تاريخ موجز للشعور بالصغر.. ما يقوله علماء الكون عن الأرض والزمان والموت والحياة
The Atlantic
10/3/2023
مقدمة للترجمة
ما الذي شعرت به حينما أُعلن قبل عدة أشهر إطلاق أحد التلسكوبات لالتقاط صور لأجرام سماوية يصل عمرها إلى 13.5 مليار سنة؟ أو حينما يقولون إن الشمس ضخمة بحيث يمكن أن تحمل داخلها مليون أرض وأكثر؟ أو حين تعرف أن للشمس دورة تتمها كل نحو 22 سنة؟ ماذا لو كنت عالِم فضاء يدرس الشمس، ألا يعني ذلك أن كل ما ستدرسه في حياتك المهنية هو دورتان للشمس على الأكثر؟ يعطينا الكون، ومحاولاتنا لفهمه، منظورا غاية في الغرابة للزمن والمكان، وفي هذه المادة تدخل مارينا كورين، الصحفية من "ذا أتلانتك"، بعمق إلى هذا العالم، وتعطينا انطباعات متنوعة لساكنيه من العلماء.
نص الترجمة
من بين جميع الأقمار الموجودة في النظام الشمسي، يُعَدُّ تيتان، القمر الأكبر لكوكب زحل، أكثرها إدهاشا واستثنائية. يُحيط تيتان غلاف جوي سميك وضبابي، وتُمطِر سماؤه بلطف غاز الميثان السائل الذي يتجه إلى أسفل بفعل جزء بسيط من الجاذبية التي نشعر بها على سطح الأرض، فتتشكَّل الأنهار والبحيرات والبحار الصغيرة على سطحه من غاز الميثان. أما تحت أرضه المُتجمِدة المُكوَّنة من جليد صلب بقدر صلابة الصخور، يتدفق محيط كامل من المياه العادية السائلة المكونة من الهيدروجين والأكسجين "H2O".
الجزء الأغرب -وربما الأفضل- في هذه القصة هو احتمالية أن يكون تيتان بيئة صالحة لإيواء حياة على سطحه. تعمل ناسا حاليا على مُهمة تُسمَى "دراغون فلاي" (Dragonfly)، من شأنها أن تسافر إلى القمر البعيد (تيتان) للبحث عن علامات محتملة لحياة فضائية سواء في الماضي أو الحاضر. ستنطلق مركبة مروحية لمسح السماء الضبابية لتيتان ودراسة طبيعة بيئته الكيميائية، والتحقق مما إذا كانت الظروف مناسبة لظهور الميكروبات. قد تكون أشكال الحياة الافتراضية في تيتان أشبه بالأنواع الأرضية التي نعرفها، أو قد تكون مختلفة تماما عما اعتدنا رؤيته، وربما تعتمد في استمرارها على مركبات الميثان بالطريقة ذاتها التي نعتمد بها على الأكسجين.
اقتربت طائرة هبوط Dragonfly الدوارة المخطط لها من وكالة ناسا من موقع لاستكشاف تيتان، في رسم توضيحي عام 2019. (رويترز)
تحرص أوساط المختصين بعلم الكواكب حرصا بالغا على الحصول على روبوت قادر على السفر إلى هناك وسبر أغوار ما يدور على سطح تيتان. لم تهبط أي مركبة فضائية على سطحه منذ عام 2005، وكان هذا الهبوط حينذاك هو أبعد مسافة يمكن لروبوت أن يقطعها على الإطلاق. غير أن تلك المهمة لم تدم طويلا، فما إن هبط المسبار على سطح تيتان وبدأ في أخذ عينات من الغلاف الجوي وإرسالها إلى الأرض، حتى نفدت طاقته بعد ثلاث ساعات فقط من هبوطه. كانت هذه لمحة سريعة عن تيتان الذي تهفو أرواح العلماء إلى الاطلاع على مناظره الطبيعية والاستمتاع بها. وقريبا، سيبدأ الخبراء والتقنيون بالفعل في اختبار بعض معدات المركبة الفضائية "دراغون فلاي". وإذا انطلقت المهمة في الموعد المُحدد لها وهو عام (2026)، فمن المفترض لها أن تصل إلى هناك عام 2034.
بالطبع قد تكون هذه مدة كبيرة بالنسبة لك، لكن هذا هو الحال مع كل ما يخص الفضاء، فالنظام الشمسي (ناهيك بالمجرة وبقية الكون) كبير للغاية، ويمكن أن يستغرق الالتفاف حوله سنوات طوالا. فمثلا عندما أعلنت وكالة ناسا عن مهمة "دراغون فلاي" قبل بضع سنوات، تخيلت نفسي في المستقبل وأنا ما زلت أعمل صحفية في مجال الفضاء أغطي النجاحات التي أحرزتها المهمات الفضائية. في الوقت الذي ستهبط فيه المركبة على سطح تيتان، سأكون حينها في الرابعة والأربعين من عمري، وهذه العملية الحسابية كفيلة بالسماح لمشاعر مثل الدهشة وعدم الراحة للتسلل إلى وجداني.
كلما جلست متسائلة عما عسى تتمخض عنه الأحداث الفضائية في المستقبل، تملكتني مشاعر الغربة أو "التخبط الوجودي"، خاصة مع تلك الأحداث المرتبطة بالمستقبل البعيد. لنأخذ على سبيل المثال مذنب "هالي"، وهو جسم سماوي يدور حول الشمس (ويصبح مرئيا من الأرض كل 75 سنة تقريبا). لم أكن ولدتُ بعد في آخر مرة ظهر فيها المذنب في السماء ليلا عام 1986 مخلِّفا وراءه شعورا بالسعادة امتلأت به أنفس المشاهدين. ومن المفترض أن المرة القادمة التي سيظهر فيها ستكون عام 2061، لكنني لا أعلم ما إذا كنت سأعيش حتى أبلغ 71 عاما من عمري لأشهد عليه حينها.
