امادو سيكو (احمد شيخ)
Amadu Seku (Ahmadu Shaykhu-) - Amadu Seku (Ahmadu Shaykhu-)
أمادوسيكو (أحمد الشيخ ـ(
(1250 ـ 1316هـ/1834 ـ 1898م(
أمادوسيكو، أو أحمد الشيخ، سلطان التكرور المسلمين في السودان الغربي ويعرف كذلك في بلده الأصلي «فوتاثورو» (في الوادي الأدنى لنهر السنغال) باسم أحمدو شيخو وأحمدو العربي ويجب ألا يلتبس اسمه باسم «الشيخ أحمد» زعيم شعب الفولاني (الفلة) المسلمين، الذي أسس دولة «الدنيا» في المنطقة ذاتها، في مطلع القرن التاسع عشر، وجعل مركزها «ماسينة» في وادي نهر النيجر، وأنشأ فيها مدينة إسلامية جديدة هي «حمد الله».
خلف أحمد الشيخ والده العالم والمجاهد الحاج عمر بن سعيد بن عثمان التل (1212- 1280هـ/1797- 1864م) مؤسس الدولة التيجانية في السودان الغربي، بعد حركة جهاد طويلة قادها في قتال الوثنيين ومن لم يصح إسلامهم، إضافة إلى قتال المستعمرين الفرنسيين، وفرض الطريقة التيجانية على المناطق التي سيطر عليها.
ولد أحمد الشيخ في مدينة سكوتو Sokoto من بلاد الحوصَّة (الهوسا) إذ كان والده زائراً فيها، ولا يعرف كثير عن حياته قبل أن يسلمه والده ولاية العهد عام 1279هـ/1862م ويسميه «خليفة الطريقة التيجانية في السودان» ولكن لا بد أن يكون، ما دام أبوه ذلك العالم والمجاهد، قد تربى في طفولته وشبابه تربية إسلامية قويمة، وتلقى ثقافة دينية قيّمة، إضافة إلى تعاليم الطريقة التيجانية.
وكان يعرف العربية ويكتب بها. ولا بد أنه قد شارك أباه أيضاً فتوحاته وجهاده، منذ أن أعلن الحاج عمر الجهاد على الوثنيين والمستعمرين الفرنسيين. وقد ترك له والده عام 1279هـ/1862م، قبل أن يتوجه لفتح «ماسينة» مقر دولة الفولاني المسلمين، حكم مملكة «بمبرة ـ سيغو» بعد أن أخضعها لسلطانه، ولما استشهد الحاج عمر في أحوال غامضة عام 1281هـ/1864م محاصراً في مدينة «حمد الله»، أصبح أحمد الشيخ رأس الدولة، التي خلّفها له والده، ولمّا تدعم جنباتها، أو تنظم أمورها. وكانت تزيد مساحتها على ربع مليون من الكيلومترات المربعة؛ ويحدها شمالاً منطقتا «الحوض» و«السهل»، وغرباً الضفة اليمنى لنهر السنغال، وجنوباً أودية روافد نهر السنغال: بافينغ Bafing وباخوي Bakhoy وباوله Baoule. ومن الشرق وادي نهر النيجر الأعلى وجزء من واديه الأوسط حتى جنوب مدينة تمبكتو وفيه من المدن المهمة والمناطق سيغو Segu وماسينة Macina.
كان أحمد الشيخ كما وصفه أحد المفاوضين الفرنسيين، يتلكأ في كلامه قليلاً، ويتحدث بصوت منخفض ولطيف، وكان مهيب الهيئة ويحمل دائماً سبحة في يده، وعصا طويلة مزينة بالجلد، تحوي سيفاً، ورثها عن أبيه، كما كان يتمنطق بخنجر.
ومع مهابة أحمد الشيخ، ولقب الشيخ الذي حمله، كان لا يطلق إلا على كبار المثقفين في الدين الإسلامي في السودان، فإنه لم يكن له في نفوس كبار التكرور تلك الهيبة الدينية، والتأثير اللذان كانا لوالده.
