شريف صالح
"أنت في وحدتك بلد مزدحم"، تنطبق مقولة رفائيل ألبيرتي على رحلة أمينة رزق (15 نيسان (أبريل) 1910 ـ 24 آب (أغسطس) 2003)، فهي عمّرت إلى ما بعد التسعين، ومع ذلك فضّلت العزلة، واكتفت بنيل هورمون السعادة من خشبة المسرح وكاميرا السينما والتلفزيون. قلّصت ذاتها الحقيقية لمصلحة ذاتها المبدعة. فارتضت أقل ما يمكن أن تمنحه لها الدنيا مقابل تصفيق وإعجاب الجمهور.
ضرب بالكرباج
في قرية قريبة من طنطا ولدت أمينة محمد رزق الجعفري لأب مهيب ومتزمّت يكبر أمها بنحو ربع قرن. ورأت في طفولتها اختراع السينما وانبهرت به، وحين عادت إلى البيت وجدت الأب ينتظرها بالكرباج لولا تدخّل الأم.
في تلك الآونة أيضاً تعرفت على "سيرك الحلو"، ولم تنبهر بألعاب الخفّة وعروض الحيوانات قدر انبهارها بالفصل التمثيلي في الختام.
وحدث أن توفي الأب تاركاً إرثاً لا بأس به، أغرى زعيم عصابة شهيراً بالسطو على الأم وابنتها، لكن أحد أفراد العصابة كان يعرف الأب، فأخبر الأسرة، فقرّروا بيع ما يملكونه والانتقال إلى القاهرة في حي روض الفرج، حيث الملاهي والمسارح الصيفية.
أربع نساء عشن معاً: الجدة والأم والابنة، والخالة أمينة محمد التي كانت تكبرها بعامين فقط وتمتعت بالجرأة، حيث اعتادت أخذ ابنة اختها إلى المسارح للفرجة، ثم تشجعتا لأداء فقرة في مسرح علي الكسار.
وحين علمتا أنّ يوسف بك وهبي أسّس فرقة مسرح رمسيس، ويطلب "بنات عائلات" ذهبتا إليه، فأخبرهما أنّهما ستتدربان شهرين قبل نيل راتب، شرط موافقة العائلة. فسرقت ختم الجدة لتوقيع العقد الذي ضمّ شرطاً جزائياً مقداره 100 جنيه. وبسبب الشرط وافقت الأم على أن تصحبها.
أكاديمية رمسيس
رغم فتوى أزهرية بأنّ الفتاة المسلمة يُحرّم عليها دينها إذا دخلت مجال الفن، انضمّت أمينة في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1924 إلى فرقة رمسيس، وكان هناك نجمات سبقنها للشهرة، مثل فاطمة رشدي وروز اليوسف وزينب صدقي وروحية خالد وفردوس حسن وعلوية جميل.
وبعد دور قصير لشخصية صبي أعرج في "راسبوتين"، عرض عليها أستاذها دور الشابة في مسرحية "الذبائح"، فاعترضت بشدّة روز اليوسف التي رغبت في الدور، وانتهى الموقف بانسحابها من الفرقة.
لم تكمل أمينة تعليمها ولم تلتحق بمعهد تمثيل، لكنها تعلّمت كل شيء في مسرح رمسيس، إلى أن أصبحت بطلتها الأولى. وسافرت معها إلى مختلف المدن المصرية، حيث اعتادت قضاء أسبوعين في الوجه البحري ومثلهما في الوجه القبلي، إضافة إلى رحلات إلى بلاد الشام والخليج وأميركا اللاتينية، إيماناً من يوسف وهبي نفسه بأنّ المسرح يجب أن يذهب إلى الجمهور. لدرجة أنّ أمينة قدّمت "غادة الكاميليا" الفرنسية الشهيرة، أمام جمهور من الفلاحين في السنبلاوين، وتحت زخات المطر!