(شترستوك)
التأمل في هذه الأحداث كفيل بأن يطبع على وجدانك شعورا أشبه بدوار الحركة، وكأنك تقود مركبة "سبيس ماونتن" (Space Mountain) في ديزني، وهذا الشعور الذي يتدفق إلينا هو نتيجة لما يمكن أن نطلق عليه عملية التأمل العميقة للكون. صحيح أن عملية كهذه قد تُثير مكامن القلق والكآبة في نفوسنا، لكنها مع ذلك تظل وسيلة تبعث على التأمل والتفكير. تعليقا على ذلك، تقول أليس جورمان، عالمة الآثار بجامعة فليندرز في أستراليا التي تركز في دراستها على استكشاف الفضاء: "صحيح أن بإمكانك تخيل نقطة النهاية التي سيُعلَن عندها أن المركبة الفضائية أدت مهمتها بنجاح، لكن جميع التفاصيل التي حدثت خلال تلك السنوات الفاصلة تظل ضبابية وغامضة. لذا بإمكانك أن تترك العنان لنفسك بتخيل هذه التفاصيل بأي طريقة تريدها".
فلننطلق في رحلة صغيرة إلى المستقبل، كم سيكون عمرك يا تُرى عندما تحلِّق مروحية صغيرة في سماء ميثانية في عالم غريب، أو عندما يعود مذنب مألوف للظهور من جديد في سمائنا؟ وما الشعور الذي يعتمل في نفسك بالضبط جراء التفكير في ذلك كله؟ لكي أفهم لِمَ يجعلني مستقبل الفضاء أشعر على هذا النحو، قررت التواصل مع عدد قليل من علماء الفلك الذين يميلون إلى إدراك الوقت بصورة مختلفة عن الآخرين، ويفكرون في المسافات بالسنوات الضوئية، ويستحوذ على وجدانهم ضوء النجوم الذي استغرق مليارات السنين للوصول إلى الأرض.
ومن عجيب الأمور أن ما قد نشعر به على أنه هُوة زمنية كبيرة على غرار 11 عاما على سبيل المثال، لا يتعدى كونه لمحة زمنية بسيطة بالنسبة لعلماء الفلك وعلى رأسهم هايدي هاميل، عالمة الفلك في اتحاد الجامعات لأبحاث علم الفلك، إذ أشارت هي وزملاؤها في اجتماع عُقد مؤخرا حول التلسكوبات الفضائية المستقبلية إلى أن المرصد الأول لمجموعة التلسكوبات هذه يمكن إطلاقه في غضون 12 عاما فقط، وأن المجموعة بأكملها قد تكون جاهزة خلال 22 عاما فقط، والعجيب أنه لم يظهر في نبرتها أي نوع من التهكم.
تُدرك هاميل بالطبع كيف يمكن لعقدين من الزمن أن يُحدثا الكثير من التغييرات على المستوى البشري، وما حدث معها هو أقرب مثال على ذلك، فقد أمضتْ هذا الوقت الطويل في العمل على تلسكوب جيمس ويب الفضائي قبل إطلاقه أخيرا في عام 2021 لاستكشاف خبايا الكون بتفاصيل غير مسبوقة. صرفت هاميل ربيع عمرها في هذا المشروع، وهذا ما توضحه الصورة التي تُفصِح عنها في محاضراتها العلمية في بداية المشروع وهي تحمل ابنها الأصغر بين ذراعيها، بينما أصبح الآن طالب دراسات عليا يتجاوزها في الطول.
قبل العمل على تلسكوب جيمس ويب، خاضت هاميل غمار تجربة المشاركة في مهمات "فوياجر" (Voyager)، وهي جولة ناسا الكبرى لفحص الكواكب التي تقع خارج نظامنا الشمسي. عندما حلَّقت المركبة الفضائية "فوياجر 2" فوق كوكب نبتون عام 1989، كانت هاميل موجودة في مختبر الدفع النفاث التابع لناسا (وهو أحد مراكز البحوث والتنمية المُمولة من طرف الحكومة الفيدرالية للولايات المتحدة الأميركية ووكالة ناسا). لكن في الوقت الذي شهد بداية المشروع، كانت لا تزال المدرسة الابتدائية، وعن ذلك تقول: "إن التفكير في هؤلاء الأطفال الذين سيقيسون يوما ما شريط حياتهم بالإنجازات الكبرى في مجال رحلات الفضاء هو أمر مؤثر للغاية وعصي حتى على إدراكي".
تاريخ موجز للشعور بالصغر
لطالما حاول البشر منذ قديم الأزل وصف تجاربنا مع الكون بكلمات تُضفي معنى وهدفا على النجوم. وُثِّقت فكرة التأمل العميق في الكون بصورة خاصة في نصف القرن الماضي عندما انطلقت الرحلات لاستكشاف الفضاء بالفعل. أبلغ رواد الفضاء عما راودهم من مشاعر قوية بمجرد رؤيتهم للأرض من هناك، وكيف استبد بهم شعور الرهبة من رؤية هشاشة كوكبنا وسط هذا الضياع الكوني الشامل الذي يجرفنا، فعزز ذلك من شعورهم بقوة الآصرة التي تربطهم برفاقهم البشر.
صورة "النقطة الزرقاء الباهتة" قادرة على أن تبعث في نفسنا شعورا بمقدار هشاشة كوكبنا وصغر حجمه وضآلة شأنه وهو يتردَّى مُزعزعا كذرة هائمة في هذا الكون. (رويترز)
أما فيما يخص صورة "النقطة الزرقاء الباهتة" (Pale Blue Dot) الشهيرة التي نشرتها ناسا، وظهرت فيها الأرض بقعة مُعَلّقة في الظلام، فهي صورة قادرة على أن تبعث في نفس أي شخص تقع عيناه عليها شعورا بمقدار هشاشة كوكبنا وصغر حجمه وضآلة شأنه وهو يتردَّى مُزعزعا كذرة هائمة في هذا الكون. في الوقت الذي حلَّقت مركبة غير مأهولة لأول مرة على سطح المريخ، اجتاح الناس حينذاك على نحو غريب شعور بالفخر، لكن سرعان ما تبدل إلى حزن بمجرد أن نفدت طاقة المركبة الفضائية وتردت في الهاوية أو سقطت في كوكب آخر لتلقى حتفها في النهاية.