وقد وجد أحمد الشيخ في أثناء حكمه، الذي دام أربعاً وثلاثين سنة، صعوبات كثيرة في تنظيم الدولة التي ورثها، وفي إدارتها، والحفاظ عليها وعلى وحدتها. فقد اصطدم بقوى معادية، كثيرة ومتنوعة، أفقدته في النهاية تلك الدولة. ويمكن إجمال تلك الصعاب في الأمور الآتية:
ـ تمرد بعض الشعوب في دولته على حكمه: فقد ضمت شعوباً قبلية مختلفة فيما بينها عنصراً ولغةً وديناً ونمط حياة، ناهيك عن اختلافها عن الشعب الحاكم لها الممثل بالتكرور المسلمين، الذين لم يكن عددهم يزيد على خمسين ألفاً. بل إن المسلمين أنفسهم من شعوب تلك الامبراطورية كانوا في تنافس فيما بينهم على السلطة والنفوذ، وعلى الطريقة الصوفية التي تبعها كل فريق، ولاسيما ذلك التنافس بين الطريقة القادرية المنتشرة بين قبائل الفولاني المسلمين في ماسينة والطريقة التيجانية التي عمل الحاج عمر على فرضها في المناطق المفتوحة. وأبرز هذه الشعوب المتمردة البَمْبَرة Bambara، الذين كانوا قد استوطنوا المجرى الأعلى لنهر النيجر. فهؤلاء بعد أن خضعوا لدولة صنغاي المسلمة في القرن الحادي عشر للهجرة/ السابع عشر للميلاد، تمكنوا من إنشاء دولة لهم في القرن الثاني عشر للهجرة/الثامن عشر للميلاد، وهي دولة سيغو، ومدت نفوذها على ماسينة وتمبكتو ونيورو وكرته. وكانوا يدينون بالوثنية، وقلة منهم كانت مسلمة، وقد تظاهر بعض حكامهم بالإسلام إلا أن إسلامهم كان مزيجاً من الإسلام والوثنية. وكان الحاج عمر قد حاربهم وقضى على مملكتهم وسيطر على مدنهم، ونشر الإسلام بين صفوفهم. إلا أنهم ثاروا على سلطانه، وبعد وفاته انقلبوا على ابنه أحمد الشيخ في عدة أماكن ومع أن هذا قمع تحركاتهم بعون من إخوته بين عامي 1287-1291هـ/1870- 1874م وأعلن إثر ذلك اتخاذه لقب «أمير المؤمنين» دعماً لسلطته الدينية، فإن البمبرة لم ينفكوا عن إقلاق الدولة والتحالف مع أعدائها.
ومن الشعوب التي لم تكن راضية أيضاً الفولاني المسلمون في ماسينة، فثاروا على الحاج عمر نفسه، وقتل في إحدى معاركه معهم. إلا أن تيجاني ابن عم أحمد الشيخ قضى على ثورتهم بعنف عام 1280هـ/1864م، وانتقم لعمه انتقاماً شديداً، وغدا هو الحاكم المستأثر بالسلطة فيها حتى 1305هـ/1887م.
ـ تفكك وحدة الدولة بين أفراد أسرة أحمد الشيخ: فإخوته الكثر كانوا، في الواقع، مستقلين في المقاطعات والمدن التي كانوا على رأسها على الرغم من اعترافهم المبدئي بسلطانه. وقد ثار عليه بعضهم فعلاً، وتآمر مع كبار أعيان التكرور، الذين كانوا يرغبون في التمتع بثمرات الفتح بعد الجهاد الطويل، بدل الدخول في حروب جديدة. ومن هؤلاء الإخوة حبيب الذي كان يحكم دِنْغِرْه Dinguiray، ومختار في كونيا كري Konia Kri، ثم هناك مصطفى عبد الحاج عمر في نيورو Nioro. ولكي يحفظ أحمد الشيخ للدولة وحدتها، اضطر إلى أن يخوض حرباً مستمرة، وتمكن بعد لأي من قمع تلك الثورات، وسجن أخويه لسبع سنوات في سيغو العاصمة، حتى حضرتهما الوفاة عام 1296هـ/1879م. وإذا كان قد استطاع النجاح في مهمته في مطلع حكمه، فإنه أخفق في أواخره، عندما بدأ صراعه مع الفرنسيين فقد تمكن أحد أخوته وهو «عجيبو» من عقد صلات طيبة مع الفرنسيين وتحالف معهم. وكان من ثمار ذلك التحالف، أن عينته فرنسة بعد سقوط أخيه عام 1311هـ/1893م حاكماً لماسينة وتوجته ملكاً عليها.
