه، لهذا فهي أحكام تفسيرية لا تفيد في إقامة العلم.أما الأحكام التركيبية: فيزيد محمولها معرفة على موضوعها، لأن المحمول غير متضمن بالموضوع كالقول: «بعض الأجسام ثقيلة»، ويستدل بالتجربة على أن الجسم ثقيل أو خفيف، وهو حكم تركيبي ذاتي، أما القول: «الأجسام تتمدد بالحرارة» فهو حكم تركيبي لكنه موضوعي لأنه يعبر عن علاقة ضرورية بين الموضوع والمحمول، وهو صادق، فهو حكم أولي قبلي مع كونه تركيبياً. وفي اعتقاد كانْت أن الأحكام التركيبية القبلية تتمثل في الأحكام العلمية (الفيزيائية) وفي الأحكام الرياضية، والتركيب في الأولى يقوم على الإدراك الحسي وفي الثانية يقوم على الخيال. أما الأحكام في الميتافيزيقا فهي تركيبية أولية لكن التركيب فيها ظاهري لايعتمد على الحس ولا على الخيال وليست أحكاماً موضوعية ولاتستحق أن تسمى علماً.
ويرى كانْت أن المعرفة العلمية الحقيقية هي المعرفة التي تُقوم بالحس والفهم، أو التي مصدرها الإدراك الحسي والتفكير، أو التي يكون موضوعها الوجود الخارجي، وما يضيفه الفكر من عنده على التجربة. ومهمة النقد معرفة ما يأتي من الخارج، وما يضيفه الفكر عليه، ويسمي كانْت إضافات الفكر صوراً أو إضافات صورية، ويسمي مذهبه بالفلسفة المثالية التصورية، أو المتعالية (الترانسندنتالية transcendental) ويميزها من التصورية المطلقة التي تصف المدركات الحسية بأنها ظواهر، وتجعل العقل حدسياً، بينما الحقيقة عند كانْت في التجربة ومدركات العقل ظواهر، والعقل نفسه صوري ووظيفته معاينة توحيد التجربة.
ويوضح كانْت أن للتفكير قوة الحساسية الصورية، وهي غير الحساسية التجريبية التي تدرك ما يصلها من أحاسيس مصدرها العالم الخارجي كالكيفيات البحتة: اللون، الصلابة، الحرارة. في الزمان والمكان. أي إن الحساسية الصورية تضفي صورتي الزمان والمكان على المدركات الحسية الخارجية، وترتبها ترتيباً مكانياً وزمانياً، فالمكان والزمان[ر] مدركان عقليان قبليان يطبقان في مجال الرياضة وبهما تكون الرياضيات الخالصة ممكنة. وتكون الرياضيات علوماً أولية، فالحساب هو علم الزمان لأن العدد يتكون من آنات الزمان المتعاقبة، والهندسة هي علم المكان، ولو لم يكن الزمان والمكان حدسين خالصين أوليين لكانت المقادير الرياضية تجريبية وكانت قضاياها نسبية وانهارت الرياضيات البحتة.أما دور الفهم الصوري فله مقولاته المختلفة- وهي تصورات أولية خالصة - التي يصيغ بها تلك الإحساسات بدقة أكثر حيث يتعقل الفهم الموضوعات التي يعرضها الحس عليه لكي يجد المقولة التي بوساطتها يربط الظاهرات بعضها ببعض، فلكل ظاهرة سبب وهو ما أطلق عليه مبدأ السببية[ر]، ثم يضع كانْت جدولاً للمقولات مسايراً تصنيف أرسطو لمقولات (الكم والكيف والجهة والإضافة)، ولكل واحدة منها ثلاثة مبادئ تنظمها شبه وحدة مركزية هي وحدة الوعي الإنساني أو(الأنا المتعالية) بوصفها مبدأً منظماً قبلياً للتجربة وشرطاً أساسياً لتنسيق الظاهرات وجمعها في علاقات كلية ضرورية. ويخلص كانْت إلى أنه ليس في الطبيعة مصادفة أو علّية عمياء، وإنما يتوقف كل شيء فيها على شروط ويحدث بضرورة معقولة، ومبادئ الكمية والكيفية رياضية تبرر تطبيق الرياضيات على العلم الطبيعي، ومبادئ الإضافة والجهة تعني الأشياء بعلاقاتها فيما بينها أو بعلاقاتها بالقوى المدركة، فهي مبادئ حركة وتغير تقوم عليها قوانين الطبيعة. ولكي تكون الطبيعة معلومة لابد أن تتطابق مع شروط الفكر، أو بمعنى آخر (الاستنباط الصوري أو الترانسندنتالي)، إن شروط الطبيعة تستنبط من شروط الفكر.