إن إضافة بُعد آخر -وهو مرور الزمن- إلى تأملنا للفضاء يخلق فينا إحساسا غريبا بصورة فريدة. صحيح أن المكان والزمان يرتبطان بالطبع ارتباطا وثيقا وفقا لما تُظهِره نظريات النسبية لأينشتاين، لكن عندما نحاول تطبيق هذه المفاهيم في سياق حياتنا العادية، فإننا نميل إلى اختزالها، بمعنى أنك فجأة تقارن حياتك بالقوى التي تعمل على نطاق مختلف تماما. إنك في هذا الوقت لا تتأمل فقط صورة جميلة وقعت أمام ناظريك للمنحدرات الكونية لسديم كارينا في مكان ما لن يتسنى لك الذهاب إليه أبدا، بل تبزغ فجأة أمامك تفاصيل دقيقة توضح غموض المستقبل الذي ينوء صدرك بوساوس عنه، فلا تعلم كيف يمكنك التأقلم معه أو الانسجام مع تفاصيله.
في السياق ذاته، يقول ديفيد جرينسبون، عالم الأحياء الفلكية في معهد علوم الكواكب: "بطريقة ما، ستكتشف أن الأمر مرعب ويقض مضجعك". سيكون جرينسبون في السبعينيات من عمره عندما تنطلق المركبة الفضائية التابعة لناسا -التي يعمل عليها حاليا- إلى كوكب الزهرة عام 2029. وعن هذا يقول: "تتسلل إليك بعض المشاعر التي تُفزعك، ويغالبك شعور ما ينفك يهمس إليك بأنك أصغر بكثير مما تُفيد به التواريخ في التقويمات". غير أن فكرة الاستمرار في العمل على المشروع بعد سنوات من الآن ما زالت تثير حماسه بقوله: "إن العمل على هذه المشاريع يُعَدُّ شيئا نتطلع إليه في وقت من الحياة قد تحفر فيه مشاعر مثل الخوف أو الرهبة سراديبها في وجدانك".
على غرار عالمة الفلك هايدي هاميل، شارك جرينسبون أيضا في مهمات فوياجر. وفي كل مرة تُسفِر فيها الآلات عن نجاحها في تحقيق أهدافها المنشودة، كان فريق العلماء المسؤول عن هذه المهمات يعقد اجتماعا لمناقشة هذه الأحداث التاريخية. تعليقا على ذلك، يقول جرينسبون: "كانت هذه الاجتماعات أشبه بتجمعات لم شمل المدرسة الثانوية، لكن الفرق أننا كنا نجتمع في كل مرة للتحدث عن كوكب مختلف". وبينما كانت تنتقل المهمة من كوكب المشتري إلى زحل، ثم إلى أورانوس ونبتون، خامر الأشخاص المنخرطين في هذه المهمات شعور بأن سنوات عمرهم كانت تطير أيضا مع هذه البعثات. خلال هذه السنوات الطويلة، تعاقبت أحداث السرور والألم على أعضاء البعثة، منهم مَن تقاعد، وهناك مَن وافته المنية، منهم مَن تزوج فيما أعلن آخرون عن طلاقهم، وهناك مَن رُزق بأطفال على غرار ليندا سبيلكر، العالمة التي شاركت في المهمة وأصبحت أُمًّا لطفلين خلال خمس سنوات، وهي المدة التي استغرقتها رحلات زحل وأورانوس، وجراء ذلك تحب ليندا أن تخبر بناتها أنهن وُلدن عندما اصطفت الكواكب.
السفر الذهني عبر الزمن
(شترستوك)
يُجبرنا الفضاء على تخيل أنفسنا في حالة مستقبلية، وهي عملية معرفية يُطلِق عليها علماء النفس "السفر الذهني عبر الزمن" (Mental time travel)، تساعدنا هذه العملية على التخيّل والمحاكاة العقلية لسيناريوهات في المستقبل، وفقا لما يقوله ديين بونومانو، عالم الأعصاب والباحث في جامعة كاليفورنيا، الذي يدرس كيفية معالجة أدمغتنا للوقت. ولا يقتصر السفر الذهني عبر الزمن على مجال الفضاء، بل تستغرق العديد من الجهود البشرية سنوات طويلة أو عقودا حتى تؤتي ثمارها، كإحداث تغيير اجتماعي، أو حتى مجرد بناء خطوط مترو أنفاق جديدة. وعن هذا يقول بونومانو: "إن هذه القدرة على التخطيط للمستقبل على المدى الطويل لعقود وحتى لقرون قادمة هي قدرة بشرية فريدة".
ورغم ذلك، لا يوجد شكل آخر من أشكال السفر الذهني عبر الزمن قد يُفضي إلى الشعور بهذا الدوار أو الاضطراب الوجودي كما يفعل التأمل في خبايا الفضاء واستطلاع مجاهله. وإذا ما تأملنا في مستقبلنا البشري، فلن نجد مجالا يمكن أن يربطنا بأكثر صفاتنا ضعفا وهشاشة وأشدها جوهرية بقدر ما يفعل الفضاء. تقول نعومي رو-جورني، عالمة الفلك في مركز غودارد لرحلات الفضاء التابع لناسا، التي تدرس أورانوس ونبتون: "عند التفكير في الجوانب العاطفية لهذا المجال، سنكتشف أن معظم خبراء الفضاء يميلون إلى أن تخبو شعلة العواطف، فلا يقفون كثيرا عندها". (فلن تظهر نتائج المهمات الأخيرة التي أُرسلت إلى هذه الكواكب على سبيل المثال قبل عام 2040 أو حتى بعد ذلك).
أما روهان نايدو، عالم الفلك في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الذي يستعين بتلسكوب جيمس ويب لكشف النقاب عن سمات المجرات المبكرة، فيُفضِّل الاستمتاع باللحظة الحالية بدلا من أن يرنو بقلق إلى المستقبل وما سيحمله من اختراعات جديدة بعدما يترصد التلسكوب ويب الفناء أو يعفو عليه الزمن. ومع ذلك، ما زال ينبعث في نفسه شعور بالحماس تجاه مستقبل الفضاء بقوله: "كيف لا يمكن لذلك كله ألا يُثير في نفسك التفاؤل ونحن منذ مئة عام فقط كنا بالكاد نعلم بوجود مجرات أخرى غير مجرتنا في الفضاء!".