ـ ضعف اقتصاد الدولة وشح مواردها: فالإنتاج الرئيسي فيها كان الصمغ ويليه الفول السوداني والعاج وريش النعام والعبيد وبعض الذهب. وكان تعدد الشعوب واختلاف لغاتها، وتعقد النظام النقدي في الدولة، سبباً في ضعف المبادلات التجارية، ناهيك عن الحرب المستمرة وقد أدى هذا، إلى نقص وارد الدولة من مختلف الضرائب والرسوم، وخاصة أن كل مدينة كانت تعمل للاحتفاظ بواردها لنفسها.
ـ الافتقار إلى جيش قوي: يستطيع به أحمد الشيخ أن يسيطر على أنحاء الدولة التي كانت تعوزها الوحدة الجغرافية، ويرهب به أعداءه الداخليين والخارجيين. فقد كان جيشه من فئتين: «الطَلْبة»، وهي مؤلفة من مريدي الحاج عمر قبلاً أو طلبته. وأفرادها من التكرور المسلمين الذين جاهدوا معه بحماسة واندفاع، و«الصوفا» وهي من أسرى الأقوام الآخرين، وكثير منهم من البمبرة الوثنيين. أما الفئة الأولى فقد مالت إلى حياة الدعة بعد أن استقرت على الأرض مع أسرها، ونعمت بالغنائم التي حصلت عليها. وكانت طبقة مميزة، ومعفاة من الضرائب. وقد أظهرت مع الزمن نفوراً من القتال، لأنه يبعدها عن قراها وأسرها، أضف إلى ذلك قطع فرنسة طريق هجرة التكرور من «فوتو ثورو» موطنهم إلى عاصمة الدولة «سيغو» فنقص عددهم في الجيش، حتى لم يجد أحمد الشيخ منهم عام 1297هـ/1880م أكثر من ستة آلاف. ومن ثم كان عليه أن يعتمد في جيشه على «الصوفا»، وهم من الشعوب الأخرى غير التكرور التي لم تكن لها صلات طيبة بالدولة.
ويضاف إلى ما ذكر أن الجيش كان ينقصه الخيل للفرسان، والمدفعية والبنادق، وما كان أمام أحمد الشيخ إلا أن يسعى للحصول على السلاح من فرنسة أو إنكلترة، اللتين شرعتا بتثبيت أقدامهما في الغرب الإفريقي، وما كانتا مستعدتين مبدئياً للاستجابة لطلبه إلا بثمن باهظ من امتيازات تجارية أو مغانم أرضية. ولهذا كان جمع أحمد الشيخ لجيشه في أثناء المهمات الجريئة المستعجلة بطيئاً وصعباً. ومع كل تلك العقبات فإن هذا الجيش أبلى في مقاومة الفرنسيين بلاءً حسناً، ولاسيما في حصار المدن وإن لم يحقق النصر المنشود.
ـ ظهور منافسين لأحمد الشيخ من الزعماء المسلمين في المنطقة ذاتها أو ما يجاورها: وأبرزهم الحاج محمد الأمين ، وساموري تور Samory Taure وقد ظهر ساموري في «كانكان» في المجرى الأعلى لنهر النيجر، وتقدم شمالاً وهدد دولة أحمد الشيخ، إلا أنه اصطدم مع الفرنسيين الذين كانوا يتقدمون هم أيضاً في أرضه. وبعد حقبة سلام معهم، عاد فدخل في حرب طويلة، ولم يفلح التحالف الذي سعى إليه أحمد الشيخ وساموري.
