إدمان الموبايل: مقترحٌ لآراء أربعة فلاسفة راحلين
دارا عبدالله 5 أغسطس 2023
هنا/الآن
(Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
ما الذي يمكن أن تقوله الفلسفة عن إدمان الموبايل؟ ليس بغرض النبش في القبور، أو استنطاق العظام، إلا أنّني في هذا النص، سأحاول أن أخمّن وأتوقّع آراء أربعة فلاسفة، كلّهم أمواتٌ، عن ظاهرة تغوّل الهاتف المحمول في حياتنا المعاصرة.
سينيكا والتفرغ من الشيء
عراةٌ نحنُ في هذا العالم من دون هواتفنا، إذ نستخدمها بشكلٍ هستيريّ، وبوتيرةٍ مستمرّة، ومن دون انقطاع. الهاتف أداةٌ رئيسيّة في التواصل مع الآخرين، وإنجاز العمل، والقيام بالمعاملات البنكية، والبحث عن المعلومات، والتنقُّل بين الأمكنة. فرّق الكاتب والفيلسوف الرواقي الروماني، سينيكا (4 قبل الميلاد- 65 بعد الميلاد) Seneca، في كتابه الفلسفيّ الأبرز "عن قصر الحياة"، بين نوعين من الأشخاص: المنشغلٌ بالشيء طوال الوقت، من لا يحقّق التوازن بين واجب الإنجاز وإغراء الإلهاء، والمتفرِّغُ من الشيء، القادر على خلقِ مسافةٍ صحيّةٍ بين إلحاح العمل ولذّة الاستراحة. المتفرّغون قادرون أكثر على الاستمتاع بالحياة، إذ يقول سينيكا: "ثمّة مهامٌ من المستحيل إنجازها عن طريق التفاني الصارم والعمل المطلق في جديّته. مهام تُحَلُّ فقط لما تكون النفس في سكينة والأعصاب في حالة الهدوء". إذا نُقِلَت مقولة سينيكا إلى عالمنا المعاصر، ربّما تصبح كما يلي: "يجب إنجاز المهام الضرورية فقط عن طريق الموبايل. التفرّغ من الموبايل فعّال أكثر من الانشغال به. إطفاء الموبايل، أو إخراجه من الغرفة كليًّا، ربما يساعد على التفرُّغ منه، وبالتالي تقليل فعاليّته كعامل إلهاء وتشويش. ولن يعطّلنا عن أداء المهام الأساسيّة، المهام التي تحتاجُ "سلامًا في النفس"".
دي مونتين وترسُّخ المعلومة في النفس
وجود الموبايل في اليد يعني، نظريًّا، مدخلًا دائمًا لكميّةٍ لا نهائيّة من المعلومات. ولكنّ الإشكاليّة تكمن في ما إذا كانت هذه المعلومات ستصبحُ أداةً فعّالة في الحياة العمليّة لمن يتلقّاها. بحسب الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين/ Michel de Montaigne (1533 ـ 1592) يحتاج المرء بعد تلقّي المعلومة إلى فاصلٍ زمنيّ من أجل عمليتَيْن: الأولى هي ترسيخُ المعلومة في الذهن وإدخالها إلى النفس لتصبح في حيّز اللاوعي، تمامًا كتفاصيل طريقة قيادة السيارة، والثانية هي وضع هذه المعلومة في حيّز التنفيذ ومجال الاستخدام.
"يؤكد الفيلسوف الفرنسي دي مونتين على ضرورة الانقطاع عن تلقّي المعلومات لإعطاء الذهن مساحةً لفهم و"هضم" ما تم إدخاله" |
دي مونتين يشير إلى لا جدوى الاستهلاك السريع للمعلومات من دون المرور في العمليتَيْن: الإدخال بالترسيخ والإخراج بالتنفيذ. ورغم أنّ دي مونتين كان يعيش في عصر أقلَّ رقْمَنَةٍ وسرعة من عصرنا الحالي، حيث كانت الكتب المصدر الأساسي للمعلومات، إلا أنّه يشير في كتابه "مقالات" الصادر عام 1580 عن الآليّة التي يمكن من خلالها تطبيق مقولة لسقراط مثلًا في حياته الشخصية. يجيب الكاتب الفرنسي بأنه عن طريق الانتقال التدريجيّ والبطيء من المعلومة خارج النفس إلى التفكُّر بها داخل النفس، من لحظة التلقّي إلى هدوء المعالجة، من "أكل" المعلومة إلى "هضمها". يقولُ في "مقالات": "الشيء الأعظم في الوجود هو القناعة الداخليّة بأنّك تنتمي إلى نفسك، وهذا يتطلّب شيئَيْن: القدرة على امتصاص وتلقّي كل المعلومات والمؤثِّرات الخارجيَّة، ومن ثم تحويلها إلى ملكيّةٍ ذهنيّةٍ عن طريق الاستخدام". بشكل غير مباشر، يؤكد دي مونتين ضرورة الانقطاع عن تلقّي المعلومات لإعطاء الذهن مساحةً لفهم و"هضم" ما تم إدخاله. وستنادي أطروحته في عالمنا المعاصر بضرورة إطفاء الموبايل والتوقف عن قراءة المعلومات لتثبيت ما تم الاطلاع عليه. تعلمُّ من دون فاصل زمني، هو كالطعام الذي يدخل الجسم ويخرج منه تمامًا كما كان… من دون هضم.