إذا ما تأملنا في مستقبلنا البشري، فلن نجد مجالا يمكن أن يربطنا بأكثر صفاتنا ضعفا وهشاشة وأشدها جوهرية بقدر ما يفعل الفضاء. (شترستوك)
يحفزني التفكير في مُهمة "دراغون فلاي" (Dragonfly)، وفي عام 2034 الذي ستهبط فيه على سطح تيتان، عليّ التأمل في جميع الأشياء التي لم تحدث بعد في حياتي، وما سيؤول إليه مستقبلي بحلول الوقت الذي سأبلغ فيه 44 عاما. عندما أفكر في ذلك، ينتفض داخلي بتيار من مشاعر مختلطة من التفاؤل والرهبة والحنين إلى نفسي المستقبلية. صحيح أن من الغريب أن يراودنا شعور بالحنين تجاه مستقبل لم يحدث بعد، لكن ذلك بالضبط هو ما يقدمه لنا مجال الفضاء.
هذه الظاهرة التي تجعلنا نرنو إلى المستقبل بلمحة من حنين، سبق وأشار إليها علماء النفس على أنها "حنين استباقي" (Anticipatory nostalgia). ومن المفارقات العجيبة أن البشر قادرون على التخطيط لإطلاق مركبة فضائية للهبوط على أحد الأقمار البعيدة في عام معين، وهم على ثقة إلى حدٍّ ما من أن خطتهم ستُكلَّل بالنجاح رغم التحديات التي تواجهها رحلات الفضاء، في حين لا يمكن لأحد منهم أن يتنبأ بمسار حياته بالدقة ذاتها التي يتنبأ بها لرحلات الفضاء.
عندما تحدثت مع بعض علماء الفلك عن ذاك الشعور بالحنين الذي يسكنني، تفهَّم العديد منهم تماما ما أشعر به لكن لم يراودهم الشعور ذاته. ولتفسير ذلك، تقول ليزا ميسيري، عالمة الأنثروبولوجيا في جامعة ييل الأميركية، التي كتبت سابقا عن الطريقة التي تبناها علماء الكواكب لجعل الكون ذا مغزى لعامة الناس، إن الفضاء لا يجعلها تشعر بالسعادة، أما هذه التأملات التي يلذ لنا أن نستعيدها ونجترها إلى مخيلتنا ما هي إلا نتيجة لمحاولتنا تحويل نطاق كوني شاسع إلى نطاق بشري. ولكي نجد نهاية لاضطرابنا إزاء هذه الفجوة، يلجأ الجميع في النهاية إلى طريقة يمكن من خلالها إيجاد معنى إزاء هذه المقاييس الزمنية المُبهمة أو العصية على الفهم.
ربما تُعَدُّ آن درويان، المؤلفة والمنتجة الأميركية التي تخصصت في إنتاج الأفلام الوثائقية حول علم الكون والأدبيات العلمية، أفضل شخص مؤَهَّل للتحدث عن التأمل العميق للكون. فرغم أن دوريان لم تكن عالمة فلك، فإنها ساهمت في إنشاء "السجل الذهبي" (The Golden Record)، (وهو الاسم الذي يُطلَق على الرسالة الموجودة على متن مسبارَيْ فوياجر 1 و2، المُصممة شكل أسطواني من النحاس المطلي بالذهب)، وهو كبسولة زمنية للبشرية تندفع بعيدا عن الأرض محمولة على مسبارَيْ فوياجر، وتتضمن صورا لأشخاص، ومقاطع صوتية عن الطقس والحياة البرية، وتحيات بعشرات اللغات، وموسيقى، جميعها موجهة إلى أي حضارة يمكن أن تكون في الفضاء.
السجل الذهبي: الكبسولة الزمنية المحمولة على مسبارَيْ فوياجر لأي حضارة يمكن أن تكون في الفضاء (مواقع التواصل)
يتضمن السجل الذهبي أيضا الموجات الدماغية لدرويان نفسها بعدما خضعت لفحص دماغي أثناء فترة وقوعها في الحب مع كارل ساغان (عالم الفلك الأميركي الشهير الذي لعب دورا مهما في تعزيز البحث عن المخلوقات الذكية خارج الكرة الأرضية)، وكان متعاونا مع دوريان في هذا المشروع (وتزوجها لاحقا). كانت درويان في الثامنة والعشرين من عمرها عندما بدأت مهمات فوياجر، بينما أصبحت تبلغ الآن 73 عاما، ووصفت مشاركتها في هذه المهمة بأنها أقرب إلى إخبار الأبدية (أننا كنا هنا يوما ما قبل أن تُمحَى آثارنا). تقول دوريان عن هذه التجربة: "أعتقد أنها في الواقع حررتني من خوفي من الموت، إذ يبدو موتي الآن وكأنه إتمام أو ختام لهذا الحدث الذي كان محوريا للغاية في حياتي".
قد يكون التأمل الكوني العميق تمرينا لرفع معنوياتنا ولتأكيد وجود عجائب هائلة ننتظر أن نشهد عليها بعد عامين أو حتى 20 عاما من الآن، كما أنه أيضا تذكير بكل جمال الكون الذي لن نعيش حتى يتسنى لنا رؤيته. كم تمنتْ دوريان أن يكون ساغان، الذي توفي عام 1996، موجودا الآن ليشهد على مهمة مثل "دراغون فلاي"، إذ كان من أوائل العلماء الذين افترضوا أن تيتان يضم على سطحه أجساما من الميثان السائل التي قد تؤهله ليكون بيئة مواتية لاحتضان حياة على سطحه، لذا حث ساغان حينذاك ناسا على إطلاق رحلات إلى هناك. تختتم دوريان حديثها قائلة: "لا أعلم حتى ما إذا كنت سأبقى هنا حتى عام 2034، لكن ما أعلمه جيدا أنه حتى عام 2034 و2534 و3034، سيظل مسبارَيْ فوياجر يتحركان".
على غرار دوريان، لا أعلم أيضا ما الوجهة التي ستتخذها حياتنا أو بماذا سأكون منشغلة حينما تهبط الدراغون فلاي على سطح تيتان، لكن بإمكاني على الأقل تخيّل ما سيحدث، ربما سأجلس حينها على مكتبي لأكتب مقالا عن هذه المهمة وأشعر بأن ظهري يؤلمني أكثر من ذي قبل. وفي وقت لاحق من تلك الليلة، بعد أن أنتهي من الكتابة، سأخرج لأرنو إلى السماء ليلا باحثة عن تلك الومضات المألوفة والبراقة للنجوم والكواكب وأتساءل: "أين ذهبت جميع تلك الأعوام التي غادرتنا؟".