كانت الفرقة الوحيدة التي استمرت لأكثر من 30 عاماً، وخرّجت ثلاثة أجيال من كبار الفنانين، وتعوّدت أن تقدّم في الموسم الواحد حوالى 25 مسرحية، ترتكز على نص تراجيدي، وليس أوبريتات غنائية واسكتشات هزلية كما في مسرح الكسار والريحاني ومنيرة المهدية.
كما كان لمسرح رمسيس طقوسه الصارمة، فالستارة حمراء وتُفتح في دقيقة محدّدة، والعرض بمصاحبة أوركسترا حيّة، والأزياء والأثاث خصيصاً من إيطاليا. وكانت الجدران ترتج لأداء نجوم الفرقة، أمثال زكي رستم وحسن البارودي وحسين رياض.
لا أحد يعلم بدقّة عدد المسرحيات التي مثلتها أمينة ما بين "راسبوتين" 1924 إلى "الأرنب الأسود" 1999، لكن في تقديرها أنّها 500 مسرحية، ما بين فرقة رمسيس ثم المسرح القومي، وتأرجحت النصوص ما بين كلاسيكيات عالمية، ونصوص عربية وتراثية مثل "مجنون ليلى" و"شجر الدر"، ولم تخل بعض العروض من انتقاد الطبقة الأرستقراطية والدفاع عن المهمّشين مثل "أولاد الفقراء". لدرجة أنّ الباشوات كانوا يقولون: "هيا بنا إلى مسرح رمسيس للفرجة على يوسف وهبي وهو يشتمنا".
وتعلّمت من المسرح: دقّة المواعيد، الإلتزام، البحث وراء الشخصية، الإخلاص والتفاني، واتقان اللغة العربية، والثقافة الواسعة، وقوة الإحساس، والمهارة في التنقّل بين عشرات الشخصيات، ففي العرض الواحد تعوّدت أن تلعب دور شابة في فصلين والأم في فصلين.
بطلة أول فيلم ناطق
كانت صاحبة الرقم القياسي كأكثر ممثلة وقفت على خشبة المسرح، رغم أنّ تراثها اندثر للأسف، وتصدّرت أغلفة المجلات آنذاك. وبفضل يوسف وهبي أيضاً انضمّت إلى السينما، فكانت بطلة أول فيلم ناطق هو "أولاد الذوات" عام 1931، وسبقه الفيلم الصامت "سعاد الغجرية" 1928، وصولًا لآخر أفلامها كارتون "الفارس والأميرة" 2020.
ظلّت حاضرة باستمرار على شاشة السينما، وصاحبة الرقم القياسي عبر مشوار فني امتد لـ 80 عاماً. ولديها 8 أفلام ضمن أهم 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية هي: أين عمرى 1957، دعاء الكروان 1959، بداية ونهاية 1960، قنديل أم هاشم 1968، أريد حلاً 1975 الذي نالت عنه جائزة، السقا مات 1977، العار 1982، والكيت كات.
في معظم أفلامها كانت الأم ومنها أم الزعيم مصطفى كامل في فيلم باسمه، وأم "أحمد عاصم" (صالح سليم) في "الشموع السوداء"، وعاشور الناجي (عزت العلايلي) في "التوت والنبوت"، وأم حمامة (محمود حميدة) في "حرب الفراولة"، إضافة إلى حليمة السعدية مرضعة الرسول في "الشيماء".
واشتغلت مع كل النجوم من كل الأجيال، فمع عادل إمام وحده لديها العديد من الأفلام منها: "أمهات في المنفي" و "الإنس والجن" و"المولد"، كما التقت مع فاتن حمامة في أفلام كثيرة ربما كان آخرها "أرض الأحلام".
وكان لها تعاون مع معظم الروائيين وكتّاب الدراما ومع المخرجين الكبار باستثناء يوسف شاهين وتوفيق صالح.