والميتافيزيقا عند كانْت هي العلم الذي يدّعي إدراك موضوعات خارج نطاق التجربة، وليست علماً بالشيء بالذات. ولاتكون علماً إلا بامتلاك حدس عقلي.
ويحلل كانْت الأفعال الأخلاقية فيجد أن صورة الفعل الأخلاقي إنما هي إرادة العمل وفقاً لقانون عام، والإرادة العاقلة التي هي «خيّرة بذاتها» هي المبدأ أو القانون الأخلاقي، فالإنسان إذا احترم عقله، احترم إنسانيته وكان إنساناً طيباً خيراً، فالإرادة العاقلة هي بعينها الإرادة الخيّرة التي تقصد الخير من أجل ذاته، وأفعال الإنسان الصادرة عنها غير مشروطة بغايات أو مقاصد أو شهوات خارجية، والذي يدفع الإنسان لسلوك الإرادة الخيرة، هو صوت الواجب. وأفعال الإنسان تصدر إما عن الشعور بالواجب أو تكون مطابقة للواجب، في الأولى يكون الإنسان بصراع مع نزعاته الطبيعية، أما في الثانية ففعله منزّه عن الأغراض والغايات مما يعطي للواجب معنىً عقلياً، إنها إذاً عاطفة احترام الواجب لذاته، وهي عاطفة أصيلة تدفع المرء في أفعاله لاحترام الواجب كقانون أخلاقي، لايتجه إلى شيء خارج عنه إلا بوصفه قانوناً، لكن الإرادة الإنسانية ناقصة وتخضع لدوافع حسية تعارض القانون الأخلاقي (الواجب) فينقلب الواجب إلى أمر مطلق Katagorischer Imperativ يقيد الإرادة مباشرة من دون قيد أو شرط، ويستحيل إلى ضرورة كلية عامة يصبح معها الفعل الأخلاقي قاعدةً عامة لجميع البشر، وهذا مضمون قول كانْت «اعمل دائماً بحيث يكون فعلك قانوناً كلياً»، وعندها يتحرر الفعل من الدوافع والرغبات والميول الذاتية ويصبح كلياً. وإذا كان هناك ثمة غاية للفعل الإنساني، وليس فقط قوة العمل بناءً على تصور القانون، عندها ستكون غاية يضعها العقل وحده ولا ترجع إلى شيء خارجي، وستكون الإرادة هي المشرِّع الوحيد والكلي للقانون الأخلاقي بالعودة إلى العقل وحده. فالواجب ليس ممكناً إلا بالحرية لأنه إذا كان على الإنسان واجب لابد من أن تكون له القدرة على أدائه، والقانون لا يعمل إلا بالنسبة إلى كائن حر فالقانون علّة الحرية، والحرية علّة وجود القانون. ويجب أن يفعل الإنسان الخير، لكن هناك الخير الخلقي هو إرادة العمل وفقاً للواجب، والخير الطبيعي القائم على الميول الحسية، ومنهما يتركب الخير الأسمى وهو مركب من الفضيلة والسعادة، وهما معنيان متغايران: فالفضيلة معنى عقلي وهي كلية ترجع إلى القانون الأخلاقي، وللسعادة معنى حسي جزئي، ولكي يتحقق الخير الأعظم لابد من التسليم بعالم علوي وفاعل تتحد فيه الفضيلة والسعادة وهو الله، فوجود الله ضروري يستلزمه العقل العملي (الأخلاق) عندما عجز العقل النظري عن البرهنة عليه، فالحرية والله والخلود مسلمات عملية ومن ثمّ عقائد لا شخصية. وإذا كان الواجب صادراً ليس فقط عن العقل بل أيضاً عن الله، عندها يكون الدين قائماً على الأخلاق التي مصدرها العقل وليس الدين هو المفضي إلى الأخلاق.
لقد أثر المذهب الكانْتي (الكانطي) تأثيراً كبيراً في التطور اللاحق للفكر الفلسفي والعلمي، خاصة في المثالية الألمانية «الكانْتية الجديدة» Neo-Kantism التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحت شعار «العودة إلى كانْت»، والتي مثلتها أكبر مدرستين ألمانيتين هما: مدرسة ماربورغ Marburg، ومدرسة فرايبورغ Freiburg أو بادن Baden [ر:الفلسفة الألمانية].