The Atlantic
10/3/2023
مقدمة للترجمة
ما الذي شعرت به حينما أُعلن قبل عدة أشهر إطلاق أحد التلسكوبات لالتقاط صور لأجرام سماوية يصل عمرها إلى 13.5 مليار سنة؟ أو حينما يقولون إن الشمس ضخمة بحيث يمكن أن تحمل داخلها مليون أرض وأكثر؟ أو حين تعرف أن للشمس دورة تتمها كل نحو 22 سنة؟ ماذا لو كنت عالِم فضاء يدرس الشمس، ألا يعني ذلك أن كل ما ستدرسه في حياتك المهنية هو دورتان للشمس على الأكثر؟ يعطينا الكون، ومحاولاتنا لفهمه، منظورا غاية في الغرابة للزمن والمكان، وفي هذه المادة تدخل مارينا كورين، الصحفية من "ذا أتلانتك"، بعمق إلى هذا العالم، وتعطينا انطباعات متنوعة لساكنيه من العلماء.
نص الترجمة
من بين جميع الأقمار الموجودة في النظام الشمسي، يُعَدُّ تيتان، القمر الأكبر لكوكب زحل، أكثرها إدهاشا واستثنائية. يُحيط تيتان غلاف جوي سميك وضبابي، وتُمطِر سماؤه بلطف غاز الميثان السائل الذي يتجه إلى أسفل بفعل جزء بسيط من الجاذبية التي نشعر بها على سطح الأرض، فتتشكَّل الأنهار والبحيرات والبحار الصغيرة على سطحه من غاز الميثان. أما تحت أرضه المُتجمِدة المُكوَّنة من جليد صلب بقدر صلابة الصخور، يتدفق محيط كامل من المياه العادية السائلة المكونة من الهيدروجين والأكسجين "H2O".
الجزء الأغرب -وربما الأفضل- في هذه القصة هو احتمالية أن يكون تيتان بيئة صالحة لإيواء حياة على سطحه. تعمل ناسا حاليا على مُهمة تُسمَى "دراغون فلاي" (Dragonfly)، من شأنها أن تسافر إلى القمر البعيد (تيتان) للبحث عن علامات محتملة لحياة فضائية سواء في الماضي أو الحاضر. ستنطلق مركبة مروحية لمسح السماء الضبابية لتيتان ودراسة طبيعة بيئته الكيميائية، والتحقق مما إذا كانت الظروف مناسبة لظهور الميكروبات. قد تكون أشكال الحياة الافتراضية في تيتان أشبه بالأنواع الأرضية التي نعرفها، أو قد تكون مختلفة تماما عما اعتدنا رؤيته، وربما تعتمد في استمرارها على مركبات الميثان بالطريقة ذاتها التي نعتمد بها على الأكسجين.
اقتربت طائرة هبوط Dragonfly الدوارة المخطط لها من وكالة ناسا من موقع لاستكشاف تيتان، في رسم توضيحي عام 2019. (رويترز)
تحرص أوساط المختصين بعلم الكواكب حرصا بالغا على الحصول على روبوت قادر على السفر إلى هناك وسبر أغوار ما يدور على سطح تيتان. لم تهبط أي مركبة فضائية على سطحه منذ عام 2005، وكان هذا الهبوط حينذاك هو أبعد مسافة يمكن لروبوت أن يقطعها على الإطلاق. غير أن تلك المهمة لم تدم طويلا، فما إن هبط المسبار على سطح تيتان وبدأ في أخذ عينات من الغلاف الجوي وإرسالها إلى الأرض، حتى نفدت طاقته بعد ثلاث ساعات فقط من هبوطه. كانت هذه لمحة سريعة عن تيتان الذي تهفو أرواح العلماء إلى الاطلاع على مناظره الطبيعية والاستمتاع بها. وقريبا، سيبدأ الخبراء والتقنيون بالفعل في اختبار بعض معدات المركبة الفضائية "دراغون فلاي". وإذا انطلقت المهمة في الموعد المُحدد لها وهو عام (2026)، فمن المفترض لها أن تصل إلى هناك عام 2034.
بالطبع قد تكون هذه مدة كبيرة بالنسبة لك، لكن هذا هو الحال مع كل ما يخص الفضاء، فالنظام الشمسي (ناهيك بالمجرة وبقية الكون) كبير للغاية، ويمكن أن يستغرق الالتفاف حوله سنوات طوالا. فمثلا عندما أعلنت وكالة ناسا عن مهمة "دراغون فلاي" قبل بضع سنوات، تخيلت نفسي في المستقبل وأنا ما زلت أعمل صحفية في مجال الفضاء أغطي النجاحات التي أحرزتها المهمات الفضائية. في الوقت الذي ستهبط فيه المركبة على سطح تيتان، سأكون حينها في الرابعة والأربعين من عمري، وهذه العملية الحسابية كفيلة بالسماح لمشاعر مثل الدهشة وعدم الراحة للتسلل إلى وجداني.
كلما جلست متسائلة عما عسى تتمخض عنه الأحداث الفضائية في المستقبل، تملكتني مشاعر الغربة أو "التخبط الوجودي"، خاصة مع تلك الأحداث المرتبطة بالمستقبل البعيد. لنأخذ على سبيل المثال مذنب "هالي"، وهو جسم سماوي يدور حول الشمس (ويصبح مرئيا من الأرض كل 75 سنة تقريبا). لم أكن ولدتُ بعد في آخر مرة ظهر فيها المذنب في السماء ليلا عام 1986 مخلِّفا وراءه شعورا بالسعادة امتلأت به أنفس المشاهدين. ومن المفترض أن المرة القادمة التي سيظهر فيها ستكون عام 2061، لكنني لا أعلم ما إذا كنت سأعيش حتى أبلغ 71 عاما من عمري لأشهد عليه حينها.