ـ الاستعمار الفرنسي للسودان الغربي: فقد خرجت فرنسة في القرن التاسع عشر من مدينة سان لويس St.Louis في السنغال التي كانت قد احتلتها منذ 1638م، لتتقدم نحو الشرق باتجاه وادي نهر السنغال، وعملت على أن تستعمر البلاد تدريجياً بشتى الوسائل. وكان همها أن تصل إلى نهر النيجر، قبل أن تسبقها إليه إنكلترة، وأن تمد خطاً حديدياً عبر الصحراء، وتستفيد من خيرات السودان. واصطدمت في أثناء تقدمها بالحاج عمر الذي أعلن الجهاد عليها عام 1271هـ/1854م، وقاومها بشدة، وهاجم حصونها. فسعت لعقد معاهدة معه عام 1860م، تجعل الحدود بينهما نهر السنغال، لكن المعاهدة لم توقع. وتابعت فرنسة خطتها في احتلال المنطقة سلمياً مع ابنه أحمد الشيخ، ولم يعمد هذا إلى محاربتها لأنه هو الآخر كان يريد السلام ليعيد لدولته وحدتها، وينظم شؤونها وجرت مفاوضات بين الطرفين ثلاث مرات لعقد معاهدة تسهل لفرنسة سبل التجارة، وتحدد فيها مناطق نفوذ كل منهما. وكان ذلك عام 1866 و1880 و1887م. لكنها لم تسفر عن عقد معاهدة، لأن فرنسة كانت تريد المزيد من الامتيازات. وقررت أخيراً في الربع الأخير من القرن التاسع عشر القضاء على دولة التكرور عسكرياً والتخلص من حاكمها أحمد الشيخ. وقد ابتدأت العلاقات تسوء بين الطرفين عام 1870م. ولكن أحمد الشيخ لم يجابه فرنسة حربياً إلا عندما هاجم القائد الفرنسي أرشينار مدينة سيغو عام 1880م. وكان أحمد الشيخ قد انتقل منها إلى نيورو التي انتزعها من أخيه مُنْطقة، وترك ابنه مدني في سيغو التي سقطت بيد الفرنسيين في نيسان 1890م، وتوالى سقوط المدن وحاول أحمد الشيخ استرداد بعضها بالتعاون مع بعض أخوته الذين بقوا مخلصين له، ولكنه لم يفلح، واتضح ضعف جيشه حين هوجم في نيورو أمام الجيش الفرنسي المزود بالمدفعية، والبنادق الحديثة. ولما لم يستسلم، هددته فرنسة ببعثرة زوجاته وأولاده في أنحاء إفريقية ونفذت ما هددت به. فاتجه هو وبعض جنده المخلصين شرقاً نحو دوينتزه Douentza في مالي على بعد 100كم من بندياغارة Bandiagara إلا أنه اضطر إلى الالتجاء إلى ملك سكوتو في بلاد الحوصة حيث توفي في المدينة التي ولد فيها، ولم تبق فرنسة على أخيه عجيبو طويلاً في حكم ماسينة، إذ سلبت منه سلطاته عام 1321هـ/1902م، واستغنت عن خدماته وبذلك سقطت دولة التكرور.
ليلى الصباغ
Amadu Seku (Ahmadu Shaykhu-) - Amadu Seku (Ahmadu Shaykhu-)
أمادوسيكو (أحمد الشيخ ـ(
(1250 ـ 1316هـ/1834 ـ 1898م(
أمادوسيكو، أو أحمد الشيخ، سلطان التكرور المسلمين في السودان الغربي ويعرف كذلك في بلده الأصلي «فوتاثورو» (في الوادي الأدنى لنهر السنغال) باسم أحمدو شيخو وأحمدو العربي ويجب ألا يلتبس اسمه باسم «الشيخ أحمد» زعيم شعب الفولاني (الفلة) المسلمين، الذي أسس دولة «الدنيا» في المنطقة ذاتها، في مطلع القرن التاسع عشر، وجعل مركزها «ماسينة» في وادي نهر النيجر، وأنشأ فيها مدينة إسلامية جديدة هي «حمد الله».
خلف أحمد الشيخ والده العالم والمجاهد الحاج عمر بن سعيد بن عثمان التل (1212- 1280هـ/1797- 1864م) مؤسس الدولة التيجانية في السودان الغربي، بعد حركة جهاد طويلة قادها في قتال الوثنيين ومن لم يصح إسلامهم، إضافة إلى قتال المستعمرين الفرنسيين، وفرض الطريقة التيجانية على المناطق التي سيطر عليها.
ولد أحمد الشيخ في مدينة سكوتو Sokoto من بلاد الحوصَّة (الهوسا) إذ كان والده زائراً فيها، ولا يعرف كثير عن حياته قبل أن يسلمه والده ولاية العهد عام 1279هـ/1862م ويسميه «خليفة الطريقة التيجانية في السودان» ولكن لا بد أن يكون، ما دام أبوه ذلك العالم والمجاهد، قد تربى في طفولته وشبابه تربية إسلامية قويمة، وتلقى ثقافة دينية قيّمة، إضافة إلى تعاليم الطريقة التيجانية.