سوسان إلياس
كانْت (إمانويل -)
(1724-1804)
إمانويل كانْت أو (كانط) Immanuel Kant فيلسوف ألماني ومؤسس «المثالية الكلاسيكية الألمانية»، و«المثالية النقدية» أو «المتعالية». ولد في مدينة كونيغسبرغ Königsberg في بروسيا الشرقية (حالياً كالينينغراد Kaliningrad في روسيا) لأسرة من البورجوازية الصغيرة. درس في جامعة كونيغسبرغ، وعمل فيها محاضراً ثم أستاذاً ثم مديراً لها وكان يجيد الإنكليزية والفرنسية. لكنه لم ينل درجة الأستاذية إلا بعد عامه السادس والأربعين، وظل في مدينته إلى أن تقاعد على أثر مرض ألمَّ به عام 1799، مات بعدها بأربع سنوات.كان كانْت أول فيلسوف يقضي حياته مدرساً للفلسفة، وطبعت حياته فلسفته، وجاءت كتاباته مرتبة ومنظمة أكاديمياً، فأثرت في عصره وشطرت الفلسفة الحديثة شطرين، «ماقبل كانْت» و«مابعد كانْت»، وسيطرت فلسفته على القرن التاسع عشر برمته، وكانت نتاجاً أصيلاً لما استقاه من سابقيه. تأثرت فلسفته بتيارين كبيرين من تيارات الفلسفة الأوربية، أحدهما النزعة العقلية، كما صاغها لايبنِتس[ر] Leibniz، وفولف[ر] Wolff وباومغارتن Baumgarten، والتيار الآخر هو النزعة التجريبية التي قرأها عند هيوم[ر] Hume وكان تأثيره شديداً فيه، حتى وصفه أنه «أيقظه من سباته الاعتقادي».
وتنقسم فلسـفة كانْت إلى مرحلتين أسـاسيتين: مرحلة ما قبل 1770 وتسـمى «قبل النقدية»، وما بعد 1770 وتسـمى «النقدية». وكلمة نقدية وضعها كانْت نفسه، إذ وصف فلسـفته الناضجة أنها «مثالية نقدية تقوم على نقد الفلسـفة العقلية». وفيها كتب «نقد العقل الخالص» Kritik der reinen Vernunft عام (1781) «مقدمة لكل ميتافيزيقا مستقبلية» Prolegomena zu einer jeden künftigen Metaphysik عـام (1783)، و«تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق»Grundlegung der Metaphysik der Sitten عـام (1875)، والمبادئ الميتافيزيقية للعلم الطبيعي Metaphysische Anfangsgründe der Naturwissenschaft عـام (1786)، و«نقد العقل العملي»Kritik der praktischen vernunft عام (1788) و«نقد ملكة الحكم» Kritik der Urteilskraft عام (1790) و«الدين في حدود العقل المحض» Die Religion innerhalb der Grenzen der blossen vernunft عام (1793) و«السلام الدائم»Zum ewigen Frieden عام (1795). و«ميتافيزيقا الأخلاق» Metaphysik der Sitten عام (1797) في جزأين، الأول «المبادئ الميتافيزيقية للحق»، والثاني «المبادئ الميتافيزيقية للفضيلة».
ويجمع كانْت في كتابه «نقد العقل النظري» بين النزعة العقلية والتجريبية في مركب واحد، كمحاولة لتبيان قدرة العقل على التفكير في قضايا ما بعد الطبيعة ونسبة الحقيقة في هذا التفكير، عن طريق تبيان حدوده وقدراته، والوقوف عند حقيقة ادعاءاته بمعارف تجاوز الطبيعة. ولم يشك كانْت في المعرفة الرياضية، لكنه شك في المعرفة الميتافيزيقية وفي قدرة العقل على الحصول على هذه المعرفة. ويحسم كانْت هذه المفارقة بمناقشة الأحكام، لأنها أفعال عقلية تتجلى فيها المعرفة الحقة وتحتمل الصدق والكذب ويعتمد عليها العلم، فإذا أمكن تعرف خصائصها والطريقة التي تتألف بها، أمكن قيام ميتافيزيقا علمية، فيميز بين الأحكام التحليلية والأحكام التركيبية. فالأحكام التحليلية يكون محمولها جزءاً من موضوعها كما القول: «الكل أكبر من الجزء». وتعتمد مبدأ عدم التناقض، وهي أحكام مستقلة عن كل خبرة حسّية، فالحكم فيها أولي قبلي وضروري أي صادق أو كاذب بالضرورة من دون حاجة للتجربة، وكلي لا احتمال ولا استثناء فيه، لهذا فهي أحكام تفسيرية لا تفيد في إقامة العلم.أما الأحكام التركيبية: فيزيد محمولها معرفة على موضوعها، لأن المحمول غير متضمن بالموضوع كالقول: «بعض الأجسام ثقيلة»، ويستدل بالتجربة على أن الجسم ثقيل أو خفيف، وهو حكم تركيبي ذاتي، أما القول: «الأجسام تتمدد بالحرارة» فهو حكم تركيبي لكنه موضوعي لأنه يعبر عن علاقة ضرورية بين الموضوع والمحمول، وهو صادق، فهو حكم أولي قبلي مع كونه تركيبياً. وفي اعتقاد كانْت أن الأحكام التركيبية القبلية تتمثل في الأحكام العلمية (الفيزيائية) وفي الأحكام الرياضية، والتركيب في الأولى يقوم على الإدراك الحسي وفي الثانية يقوم على الخيال. أما الأحكام في الميتافيزيقا فهي تركيبية أولية لكن التركيب فيها ظاهري لايعتمد على الحس ولا على الخيال وليست أحكاماً موضوعية ولاتستحق أن تسمى علماً.