(شترستوك)
التأمل في هذه الأحداث كفيل بأن يطبع على وجدانك شعورا أشبه بدوار الحركة، وكأنك تقود مركبة "سبيس ماونتن" (Space Mountain) في ديزني، وهذا الشعور الذي يتدفق إلينا هو نتيجة لما يمكن أن نطلق عليه عملية التأمل العميقة للكون. صحيح أن عملية كهذه قد تُثير مكامن القلق والكآبة في نفوسنا، لكنها مع ذلك تظل وسيلة تبعث على التأمل والتفكير. تعليقا على ذلك، تقول أليس جورمان، عالمة الآثار بجامعة فليندرز في أستراليا التي تركز في دراستها على استكشاف الفضاء: "صحيح أن بإمكانك تخيل نقطة النهاية التي سيُعلَن عندها أن المركبة الفضائية أدت مهمتها بنجاح، لكن جميع التفاصيل التي حدثت خلال تلك السنوات الفاصلة تظل ضبابية وغامضة. لذا بإمكانك أن تترك العنان لنفسك بتخيل هذه التفاصيل بأي طريقة تريدها".
فلننطلق في رحلة صغيرة إلى المستقبل، كم سيكون عمرك يا تُرى عندما تحلِّق مروحية صغيرة في سماء ميثانية في عالم غريب، أو عندما يعود مذنب مألوف للظهور من جديد في سمائنا؟ وما الشعور الذي يعتمل في نفسك بالضبط جراء التفكير في ذلك كله؟ لكي أفهم لِمَ يجعلني مستقبل الفضاء أشعر على هذا النحو، قررت التواصل مع عدد قليل من علماء الفلك الذين يميلون إلى إدراك الوقت بصورة مختلفة عن الآخرين، ويفكرون في المسافات بالسنوات الضوئية، ويستحوذ على وجدانهم ضوء النجوم الذي استغرق مليارات السنين للوصول إلى الأرض.
ومن عجيب الأمور أن ما قد نشعر به على أنه هُوة زمنية كبيرة على غرار 11 عاما على سبيل المثال، لا يتعدى كونه لمحة زمنية بسيطة بالنسبة لعلماء الفلك وعلى رأسهم هايدي هاميل، عالمة الفلك في اتحاد الجامعات لأبحاث علم الفلك، إذ أشارت هي وزملاؤها في اجتماع عُقد مؤخرا حول التلسكوبات الفضائية المستقبلية إلى أن المرصد الأول لمجموعة التلسكوبات هذه يمكن إطلاقه في غضون 12 عاما فقط، وأن المجموعة بأكملها قد تكون جاهزة خلال 22 عاما فقط، والعجيب أنه لم يظهر في نبرتها أي نوع من التهكم.
تُدرك هاميل بالطبع كيف يمكن لعقدين من الزمن أن يُحدثا الكثير من التغييرات على المستوى البشري، وما حدث معها هو أقرب مثال على ذلك، فقد أمضتْ هذا الوقت الطويل في العمل على تلسكوب جيمس ويب الفضائي قبل إطلاقه أخيرا في عام 2021 لاستكشاف خبايا الكون بتفاصيل غير مسبوقة. صرفت هاميل ربيع عمرها في هذا المشروع، وهذا ما توضحه الصورة التي تُفصِح عنها في محاضراتها العلمية في بداية المشروع وهي تحمل ابنها الأصغر بين ذراعيها، بينما أصبح الآن طالب دراسات عليا يتجاوزها في الطول.
قبل العمل على تلسكوب جيمس ويب، خاضت هاميل غمار تجربة المشاركة في مهمات "فوياجر" (Voyager)، وهي جولة ناسا الكبرى لفحص الكواكب التي تقع خارج نظامنا الشمسي. عندما حلَّقت المركبة الفضائية "فوياجر 2" فوق كوكب نبتون عام 1989، كانت هاميل موجودة في مختبر الدفع النفاث التابع لناسا (وهو أحد مراكز البحوث والتنمية المُمولة من طرف الحكومة الفيدرالية للولايات المتحدة الأميركية ووكالة ناسا). لكن في الوقت الذي شهد بداية المشروع، كانت لا تزال المدرسة الابتدائية، وعن ذلك تقول: "إن التفكير في هؤلاء الأطفال الذين سيقيسون يوما ما شريط حياتهم بالإنجازات الكبرى في مجال رحلات الفضاء هو أمر مؤثر للغاية وعصي حتى على إدراكي".
تاريخ موجز للشعور بالصغر
لطالما حاول البشر منذ قديم الأزل وصف تجاربنا مع الكون بكلمات تُضفي معنى وهدفا على النجوم. وُثِّقت فكرة التأمل العميق في الكون بصورة خاصة في نصف القرن الماضي عندما انطلقت الرحلات لاستكشاف الفضاء بالفعل. أبلغ رواد الفضاء عما راودهم من مشاعر قوية بمجرد رؤيتهم للأرض من هناك، وكيف استبد بهم شعور الرهبة من رؤية هشاشة كوكبنا وسط هذا الضياع الكوني الشامل الذي يجرفنا، فعزز ذلك من شعورهم بقوة الآصرة التي تربطهم برفاقهم البشر.
صورة "النقطة الزرقاء الباهتة" قادرة على أن تبعث في نفسنا شعورا بمقدار هشاشة كوكبنا وصغر حجمه وضآلة شأنه وهو يتردَّى مُزعزعا كذرة هائمة في هذا الكون. (رويترز)
أما فيما يخص صورة "النقطة الزرقاء الباهتة" (Pale Blue Dot) الشهيرة التي نشرتها ناسا، وظهرت فيها الأرض بقعة مُعَلّقة في الظلام، فهي صورة قادرة على أن تبعث في نفس أي شخص تقع عيناه عليها شعورا بمقدار هشاشة كوكبنا وصغر حجمه وضآلة شأنه وهو يتردَّى مُزعزعا كذرة هائمة في هذا الكون. في الوقت الذي حلَّقت مركبة غير مأهولة لأول مرة على سطح المريخ، اجتاح الناس حينذاك على نحو غريب شعور بالفخر، لكن سرعان ما تبدل إلى حزن بمجرد أن نفدت طاقة المركبة الفضائية وتردت في الهاوية أو سقطت في كوكب آخر لتلقى حتفها في النهاية.