وكان يعرف العربية ويكتب بها. ولا بد أنه قد شارك أباه أيضاً فتوحاته وجهاده، منذ أن أعلن الحاج عمر الجهاد على الوثنيين والمستعمرين الفرنسيين. وقد ترك له والده عام 1279هـ/1862م، قبل أن يتوجه لفتح «ماسينة» مقر دولة الفولاني المسلمين، حكم مملكة «بمبرة ـ سيغو» بعد أن أخضعها لسلطانه، ولما استشهد الحاج عمر في أحوال غامضة عام 1281هـ/1864م محاصراً في مدينة «حمد الله»، أصبح أحمد الشيخ رأس الدولة، التي خلّفها له والده، ولمّا تدعم جنباتها، أو تنظم أمورها. وكانت تزيد مساحتها على ربع مليون من الكيلومترات المربعة؛ ويحدها شمالاً منطقتا «الحوض» و«السهل»، وغرباً الضفة اليمنى لنهر السنغال، وجنوباً أودية روافد نهر السنغال: بافينغ Bafing وباخوي Bakhoy وباوله Baoule. ومن الشرق وادي نهر النيجر الأعلى وجزء من واديه الأوسط حتى جنوب مدينة تمبكتو وفيه من المدن المهمة والمناطق سيغو Segu وماسينة Macina.
كان أحمد الشيخ كما وصفه أحد المفاوضين الفرنسيين، يتلكأ في كلامه قليلاً، ويتحدث بصوت منخفض ولطيف، وكان مهيب الهيئة ويحمل دائماً سبحة في يده، وعصا طويلة مزينة بالجلد، تحوي سيفاً، ورثها عن أبيه، كما كان يتمنطق بخنجر.
ومع مهابة أحمد الشيخ، ولقب الشيخ الذي حمله، كان لا يطلق إلا على كبار المثقفين في الدين الإسلامي في السودان، فإنه لم يكن له في نفوس كبار التكرور تلك الهيبة الدينية، والتأثير اللذان كانا لوالده.
وقد وجد أحمد الشيخ في أثناء حكمه، الذي دام أربعاً وثلاثين سنة، صعوبات كثيرة في تنظيم الدولة التي ورثها، وفي إدارتها، والحفاظ عليها وعلى وحدتها. فقد اصطدم بقوى معادية، كثيرة ومتنوعة، أفقدته في النهاية تلك الدولة. ويمكن إجمال تلك الصعاب في الأمور الآتية:
ـ تمرد بعض الشعوب في دولته على حكمه: فقد ضمت شعوباً قبلية مختلفة فيما بينها عنصراً ولغةً وديناً ونمط حياة، ناهيك عن اختلافها عن الشعب الحاكم لها الممثل بالتكرور المسلمين، الذين لم يكن عددهم يزيد على خمسين ألفاً. بل إن المسلمين أنفسهم من شعوب تلك الامبراطورية كانوا في تنافس فيما بينهم على السلطة والنفوذ، وعلى الطريقة الصوفية التي تبعها كل فريق، ولاسيما ذلك التنافس بين الطريقة القادرية المنتشرة بين قبائل الفولاني المسلمين في ماسينة والطريقة التيجانية التي عمل الحاج عمر على فرضها في المناطق المفتوحة. وأبرز هذه الشعوب المتمردة البَمْبَرة Bambara، الذين كانوا قد استوطنوا المجرى الأعلى لنهر النيجر. فهؤلاء بعد أن خضعوا لدولة صنغاي المسلمة في القرن الحادي عشر للهجرة/ السابع عشر للميلاد، تمكنوا من إنشاء دولة لهم في القرن الثاني عشر للهجرة/الثامن عشر للميلاد، وهي دولة سيغو، ومدت نفوذها على ماسينة وتمبكتو ونيورو وكرته. وكانوا يدينون بالوثنية، وقلة منهم كانت مسلمة، وقد تظاهر بعض حكامهم بالإسلام إلا أن إسلامهم كان مزيجاً من الإسلام والوثنية. وكان الحاج عمر قد حاربهم وقضى على مملكتهم وسيطر على مدنهم، ونشر الإسلام بين صفوفهم. إلا أنهم ثاروا على سلطانه، وبعد وفاته انقلبوا على ابنه أحمد الشيخ في عدة أماكن ومع أن هذا قمع تحركاتهم بعون من إخوته بين عامي 1287-1291هـ/1870- 1874م وأعلن إثر ذلك اتخاذه لقب «أمير المؤمنين» دعماً لسلطته الدينية، فإن البمبرة لم ينفكوا عن إقلاق الدولة والتحالف مع أعدائها.