ضيفة كل بيت
ظلّ حضور أمينة في الإذاعة والتلفزيون مستمراً لسنوات طويلة، ومن أشهر مسلسلاتها: "أحلام الفتى الطائر"، "البشاير"، "الأيام"، "ليلة القبض على فاطمة"، "أديب"، "السيرة الهلالية"، "بوابة المتولي"، "خالتي صفية والدير"، "أوبرا عايدة"، "السمان والخريف"، "عصفور النار" وآخرها "زينات والثلاث بنات". ومن المسلسلات الدينية والتاريخية: "محمد رسول الله" و"عمر بن عبد العزيز"، و "هارون الرشيد"، و"القضاء في الإسلام"، إضافة إلى فوازير "إيما وسما". من ثم كانت تدخل يومياً كل بيت مصري وعربي، فيشعر المشاهد أنّها الأخت والعمة والخالة والأم والجدة، بملامحها الطبيعية المألوفة وبحة صوتها المميزة.
لا حصر دقيق لأعمالها السينمائية والتلفزيونية والإذاعية، لكنها لا تقلّ عن 500، ليصل إجمالي ما قدّمته إلى 1000 عمل فني، وهو رقم قياسي آخر.
ففي أي عمل يحتاج إلى أم أو جدة أو عجوز فلاحة وصعيدية، بالعامية والفصحى، لن يكون هناك من يتفوّق عليها، وهي دائماً جاهزة ومنضبطة، ومحتفظة بقوة الإحساس والتعبير الدرامي بصوتها والانفعال بملامح وجهها، مع إخفاء الخبرة والمهارة وراء أداء عفوي تلقائي.
هل كانت راهبة؟
مثلما كانت تحضر إلى خشبة المسرح قبل العرض بثلاث ساعات، كانت تصل إلى اللوكيشن مبكراً جداً، وتحفظ دورها ببراعة، ولا تقبل أي تشويش أثناء الأداء. واشتهرت بألقاب مثل "عذراء الشاشة" و "راهبة الفن" لأنّها لم تتزوج، رغم أنّها تلقّت عروضاً كثيرة أحدها من ثري عربي، وتمتعت في شبابها بقوام ممشوق، وعينين خضراوين. لكنها أنهت كل تلك المشاريع، منها عقد قرانها على ضابط مصري.
كما قدّم الدها نموذجاً مخيفاً للزوج جعلها متوجسة من أي رجل، إضافة إلى ارتباطها العاطفي بأمها التي ظلّت ترعاها كأنّها طفلة، فآثرت ألاّ تتخلّى عنها في شيخوختها، وقد عمّرت إلى 109 سنوات، فتحولتا إلى صديقتين لعقود.
السبب الثالث كان إخلاصها للفن، فأحست أنّ ما تناله من تصفيق وإعجاب لا يُقارن بمكاسب الزواج، إضافة إلى تجارب خالتها أمينة محمد التي لا ترسو على شاطئ، لا في زيجاتها ولا عملها، من ممثلة إلى منتجة ثم راقصة، والهجرة خارج مصر والعودة إلى العمل في السياحة، حيث حفلت حياتها بالمغامرات والمآسي، ما جعل أمينة تبالغ في حرصها على التمسك بصيغة حياتها.
سبب خامس هو حب من طرف واحد لأستاذها يوسف وهبي الذي يكبرها بنحو 10 سنوات، وظلت ملازمة له كظلّه قرابة 60 عاماً، رغم أنّه تزوج ثلاث مرات، لم تفارقه، بل كانت تتردّد عليه يومياً في شيخوخته، وفي يوم جنازته انهارت من البكاء، وكان معروفاً عنها أنّها تُقسم بحياة "يوسف بيه" ومن أراد منها شيئاً يترجاها باسمه.
مع ذلك نفت في كل لقاءاتها أنّها أحبته، لكنه كان المعلّم العظيم الذي تعرّفت إليه منذ كانت طفلة في الثالثة عشرة. لعلّها محقّة أنّها لم تفكّر فيه كزوج، لكن حضوره الممتد كرجل، كان بمثابة بديل الأخ والصديق والأب والحبيب، في علاقة وفاء لا مثيل لها. واكتفت بالقول مازحة: "نفذت بجلدي من جنس الرجال".