إن إضافة بُعد آخر -وهو مرور الزمن- إلى تأملنا للفضاء يخلق فينا إحساسا غريبا بصورة فريدة. صحيح أن المكان والزمان يرتبطان بالطبع ارتباطا وثيقا وفقا لما تُظهِره نظريات النسبية لأينشتاين، لكن عندما نحاول تطبيق هذه المفاهيم في سياق حياتنا العادية، فإننا نميل إلى اختزالها، بمعنى أنك فجأة تقارن حياتك بالقوى التي تعمل على نطاق مختلف تماما. إنك في هذا الوقت لا تتأمل فقط صورة جميلة وقعت أمام ناظريك للمنحدرات الكونية لسديم كارينا في مكان ما لن يتسنى لك الذهاب إليه أبدا، بل تبزغ فجأة أمامك تفاصيل دقيقة توضح غموض المستقبل الذي ينوء صدرك بوساوس عنه، فلا تعلم كيف يمكنك التأقلم معه أو الانسجام مع تفاصيله.
في السياق ذاته، يقول ديفيد جرينسبون، عالم الأحياء الفلكية في معهد علوم الكواكب: "بطريقة ما، ستكتشف أن الأمر مرعب ويقض مضجعك". سيكون جرينسبون في السبعينيات من عمره عندما تنطلق المركبة الفضائية التابعة لناسا -التي يعمل عليها حاليا- إلى كوكب الزهرة عام 2029. وعن هذا يقول: "تتسلل إليك بعض المشاعر التي تُفزعك، ويغالبك شعور ما ينفك يهمس إليك بأنك أصغر بكثير مما تُفيد به التواريخ في التقويمات". غير أن فكرة الاستمرار في العمل على المشروع بعد سنوات من الآن ما زالت تثير حماسه بقوله: "إن العمل على هذه المشاريع يُعَدُّ شيئا نتطلع إليه في وقت من الحياة قد تحفر فيه مشاعر مثل الخوف أو الرهبة سراديبها في وجدانك".
على غرار عالمة الفلك هايدي هاميل، شارك جرينسبون أيضا في مهمات فوياجر. وفي كل مرة تُسفِر فيها الآلات عن نجاحها في تحقيق أهدافها المنشودة، كان فريق العلماء المسؤول عن هذه المهمات يعقد اجتماعا لمناقشة هذه الأحداث التاريخية. تعليقا على ذلك، يقول جرينسبون: "كانت هذه الاجتماعات أشبه بتجمعات لم شمل المدرسة الثانوية، لكن الفرق أننا كنا نجتمع في كل مرة للتحدث عن كوكب مختلف". وبينما كانت تنتقل المهمة من كوكب المشتري إلى زحل، ثم إلى أورانوس ونبتون، خامر الأشخاص المنخرطين في هذه المهمات شعور بأن سنوات عمرهم كانت تطير أيضا مع هذه البعثات. خلال هذه السنوات الطويلة، تعاقبت أحداث السرور والألم على أعضاء البعثة، منهم مَن تقاعد، وهناك مَن وافته المنية، منهم مَن تزوج فيما أعلن آخرون عن طلاقهم، وهناك مَن رُزق بأطفال على غرار ليندا سبيلكر، العالمة التي شاركت في المهمة وأصبحت أُمًّا لطفلين خلال خمس سنوات، وهي المدة التي استغرقتها رحلات زحل وأورانوس، وجراء ذلك تحب ليندا أن تخبر بناتها أنهن وُلدن عندما اصطفت الكواكب.
السفر الذهني عبر الزمن
(شترستوك)
يُجبرنا الفضاء على تخيل أنفسنا في حالة مستقبلية، وهي عملية معرفية يُطلِق عليها علماء النفس "السفر الذهني عبر الزمن" (Mental time travel)، تساعدنا هذه العملية على التخيّل والمحاكاة العقلية لسيناريوهات في المستقبل، وفقا لما يقوله ديين بونومانو، عالم الأعصاب والباحث في جامعة كاليفورنيا، الذي يدرس كيفية معالجة أدمغتنا للوقت. ولا يقتصر السفر الذهني عبر الزمن على مجال الفضاء، بل تستغرق العديد من الجهود البشرية سنوات طويلة أو عقودا حتى تؤتي ثمارها، كإحداث تغيير اجتماعي، أو حتى مجرد بناء خطوط مترو أنفاق جديدة. وعن هذا يقول بونومانو: "إن هذه القدرة على التخطيط للمستقبل على المدى الطويل لعقود وحتى لقرون قادمة هي قدرة بشرية فريدة".
ورغم ذلك، لا يوجد شكل آخر من أشكال السفر الذهني عبر الزمن قد يُفضي إلى الشعور بهذا الدوار أو الاضطراب الوجودي كما يفعل التأمل في خبايا الفضاء واستطلاع مجاهله. وإذا ما تأملنا في مستقبلنا البشري، فلن نجد مجالا يمكن أن يربطنا بأكثر صفاتنا ضعفا وهشاشة وأشدها جوهرية بقدر ما يفعل الفضاء. تقول نعومي رو-جورني، عالمة الفلك في مركز غودارد لرحلات الفضاء التابع لناسا، التي تدرس أورانوس ونبتون: "عند التفكير في الجوانب العاطفية لهذا المجال، سنكتشف أن معظم خبراء الفضاء يميلون إلى أن تخبو شعلة العواطف، فلا يقفون كثيرا عندها". (فلن تظهر نتائج المهمات الأخيرة التي أُرسلت إلى هذه الكواكب على سبيل المثال قبل عام 2040 أو حتى بعد ذلك).
أما روهان نايدو، عالم الفلك في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الذي يستعين بتلسكوب جيمس ويب لكشف النقاب عن سمات المجرات المبكرة، فيُفضِّل الاستمتاع باللحظة الحالية بدلا من أن يرنو بقلق إلى المستقبل وما سيحمله من اختراعات جديدة بعدما يترصد التلسكوب ويب الفناء أو يعفو عليه الزمن. ومع ذلك، ما زال ينبعث في نفسه شعور بالحماس تجاه مستقبل الفضاء بقوله: "كيف لا يمكن لذلك كله ألا يُثير في نفسك التفاؤل ونحن منذ مئة عام فقط كنا بالكاد نعلم بوجود مجرات أخرى غير مجرتنا في الفضاء!".