ويرى كانْت أن المعرفة العلمية الحقيقية هي المعرفة التي تُقوم بالحس والفهم، أو التي مصدرها الإدراك الحسي والتفكير، أو التي يكون موضوعها الوجود الخارجي، وما يضيفه الفكر من عنده على التجربة. ومهمة النقد معرفة ما يأتي من الخارج، وما يضيفه الفكر عليه، ويسمي كانْت إضافات الفكر صوراً أو إضافات صورية، ويسمي مذهبه بالفلسفة المثالية التصورية، أو المتعالية (الترانسندنتالية transcendental) ويميزها من التصورية المطلقة التي تصف المدركات الحسية بأنها ظواهر، وتجعل العقل حدسياً، بينما الحقيقة عند كانْت في التجربة ومدركات العقل ظواهر، والعقل نفسه صوري ووظيفته معاينة توحيد التجربة.
ويوضح كانْت أن للتفكير قوة الحساسية الصورية، وهي غير الحساسية التجريبية التي تدرك ما يصلها من أحاسيس مصدرها العالم الخارجي كالكيفيات البحتة: اللون، الصلابة، الحرارة. في الزمان والمكان. أي إن الحساسية الصورية تضفي صورتي الزمان والمكان على المدركات الحسية الخارجية، وترتبها ترتيباً مكانياً وزمانياً، فالمكان والزمان[ر] مدركان عقليان قبليان يطبقان في مجال الرياضة وبهما تكون الرياضيات الخالصة ممكنة. وتكون الرياضيات علوماً أولية، فالحساب هو علم الزمان لأن العدد يتكون من آنات الزمان المتعاقبة، والهندسة هي علم المكان، ولو لم يكن الزمان والمكان حدسين خالصين أوليين لكانت المقادير الرياضية تجريبية وكانت قضاياها نسبية وانهارت الرياضيات البحتة.أما دور الفهم الصوري فله مقولاته المختلفة- وهي تصورات أولية خالصة - التي يصيغ بها تلك الإحساسات بدقة أكثر حيث يتعقل الفهم الموضوعات التي يعرضها الحس عليه لكي يجد المقولة التي بوساطتها يربط الظاهرات بعضها ببعض، فلكل ظاهرة سبب وهو ما أطلق عليه مبدأ السببية[ر]، ثم يضع كانْت جدولاً للمقولات مسايراً تصنيف أرسطو لمقولات (الكم والكيف والجهة والإضافة)، ولكل واحدة منها ثلاثة مبادئ تنظمها شبه وحدة مركزية هي وحدة الوعي الإنساني أو(الأنا المتعالية) بوصفها مبدأً منظماً قبلياً للتجربة وشرطاً أساسياً لتنسيق الظاهرات وجمعها في علاقات كلية ضرورية. ويخلص كانْت إلى أنه ليس في الطبيعة مصادفة أو علّية عمياء، وإنما يتوقف كل شيء فيها على شروط ويحدث بضرورة معقولة، ومبادئ الكمية والكيفية رياضية تبرر تطبيق الرياضيات على العلم الطبيعي، ومبادئ الإضافة والجهة تعني الأشياء بعلاقاتها فيما بينها أو بعلاقاتها بالقوى المدركة، فهي مبادئ حركة وتغير تقوم عليها قوانين الطبيعة. ولكي تكون الطبيعة معلومة لابد أن تتطابق مع شروط الفكر، أو بمعنى آخر (الاستنباط الصوري أو الترانسندنتالي)، إن شروط الطبيعة تستنبط من شروط الفكر.