اعتزلي يا أمونة
رأت أمينة في شبابها ممثلات كبيرات مثل فاطمة رشدي، يخسرن كل شيء، وهناك من يبتعدن لكبر السن، لذلك ورغم نجوميتها المسرحية، حرصت ألاّ تستسلم للزمن، حتى لو استدعوها في مشهد كما حدث في "ناصر 56" كرمز للأم (مصر)، فكل ما يهمّها أن يترك مشهدها بصمة.
ومهما ضايقتها متاعب الشيخوخة وآلامها، كانت تتحوّل إلى طاقة هائلة أمام الكاميرا أو على خشبة المسرح. وقد روى لي الفنان يحيى الفخراني أثناء تقديمه مسرحية "سعدون المجنون"، انّه رآها متعبة جداً وتسند عليه، فذهب إلى المخرج وأخبره أنّها مريضة فردّ عليه المخرج "لا تشغل بالك"، وبالفعل بمجرد وقوفها على الخشبة دبّت فيها طاقة عجيبة.
وفي أحد الأيام ذهبت للتصوير أمام محمود مرسي فرآها مصابة في رجلها، فداعبها قائلاً: "لماذا لا تعتزلي يا أمونة؟" فردّت عليه: "لو اعتزلت أموت".
ندابة مسرح رمسيس
أُشيع عنها ظلماً لقب "ندابة مسرح رمسيس" بسبب نجاحها في المسرحيات الميلودرامية، مثلما اشتهرت كأم رغم أنّها لم تتزوج ولم تُنجب. وحاولت أمينة كثيراً التمرّد على صورة الأم الضحية، والطيبة المغلوبة على أمرها.
ومن مساحات التمرّد في فيلم "عاصفة من الحب" لعبت دور الحماة القاسية، وفي مسرحيات: "الاستعباد" جسّدت دور شابة خائنة لأسرتها ووطنها، وفي "شذوذ" دور عانس حقود على اختها وزوجها، وفي "إنّها حقاً عائلة محترمة" مع فؤاد المهندس وشويكار، لعبت دوراً كوميدياً لا يُنسى من خلال شخصية "علوية هانم" المرحة المتصابية.
كيف عاشت قرناً؟
عاشت أمينة قرابة قرن من الزمان، معظمها في شقتها في الزمالك، وكانت حذرة في الإنفاق، لا تعتمد على أحد يساعدها في البيت، وتذهب بنفسها للتسوّق من سوق شعبي في الكيت كات، خصوصاً من السيدات المعيلات، ولا تهتم بالمكياج وصيحات الموضة، ولا تملك سوى سيارة صغيرة من طراز الأربعينات، وقلّما تشتري ملابس جديدة، بل تعيد تدوير ملابس أعمالها. وتقضي يومها في حفظ أدوارها والقراءة وأحياناً الرسم. وأجمل نزهة لديها العودة إلى جذورها في الريف. لدرجة أنّ ممثلة تنمّرت على نمط حياتها بعدما شوهدت تحمل بطيخة وقالت لها إنّها جلبت العار للفنانات.
كما ظلّت بعيدة عن الحفلات والمهرجانات إلاّ فيما ندر، مع ذلك كُرّمت من جميع رؤساء مصر ومن دول عربية على أعلى مستوى، منها تونس والمغرب، واختارها الرئيس مبارك عضواً في مجلس الشورى لتصبح أول فنانة تنال هذا الشرف.
كان الفن وحده مناطاً بالكبرياء وأساس الوجود بالنسبة اليها، في حين عملت في الحياة الواقعية على إنكار ذاتها والعيش أقرب إلى الزهد. كأنّها كانت تثبت عظمة أمينة رزق وإخلاصها لخشبة المسرح وشاشة السينما والتلفزيون، كانت تمحو حضورها من الواقع.