ديكارت والانسحاب من العالم
صحيحٌ أن الموبايل يعني وصولًا إلى كميَّةٍ لا نهائيّة من المعلومات، ولكنّ عالم الرقْمَنة مليءٌ بالمعلومات الخاطئة والآراء المتناقضة والأقوال المتناقضة، الأمر الذي يخلقُ نفسًا متناقضةً وتفكيرًا أعرج وفكرًا غير متّسق، ليبقى السؤال مفتوحًا: ما هو الصحّ والحقيقيّ فعلًا في العالم؟ الفيلسوف الفرنسي ديكارت (1596 ـ 1650) شعر بهذه الإشكاليّة، ليس طبعًا من خلال استخدام الموبايل، بل من خلال نتائج أبحاثه التي كانت متناقضة أحيانًا مع بعضها بعضًا. كي يحمي نفسه من جميع المؤثّرات الخارجيّة المتناقضة والانطباعات التجريبيّة المتضاربة، وكي يصل إلى المعرفة الموضوعيّة غير الملوَّثة بفوضى العالم، عزل ديكارت نفسه عن العالم تمامًا. بعبارة أخرى: قام بـ"إطفاء" العالم كي يفهم جوهر العالم. في كتابه "مقال في المنهج" الصادر عام 1637، يبرّر ديكارت انعزاله عن العالم بأمله في نيل قناعات موضوعية راسخة، إذ يقول: "بعد أن أمضيتُ بضع سنوات محاولًا فهم العالم الواقعي بجسدي، وعيش تجارب شخصيّة جديدة، قرّرتُ يومًا ما أن أنعزلَ عن العالم لأدرس نفسي، ما بداخلي أنا. انعزالي لفهم جميع قواي العقليّة كان قرارًا صحيحًا، وبدا لي أن ابتعادي عن العالم، وغوصي في نفسي، قرّبني من الواقع أكثر، وأكسبني تجارب جديدة". ولأنّ الهاتف المحمول هو عالمنا المعاصر، فإنّ الابتعاد عنه، إطفاؤه ربما، هو أنجع وسيلة لفهم النفس، وإعادة الاتصال بالعالم.
ثورو والطبيعة كشاحن لبطارية الروح
لا شيء ينسيك هاتفك المحمول مثل قضاء الوقت في الطبيعة. يتطلَّب الأمر قليلًا من الشجاعة من أجل ترك الهاتف المحمول وقضاء بضعة أيام في كوخ بالطبيعة المعزولة. الفيلسوف والشاعر الأميركي، هنري ديفيد ثورو/ Henry David Thoreau (1817 ـ 1862) عاش ثلاث سنواتٍ في الطبيعة المنعزلة في كوخٍ في الولايات المتحدة الأميركية في القرن التاسع عشر. ثورو لم يهرب من الهاتف المحمول، بل من التحوّل الصناعي، وصوت الآلات، وضجيج المدن. محاطًا بحديقته التي زرع نباتاتها بيده، والحيوانات البرية، والبحيرة الزرقاء التي تعكس لون السماء، كان الشاعر الأميركي بحساسيّته الدقيقة قادرًا على الاستمتاع ببساطة الحياة من دون أن يطلب منه أحدٌ أن يكون في "حالة تأهب دائم"، مشيرًا إلى الحياة في المدن. بأسلوبه الشعري، وصف ثورو ابتعاده عن الحضارة الصناعية: "نادرًا ما تثير جملٌ انتباهي كما تفعل الطبيعة الصامتة. من منا، مثلًا، لا يريد أن يكون كلبًا ينبح على سطح القمر؟ في الطبيعة، لغة الشعر طفولية وصامتة لا تستطيع الكلام. ما هي المذكرات التي يحتفظ بها الحصان أو الصقر".
عالم الرقمنة اليوم هو عالم التصنيع في زمن ثورو، والموبايل هو معادل الآلة. ولربما يكون الابتعاد عن الموبايل، والغوص في صمت الطبيعة، فرصةً لاكتشاف الشعرية الصامتة للنفس.