والميتافيزيقا عند كانْت هي العلم الذي يدّعي إدراك موضوعات خارج نطاق التجربة، وليست علماً بالشيء بالذات. ولاتكون علماً إلا بامتلاك حدس عقلي.
ويحلل كانْت الأفعال الأخلاقية فيجد أن صورة الفعل الأخلاقي إنما هي إرادة العمل وفقاً لقانون عام، والإرادة العاقلة التي هي «خيّرة بذاتها» هي المبدأ أو القانون الأخلاقي، فالإنسان إذا احترم عقله، احترم إنسانيته وكان إنساناً طيباً خيراً، فالإرادة العاقلة هي بعينها الإرادة الخيّرة التي تقصد الخير من أجل ذاته، وأفعال الإنسان الصادرة عنها غير مشروطة بغايات أو مقاصد أو شهوات خارجية، والذي يدفع الإنسان لسلوك الإرادة الخيرة، هو صوت الواجب. وأفعال الإنسان تصدر إما عن الشعور بالواجب أو تكون مطابقة للواجب، في الأولى يكون الإنسان بصراع مع نزعاته الطبيعية، أما في الثانية ففعله منزّه عن الأغراض والغايات مما يعطي للواجب معنىً عقلياً، إنها إذاً عاطفة احترام الواجب لذاته، وهي عاطفة أصيلة تدفع المرء في أفعاله لاحترام الواجب كقانون أخلاقي، لايتجه إلى شيء خارج عنه إلا بوصفه قانوناً، لكن الإرادة الإنسانية ناقصة وتخضع لدوافع حسية تعارض القانون الأخلاقي (الواجب) فينقلب الواجب إلى أمر مطلق Katagorischer Imperativ يقيد الإرادة مباشرة من دون قيد أو شرط، ويستحيل إلى ضرورة كلية عامة يصبح معها الفعل الأخلاقي قاعدةً عامة لجميع البشر، وهذا مضمون قول كانْت «اعمل دائماً بحيث يكون فعلك قانوناً كلياً»، وعندها يتحرر الفعل من الدوافع والرغبات والميول الذاتية ويصبح كلياً. وإذا كان هناك ثمة غاية للفعل الإنساني، وليس فقط قوة العمل بناءً على تصور القانون، عندها ستكون غاية يضعها العقل وحده ولا ترجع إلى شيء خارجي، وستكون الإرادة هي المشرِّع الوحيد والكلي للقانون الأخلاقي بالعودة إلى العقل وحده. فالواجب ليس ممكناً إلا بالحرية لأنه إذا كان على الإنسان واجب لابد من أن تكون له القدرة على أدائه، والقانون لا يعمل إلا بالنسبة إلى كائن حر فالقانون علّة الحرية، والحرية علّة وجود القانون. ويجب أن يفعل الإنسان الخير، لكن هناك الخير الخلقي هو إرادة العمل وفقاً للواجب، والخير الطبيعي القائم على الميول الحسية، ومنهما يتركب الخير الأسمى وهو مركب من الفضيلة والسعادة، وهما معنيان متغايران: فالفضيلة معنى عقلي وهي كلية ترجع إلى القانون الأخلاقي، وللسعادة معنى حسي جزئي، ولكي يتحقق الخير الأعظم لابد من التسليم بعالم علوي وفاعل تتحد فيه الفضيلة والسعادة وهو الله، فوجود الله ضروري يستلزمه العقل العملي (الأخلاق) عندما عجز العقل النظري عن البرهنة عليه، فالحرية والله والخلود مسلمات عملية ومن ثمّ عقائد لا شخصية. وإذا كان الواجب صادراً ليس فقط عن العقل بل أيضاً عن الله، عندها يكون الدين قائماً على الأخلاق التي مصدرها العقل وليس الدين هو المفضي إلى الأخلاق.
لقد أثر المذهب الكانْتي (الكانطي) تأثيراً كبيراً في التطور اللاحق للفكر الفلسفي والعلمي، خاصة في المثالية الألمانية «الكانْتية الجديدة» Neo-Kantism التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحت شعار «العودة إلى كانْت»، والتي مثلتها أكبر مدرستين ألمانيتين هما: مدرسة ماربورغ Marburg، ومدرسة فرايبورغ Freiburg أو بادن Baden [ر:الفلسفة الألمانية].
سوسان إلياس