ومن الشعوب التي لم تكن راضية أيضاً الفولاني المسلمون في ماسينة، فثاروا على الحاج عمر نفسه، وقتل في إحدى معاركه معهم. إلا أن تيجاني ابن عم أحمد الشيخ قضى على ثورتهم بعنف عام 1280هـ/1864م، وانتقم لعمه انتقاماً شديداً، وغدا هو الحاكم المستأثر بالسلطة فيها حتى 1305هـ/1887م.
ـ تفكك وحدة الدولة بين أفراد أسرة أحمد الشيخ: فإخوته الكثر كانوا، في الواقع، مستقلين في المقاطعات والمدن التي كانوا على رأسها على الرغم من اعترافهم المبدئي بسلطانه. وقد ثار عليه بعضهم فعلاً، وتآمر مع كبار أعيان التكرور، الذين كانوا يرغبون في التمتع بثمرات الفتح بعد الجهاد الطويل، بدل الدخول في حروب جديدة. ومن هؤلاء الإخوة حبيب الذي كان يحكم دِنْغِرْه Dinguiray، ومختار في كونيا كري Konia Kri، ثم هناك مصطفى عبد الحاج عمر في نيورو Nioro. ولكي يحفظ أحمد الشيخ للدولة وحدتها، اضطر إلى أن يخوض حرباً مستمرة، وتمكن بعد لأي من قمع تلك الثورات، وسجن أخويه لسبع سنوات في سيغو العاصمة، حتى حضرتهما الوفاة عام 1296هـ/1879م. وإذا كان قد استطاع النجاح في مهمته في مطلع حكمه، فإنه أخفق في أواخره، عندما بدأ صراعه مع الفرنسيين فقد تمكن أحد أخوته وهو «عجيبو» من عقد صلات طيبة مع الفرنسيين وتحالف معهم. وكان من ثمار ذلك التحالف، أن عينته فرنسة بعد سقوط أخيه عام 1311هـ/1893م حاكماً لماسينة وتوجته ملكاً عليها.
ـ ضعف اقتصاد الدولة وشح مواردها: فالإنتاج الرئيسي فيها كان الصمغ ويليه الفول السوداني والعاج وريش النعام والعبيد وبعض الذهب. وكان تعدد الشعوب واختلاف لغاتها، وتعقد النظام النقدي في الدولة، سبباً في ضعف المبادلات التجارية، ناهيك عن الحرب المستمرة وقد أدى هذا، إلى نقص وارد الدولة من مختلف الضرائب والرسوم، وخاصة أن كل مدينة كانت تعمل للاحتفاظ بواردها لنفسها.
ـ الافتقار إلى جيش قوي: يستطيع به أحمد الشيخ أن يسيطر على أنحاء الدولة التي كانت تعوزها الوحدة الجغرافية، ويرهب به أعداءه الداخليين والخارجيين. فقد كان جيشه من فئتين: «الطَلْبة»، وهي مؤلفة من مريدي الحاج عمر قبلاً أو طلبته. وأفرادها من التكرور المسلمين الذين جاهدوا معه بحماسة واندفاع، و«الصوفا» وهي من أسرى الأقوام الآخرين، وكثير منهم من البمبرة الوثنيين. أما الفئة الأولى فقد مالت إلى حياة الدعة بعد أن استقرت على الأرض مع أسرها، ونعمت بالغنائم التي حصلت عليها. وكانت طبقة مميزة، ومعفاة من الضرائب. وقد أظهرت مع الزمن نفوراً من القتال، لأنه يبعدها عن قراها وأسرها، أضف إلى ذلك قطع فرنسة طريق هجرة التكرور من «فوتو ثورو» موطنهم إلى عاصمة الدولة «سيغو» فنقص عددهم في الجيش، حتى لم يجد أحمد الشيخ منهم عام 1297هـ/1880م أكثر من ستة آلاف. ومن ثم كان عليه أن يعتمد في جيشه على «الصوفا»، وهم من الشعوب الأخرى غير التكرور التي لم تكن لها صلات طيبة بالدولة.