"أنت في وحدتك بلد مزدحم"، تنطبق مقولة رفائيل ألبيرتي على رحلة أمينة رزق (15 نيسان (أبريل) 1910 ـ 24 آب (أغسطس) 2003)، فهي عمّرت إلى ما بعد التسعين، ومع ذلك فضّلت العزلة، واكتفت بنيل هورمون السعادة من خشبة المسرح وكاميرا السينما والتلفزيون. قلّصت ذاتها الحقيقية لمصلحة ذاتها المبدعة. فارتضت أقل ما يمكن أن تمنحه لها الدنيا مقابل تصفيق وإعجاب الجمهور.
ضرب بالكرباج
في قرية قريبة من طنطا ولدت أمينة محمد رزق الجعفري لأب مهيب ومتزمّت يكبر أمها بنحو ربع قرن. ورأت في طفولتها اختراع السينما وانبهرت به، وحين عادت إلى البيت وجدت الأب ينتظرها بالكرباج لولا تدخّل الأم.
في تلك الآونة أيضاً تعرفت على "سيرك الحلو"، ولم تنبهر بألعاب الخفّة وعروض الحيوانات قدر انبهارها بالفصل التمثيلي في الختام.
وحدث أن توفي الأب تاركاً إرثاً لا بأس به، أغرى زعيم عصابة شهيراً بالسطو على الأم وابنتها، لكن أحد أفراد العصابة كان يعرف الأب، فأخبر الأسرة، فقرّروا بيع ما يملكونه والانتقال إلى القاهرة في حي روض الفرج، حيث الملاهي والمسارح الصيفية.
أربع نساء عشن معاً: الجدة والأم والابنة، والخالة أمينة محمد التي كانت تكبرها بعامين فقط وتمتعت بالجرأة، حيث اعتادت أخذ ابنة اختها إلى المسارح للفرجة، ثم تشجعتا لأداء فقرة في مسرح علي الكسار.
وحين علمتا أنّ يوسف بك وهبي أسّس فرقة مسرح رمسيس، ويطلب "بنات عائلات" ذهبتا إليه، فأخبرهما أنّهما ستتدربان شهرين قبل نيل راتب، شرط موافقة العائلة. فسرقت ختم الجدة لتوقيع العقد الذي ضمّ شرطاً جزائياً مقداره 100 جنيه. وبسبب الشرط وافقت الأم على أن تصحبها.
أكاديمية رمسيس
رغم فتوى أزهرية بأنّ الفتاة المسلمة يُحرّم عليها دينها إذا دخلت مجال الفن، انضمّت أمينة في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1924 إلى فرقة رمسيس، وكان هناك نجمات سبقنها للشهرة، مثل فاطمة رشدي وروز اليوسف وزينب صدقي وروحية خالد وفردوس حسن وعلوية جميل.
وبعد دور قصير لشخصية صبي أعرج في "راسبوتين"، عرض عليها أستاذها دور الشابة في مسرحية "الذبائح"، فاعترضت بشدّة روز اليوسف التي رغبت في الدور، وانتهى الموقف بانسحابها من الفرقة.
لم تكمل أمينة تعليمها ولم تلتحق بمعهد تمثيل، لكنها تعلّمت كل شيء في مسرح رمسيس، إلى أن أصبحت بطلتها الأولى. وسافرت معها إلى مختلف المدن المصرية، حيث اعتادت قضاء أسبوعين في الوجه البحري ومثلهما في الوجه القبلي، إضافة إلى رحلات إلى بلاد الشام والخليج وأميركا اللاتينية، إيماناً من يوسف وهبي نفسه بأنّ المسرح يجب أن يذهب إلى الجمهور. لدرجة أنّ أمينة قدّمت "غادة الكاميليا" الفرنسية الشهيرة، أمام جمهور من الفلاحين في السنبلاوين، وتحت زخات المطر!