إذا ما تأملنا في مستقبلنا البشري، فلن نجد مجالا يمكن أن يربطنا بأكثر صفاتنا ضعفا وهشاشة وأشدها جوهرية بقدر ما يفعل الفضاء. (شترستوك)
يحفزني التفكير في مُهمة "دراغون فلاي" (Dragonfly)، وفي عام 2034 الذي ستهبط فيه على سطح تيتان، عليّ التأمل في جميع الأشياء التي لم تحدث بعد في حياتي، وما سيؤول إليه مستقبلي بحلول الوقت الذي سأبلغ فيه 44 عاما. عندما أفكر في ذلك، ينتفض داخلي بتيار من مشاعر مختلطة من التفاؤل والرهبة والحنين إلى نفسي المستقبلية. صحيح أن من الغريب أن يراودنا شعور بالحنين تجاه مستقبل لم يحدث بعد، لكن ذلك بالضبط هو ما يقدمه لنا مجال الفضاء.
هذه الظاهرة التي تجعلنا نرنو إلى المستقبل بلمحة من حنين، سبق وأشار إليها علماء النفس على أنها "حنين استباقي" (Anticipatory nostalgia). ومن المفارقات العجيبة أن البشر قادرون على التخطيط لإطلاق مركبة فضائية للهبوط على أحد الأقمار البعيدة في عام معين، وهم على ثقة إلى حدٍّ ما من أن خطتهم ستُكلَّل بالنجاح رغم التحديات التي تواجهها رحلات الفضاء، في حين لا يمكن لأحد منهم أن يتنبأ بمسار حياته بالدقة ذاتها التي يتنبأ بها لرحلات الفضاء.
عندما تحدثت مع بعض علماء الفلك عن ذاك الشعور بالحنين الذي يسكنني، تفهَّم العديد منهم تماما ما أشعر به لكن لم يراودهم الشعور ذاته. ولتفسير ذلك، تقول ليزا ميسيري، عالمة الأنثروبولوجيا في جامعة ييل الأميركية، التي كتبت سابقا عن الطريقة التي تبناها علماء الكواكب لجعل الكون ذا مغزى لعامة الناس، إن الفضاء لا يجعلها تشعر بالسعادة، أما هذه التأملات التي يلذ لنا أن نستعيدها ونجترها إلى مخيلتنا ما هي إلا نتيجة لمحاولتنا تحويل نطاق كوني شاسع إلى نطاق بشري. ولكي نجد نهاية لاضطرابنا إزاء هذه الفجوة، يلجأ الجميع في النهاية إلى طريقة يمكن من خلالها إيجاد معنى إزاء هذه المقاييس الزمنية المُبهمة أو العصية على الفهم.
ربما تُعَدُّ آن درويان، المؤلفة والمنتجة الأميركية التي تخصصت في إنتاج الأفلام الوثائقية حول علم الكون والأدبيات العلمية، أفضل شخص مؤَهَّل للتحدث عن التأمل العميق للكون. فرغم أن دوريان لم تكن عالمة فلك، فإنها ساهمت في إنشاء "السجل الذهبي" (The Golden Record)، (وهو الاسم الذي يُطلَق على الرسالة الموجودة على متن مسبارَيْ فوياجر 1 و2، المُصممة شكل أسطواني من النحاس المطلي بالذهب)، وهو كبسولة زمنية للبشرية تندفع بعيدا عن الأرض محمولة على مسبارَيْ فوياجر، وتتضمن صورا لأشخاص، ومقاطع صوتية عن الطقس والحياة البرية، وتحيات بعشرات اللغات، وموسيقى، جميعها موجهة إلى أي حضارة يمكن أن تكون في الفضاء.
السجل الذهبي: الكبسولة الزمنية المحمولة على مسبارَيْ فوياجر لأي حضارة يمكن أن تكون في الفضاء (مواقع التواصل)
يتضمن السجل الذهبي أيضا الموجات الدماغية لدرويان نفسها بعدما خضعت لفحص دماغي أثناء فترة وقوعها في الحب مع كارل ساغان (عالم الفلك الأميركي الشهير الذي لعب دورا مهما في تعزيز البحث عن المخلوقات الذكية خارج الكرة الأرضية)، وكان متعاونا مع دوريان في هذا المشروع (وتزوجها لاحقا). كانت درويان في الثامنة والعشرين من عمرها عندما بدأت مهمات فوياجر، بينما أصبحت تبلغ الآن 73 عاما، ووصفت مشاركتها في هذه المهمة بأنها أقرب إلى إخبار الأبدية (أننا كنا هنا يوما ما قبل أن تُمحَى آثارنا). تقول دوريان عن هذه التجربة: "أعتقد أنها في الواقع حررتني من خوفي من الموت، إذ يبدو موتي الآن وكأنه إتمام أو ختام لهذا الحدث الذي كان محوريا للغاية في حياتي".
قد يكون التأمل الكوني العميق تمرينا لرفع معنوياتنا ولتأكيد وجود عجائب هائلة ننتظر أن نشهد عليها بعد عامين أو حتى 20 عاما من الآن، كما أنه أيضا تذكير بكل جمال الكون الذي لن نعيش حتى يتسنى لنا رؤيته. كم تمنتْ دوريان أن يكون ساغان، الذي توفي عام 1996، موجودا الآن ليشهد على مهمة مثل "دراغون فلاي"، إذ كان من أوائل العلماء الذين افترضوا أن تيتان يضم على سطحه أجساما من الميثان السائل التي قد تؤهله ليكون بيئة مواتية لاحتضان حياة على سطحه، لذا حث ساغان حينذاك ناسا على إطلاق رحلات إلى هناك. تختتم دوريان حديثها قائلة: "لا أعلم حتى ما إذا كنت سأبقى هنا حتى عام 2034، لكن ما أعلمه جيدا أنه حتى عام 2034 و2534 و3034، سيظل مسبارَيْ فوياجر يتحركان".
على غرار دوريان، لا أعلم أيضا ما الوجهة التي ستتخذها حياتنا أو بماذا سأكون منشغلة حينما تهبط الدراغون فلاي على سطح تيتان، لكن بإمكاني على الأقل تخيّل ما سيحدث، ربما سأجلس حينها على مكتبي لأكتب مقالا عن هذه المهمة وأشعر بأن ظهري يؤلمني أكثر من ذي قبل. وفي وقت لاحق من تلك الليلة، بعد أن أنتهي من الكتابة، سأخرج لأرنو إلى السماء ليلا باحثة عن تلك الومضات المألوفة والبراقة للنجوم والكواكب وأتساءل: "أين ذهبت جميع تلك الأعوام التي غادرتنا؟".