ويضاف إلى ما ذكر أن الجيش كان ينقصه الخيل للفرسان، والمدفعية والبنادق، وما كان أمام أحمد الشيخ إلا أن يسعى للحصول على السلاح من فرنسة أو إنكلترة، اللتين شرعتا بتثبيت أقدامهما في الغرب الإفريقي، وما كانتا مستعدتين مبدئياً للاستجابة لطلبه إلا بثمن باهظ من امتيازات تجارية أو مغانم أرضية. ولهذا كان جمع أحمد الشيخ لجيشه في أثناء المهمات الجريئة المستعجلة بطيئاً وصعباً. ومع كل تلك العقبات فإن هذا الجيش أبلى في مقاومة الفرنسيين بلاءً حسناً، ولاسيما في حصار المدن وإن لم يحقق النصر المنشود.
ـ ظهور منافسين لأحمد الشيخ من الزعماء المسلمين في المنطقة ذاتها أو ما يجاورها: وأبرزهم الحاج محمد الأمين ، وساموري تور Samory Taure وقد ظهر ساموري في «كانكان» في المجرى الأعلى لنهر النيجر، وتقدم شمالاً وهدد دولة أحمد الشيخ، إلا أنه اصطدم مع الفرنسيين الذين كانوا يتقدمون هم أيضاً في أرضه. وبعد حقبة سلام معهم، عاد فدخل في حرب طويلة، ولم يفلح التحالف الذي سعى إليه أحمد الشيخ وساموري.
ـ الاستعمار الفرنسي للسودان الغربي: فقد خرجت فرنسة في القرن التاسع عشر من مدينة سان لويس St.Louis في السنغال التي كانت قد احتلتها منذ 1638م، لتتقدم نحو الشرق باتجاه وادي نهر السنغال، وعملت على أن تستعمر البلاد تدريجياً بشتى الوسائل. وكان همها أن تصل إلى نهر النيجر، قبل أن تسبقها إليه إنكلترة، وأن تمد خطاً حديدياً عبر الصحراء، وتستفيد من خيرات السودان. واصطدمت في أثناء تقدمها بالحاج عمر الذي أعلن الجهاد عليها عام 1271هـ/1854م، وقاومها بشدة، وهاجم حصونها. فسعت لعقد معاهدة معه عام 1860م، تجعل الحدود بينهما نهر السنغال، لكن المعاهدة لم توقع. وتابعت فرنسة خطتها في احتلال المنطقة سلمياً مع ابنه أحمد الشيخ، ولم يعمد هذا إلى محاربتها لأنه هو الآخر كان يريد السلام ليعيد لدولته وحدتها، وينظم شؤونها وجرت مفاوضات بين الطرفين ثلاث مرات لعقد معاهدة تسهل لفرنسة سبل التجارة، وتحدد فيها مناطق نفوذ كل منهما. وكان ذلك عام 1866 و1880 و1887م. لكنها لم تسفر عن عقد معاهدة، لأن فرنسة كانت تريد المزيد من الامتيازات. وقررت أخيراً في الربع الأخير من القرن التاسع عشر القضاء على دولة التكرور عسكرياً والتخلص من حاكمها أحمد الشيخ. وقد ابتدأت العلاقات تسوء بين الطرفين عام 1870م. ولكن أحمد الشيخ لم يجابه فرنسة حربياً إلا عندما هاجم القائد الفرنسي أرشينار مدينة سيغو عام 1880م. وكان أحمد الشيخ قد انتقل منها إلى نيورو التي انتزعها من أخيه مُنْطقة، وترك ابنه مدني في سيغو التي سقطت بيد الفرنسيين في نيسان 1890م، وتوالى سقوط المدن وحاول أحمد الشيخ استرداد بعضها بالتعاون مع بعض أخوته الذين بقوا مخلصين له، ولكنه لم يفلح، واتضح ضعف جيشه حين هوجم في نيورو أمام الجيش الفرنسي المزود بالمدفعية، والبنادق الحديثة. ولما لم يستسلم، هددته فرنسة ببعثرة زوجاته وأولاده في أنحاء إفريقية ونفذت ما هددت به. فاتجه هو وبعض جنده المخلصين شرقاً نحو دوينتزه Douentza في مالي على بعد 100كم من بندياغارة Bandiagara إلا أنه اضطر إلى الالتجاء إلى ملك سكوتو في بلاد الحوصة حيث توفي في المدينة التي ولد فيها، ولم تبق فرنسة على أخيه عجيبو طويلاً في حكم ماسينة، إذ سلبت منه سلطاته عام 1321هـ/1902م، واستغنت عن خدماته وبذلك سقطت دولة التكرور.
ليلى الصباغ