كانت الفرقة الوحيدة التي استمرت لأكثر من 30 عاماً، وخرّجت ثلاثة أجيال من كبار الفنانين، وتعوّدت أن تقدّم في الموسم الواحد حوالى 25 مسرحية، ترتكز على نص تراجيدي، وليس أوبريتات غنائية واسكتشات هزلية كما في مسرح الكسار والريحاني ومنيرة المهدية.
كما كان لمسرح رمسيس طقوسه الصارمة، فالستارة حمراء وتُفتح في دقيقة محدّدة، والعرض بمصاحبة أوركسترا حيّة، والأزياء والأثاث خصيصاً من إيطاليا. وكانت الجدران ترتج لأداء نجوم الفرقة، أمثال زكي رستم وحسن البارودي وحسين رياض.
لا أحد يعلم بدقّة عدد المسرحيات التي مثلتها أمينة ما بين "راسبوتين" 1924 إلى "الأرنب الأسود" 1999، لكن في تقديرها أنّها 500 مسرحية، ما بين فرقة رمسيس ثم المسرح القومي، وتأرجحت النصوص ما بين كلاسيكيات عالمية، ونصوص عربية وتراثية مثل "مجنون ليلى" و"شجر الدر"، ولم تخل بعض العروض من انتقاد الطبقة الأرستقراطية والدفاع عن المهمّشين مثل "أولاد الفقراء". لدرجة أنّ الباشوات كانوا يقولون: "هيا بنا إلى مسرح رمسيس للفرجة على يوسف وهبي وهو يشتمنا".
وتعلّمت من المسرح: دقّة المواعيد، الإلتزام، البحث وراء الشخصية، الإخلاص والتفاني، واتقان اللغة العربية، والثقافة الواسعة، وقوة الإحساس، والمهارة في التنقّل بين عشرات الشخصيات، ففي العرض الواحد تعوّدت أن تلعب دور شابة في فصلين والأم في فصلين.
بطلة أول فيلم ناطق
كانت صاحبة الرقم القياسي كأكثر ممثلة وقفت على خشبة المسرح، رغم أنّ تراثها اندثر للأسف، وتصدّرت أغلفة المجلات آنذاك. وبفضل يوسف وهبي أيضاً انضمّت إلى السينما، فكانت بطلة أول فيلم ناطق هو "أولاد الذوات" عام 1931، وسبقه الفيلم الصامت "سعاد الغجرية" 1928، وصولًا لآخر أفلامها كارتون "الفارس والأميرة" 2020.
ظلّت حاضرة باستمرار على شاشة السينما، وصاحبة الرقم القياسي عبر مشوار فني امتد لـ 80 عاماً. ولديها 8 أفلام ضمن أهم 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية هي: أين عمرى 1957، دعاء الكروان 1959، بداية ونهاية 1960، قنديل أم هاشم 1968، أريد حلاً 1975 الذي نالت عنه جائزة، السقا مات 1977، العار 1982، والكيت كات.
في معظم أفلامها كانت الأم ومنها أم الزعيم مصطفى كامل في فيلم باسمه، وأم "أحمد عاصم" (صالح سليم) في "الشموع السوداء"، وعاشور الناجي (عزت العلايلي) في "التوت والنبوت"، وأم حمامة (محمود حميدة) في "حرب الفراولة"، إضافة إلى حليمة السعدية مرضعة الرسول في "الشيماء".
واشتغلت مع كل النجوم من كل الأجيال، فمع عادل إمام وحده لديها العديد من الأفلام منها: "أمهات في المنفي" و "الإنس والجن" و"المولد"، كما التقت مع فاتن حمامة في أفلام كثيرة ربما كان آخرها "أرض الأحلام".
وكان لها تعاون مع معظم الروائيين وكتّاب الدراما ومع المخرجين الكبار باستثناء يوسف شاهين وتوفيق صالح.
ضيفة كل بيت
ظلّ حضور أمينة في الإذاعة والتلفزيون مستمراً لسنوات طويلة، ومن أشهر مسلسلاتها: "أحلام الفتى الطائر"، "البشاير"، "الأيام"، "ليلة القبض على فاطمة"، "أديب"، "السيرة الهلالية"، "بوابة المتولي"، "خالتي صفية والدير"، "أوبرا عايدة"، "السمان والخريف"، "عصفور النار" وآخرها "زينات والثلاث بنات". ومن المسلسلات الدينية والتاريخية: "محمد رسول الله" و"عمر بن عبد العزيز"، و "هارون الرشيد"، و"القضاء في الإسلام"، إضافة إلى فوازير "إيما وسما". من ثم كانت تدخل يومياً كل بيت مصري وعربي، فيشعر المشاهد أنّها الأخت والعمة والخالة والأم والجدة، بملامحها الطبيعية المألوفة وبحة صوتها المميزة.
لا حصر دقيق لأعمالها السينمائية والتلفزيونية والإذاعية، لكنها لا تقلّ عن 500، ليصل إجمالي ما قدّمته إلى 1000 عمل فني، وهو رقم قياسي آخر.
ففي أي عمل يحتاج إلى أم أو جدة أو عجوز فلاحة وصعيدية، بالعامية والفصحى، لن يكون هناك من يتفوّق عليها، وهي دائماً جاهزة ومنضبطة، ومحتفظة بقوة الإحساس والتعبير الدرامي بصوتها والانفعال بملامح وجهها، مع إخفاء الخبرة والمهارة وراء أداء عفوي تلقائي.
هل كانت راهبة؟
مثلما كانت تحضر إلى خشبة المسرح قبل العرض بثلاث ساعات، كانت تصل إلى اللوكيشن مبكراً جداً، وتحفظ دورها ببراعة، ولا تقبل أي تشويش أثناء الأداء. واشتهرت بألقاب مثل "عذراء الشاشة" و "راهبة الفن" لأنّها لم تتزوج، رغم أنّها تلقّت عروضاً كثيرة أحدها من ثري عربي، وتمتعت في شبابها بقوام ممشوق، وعينين خضراوين. لكنها أنهت كل تلك المشاريع، منها عقد قرانها على ضابط مصري.
كما قدّم الدها نموذجاً مخيفاً للزوج جعلها متوجسة من أي رجل، إضافة إلى ارتباطها العاطفي بأمها التي ظلّت ترعاها كأنّها طفلة، فآثرت ألاّ تتخلّى عنها في شيخوختها، وقد عمّرت إلى 109 سنوات، فتحولتا إلى صديقتين لعقود.
السبب الثالث كان إخلاصها للفن، فأحست أنّ ما تناله من تصفيق وإعجاب لا يُقارن بمكاسب الزواج، إضافة إلى تجارب خالتها أمينة محمد التي لا ترسو على شاطئ، لا في زيجاتها ولا عملها، من ممثلة إلى منتجة ثم راقصة، والهجرة خارج مصر والعودة إلى العمل في السياحة، حيث حفلت حياتها بالمغامرات والمآسي، ما جعل أمينة تبالغ في حرصها على التمسك بصيغة حياتها.
سبب خامس هو حب من طرف واحد لأستاذها يوسف وهبي الذي يكبرها بنحو 10 سنوات، وظلت ملازمة له كظلّه قرابة 60 عاماً، رغم أنّه تزوج ثلاث مرات، لم تفارقه، بل كانت تتردّد عليه يومياً في شيخوخته، وفي يوم جنازته انهارت من البكاء، وكان معروفاً عنها أنّها تُقسم بحياة "يوسف بيه" ومن أراد منها شيئاً يترجاها باسمه.
مع ذلك نفت في كل لقاءاتها أنّها أحبته، لكنه كان المعلّم العظيم الذي تعرّفت إليه منذ كانت طفلة في الثالثة عشرة. لعلّها محقّة أنّها لم تفكّر فيه كزوج، لكن حضوره الممتد كرجل، كان بمثابة بديل الأخ والصديق والأب والحبيب، في علاقة وفاء لا مثيل لها. واكتفت بالقول مازحة: "نفذت بجلدي من جنس الرجال".
اعتزلي يا أمونة
رأت أمينة في شبابها ممثلات كبيرات مثل فاطمة رشدي، يخسرن كل شيء، وهناك من يبتعدن لكبر السن، لذلك ورغم نجوميتها المسرحية، حرصت ألاّ تستسلم للزمن، حتى لو استدعوها في مشهد كما حدث في "ناصر 56" كرمز للأم (مصر)، فكل ما يهمّها أن يترك مشهدها بصمة.
ومهما ضايقتها متاعب الشيخوخة وآلامها، كانت تتحوّل إلى طاقة هائلة أمام الكاميرا أو على خشبة المسرح. وقد روى لي الفنان يحيى الفخراني أثناء تقديمه مسرحية "سعدون المجنون"، انّه رآها متعبة جداً وتسند عليه، فذهب إلى المخرج وأخبره أنّها مريضة فردّ عليه المخرج "لا تشغل بالك"، وبالفعل بمجرد وقوفها على الخشبة دبّت فيها طاقة عجيبة.
وفي أحد الأيام ذهبت للتصوير أمام محمود مرسي فرآها مصابة في رجلها، فداعبها قائلاً: "لماذا لا تعتزلي يا أمونة؟" فردّت عليه: "لو اعتزلت أموت".
ندابة مسرح رمسيس
أُشيع عنها ظلماً لقب "ندابة مسرح رمسيس" بسبب نجاحها في المسرحيات الميلودرامية، مثلما اشتهرت كأم رغم أنّها لم تتزوج ولم تُنجب. وحاولت أمينة كثيراً التمرّد على صورة الأم الضحية، والطيبة المغلوبة على أمرها.
ومن مساحات التمرّد في فيلم "عاصفة من الحب" لعبت دور الحماة القاسية، وفي مسرحيات: "الاستعباد" جسّدت دور شابة خائنة لأسرتها ووطنها، وفي "شذوذ" دور عانس حقود على اختها وزوجها، وفي "إنّها حقاً عائلة محترمة" مع فؤاد المهندس وشويكار، لعبت دوراً كوميدياً لا يُنسى من خلال شخصية "علوية هانم" المرحة المتصابية.
كيف عاشت قرناً؟
عاشت أمينة قرابة قرن من الزمان، معظمها في شقتها في الزمالك، وكانت حذرة في الإنفاق، لا تعتمد على أحد يساعدها في البيت، وتذهب بنفسها للتسوّق من سوق شعبي في الكيت كات، خصوصاً من السيدات المعيلات، ولا تهتم بالمكياج وصيحات الموضة، ولا تملك سوى سيارة صغيرة من طراز الأربعينات، وقلّما تشتري ملابس جديدة، بل تعيد تدوير ملابس أعمالها. وتقضي يومها في حفظ أدوارها والقراءة وأحياناً الرسم. وأجمل نزهة لديها العودة إلى جذورها في الريف. لدرجة أنّ ممثلة تنمّرت على نمط حياتها بعدما شوهدت تحمل بطيخة وقالت لها إنّها جلبت العار للفنانات.
كما ظلّت بعيدة عن الحفلات والمهرجانات إلاّ فيما ندر، مع ذلك كُرّمت من جميع رؤساء مصر ومن دول عربية على أعلى مستوى، منها تونس والمغرب، واختارها الرئيس مبارك عضواً في مجلس الشورى لتصبح أول فنانة تنال هذا الشرف.
كان الفن وحده مناطاً بالكبرياء وأساس الوجود بالنسبة اليها، في حين عملت في الحياة الواقعية على إنكار ذاتها والعيش أقرب إلى الزهد. كأنّها كانت تثبت عظمة أمينة رزق وإخلاصها لخشبة المسرح وشاشة السينما والتلفزيون، كانت تمحو حضورها من الواقع.