في البدء كانت الدمعة... وفي الختام

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • في البدء كانت الدمعة... وفي الختام

    في البدء كانت الدمعة... وفي الختام
    باسم سليمان 4 يوليه 2023
    اجتماع
    (Getty)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    يصوّر ألبير كامو، في روايته "الغريب"، البطل ميرسو، بأنّه عديم الشفقة. وعندما تتم محاكمته لقتله رجلًا، تأتي شهادة الشهود، بأنّه لم يذرف دمعة واحدة خلال جنازة أمّه. هذه المعلومة البسيطة كانت كافية لتجعل القاضي يرجّح كفّة الإدانة بحقّ ميرسو، ومن ثم إصدار الحكم عليه بالإعدام!
    لم تبكِ جاكلين كينيدي زوجها جون، رئيس الولايات المتحدة الأميركية، في جنازته! وعلى الرغم من إلصاق الدموع بأعين النساء، إلا أنّ الحكم على هذا التصرّف من الجمهور كان إيجابيًا! ليس للدموع سيرة واحدة، فقد ارتبطت باللذة والسعادة والحبّ إلى جانب علاقتها الأصلية بالحزن والبكاء. وتعالقت بالصدق والإخلاص والبطولة، إضافة إلى الكذب والخيانة والضعف. لقد قال الشاعر الألماني شليغل تعبيرًا عن هذا الكم الكبير من الازدحام في المعاني الذي تحمله الدموع: "الكلمات! ما هي؟/ دمعةُ واحدة ستقول أكثر منها جميعًا".
    ابتدعت الأساطير عددًا من القصص عن كيفية خلق البشر، ففي الأسطورة البابلية خُلق البشر من دم الإله كنغو، وفي الديانات التوحيدية من التراب، أمّا الفرعونية، فقد خلقوا من دموع الإله رع، حيث أطلق عليهم رع: "أبناء دموعي"، واستكمالًا لهذه الأسطورة، فالنيل الذي يعدّ شريان الحياة في مصر كان يفيض بسبب دموع إيزيس التي سفحتها على موت الإله أوزيريس. ويعزو شعب الماوري في نيوزيلندا في أقاصي الجنوب ندى الصباح إلى دموع الرب رانغي إله السماء، التي ذرفها على الإلهة الأرض عندما انفصل عنها. ولدى الإغريق التصور ذاته، فالندى الصباحي هو دموع الإلهة أورورا على ابنها ممنون.
    كانت ملكة مدينة طيبة نيوب، حفيدة زيوس، قد رزقت بسبعة ذكور وسبع إناث، فتفاخرت على الإلهة ليتو التي لم تنجب غير طفلين هما الإلهان: أرتميس، وأبولو، فانتقما منها لإهانة والدتهما، بأن قتلا جميع أولادها، فطفقت تبكي وتولول وتستعطف زيوس أن ينقذها من بؤسها، فحوّلها إلى حجر لعلّها ترتاح من حزنها، إلا أنّ الحجر ظل يبكي. وهنالك أسطورة تفسيرية تربط الدموع باللؤلؤ، فالفايكينغ يعتقدون بأنّ اللؤلؤ هو الدموع المتجمدة للآلهة فرايا، رمز الحب والتكاثر، وأيضًا إلهة الحرب والموت. حزنت فرايا لاختفاء زوجها الإله أود، فبكت عليه بحرقة، فتحولّت دموعها التي سقطت في البحر إلى لؤلؤ. ونسب التراث العربي اللؤلؤ إلى دموع آدم وحواء بعد هبوطهما من الجنة، ومن هذه الخلفية الأسطورية رسم الفنان مان راي لوحته التي تعرض عينين تتناثر حولهما الدموع كاللآلئ.
    لم تبكِ جاكلين كينيدي زوجها جون، رئيس الولايات المتحدة الأميركية، في جنازته! (Getty)
    يعود أول ذكر للدموع في الحفريات الأثرية إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، إلى الألواح الطينية في رأس شمرا، والتي تتكلم عن موت الإله بعل، وكيف بكته زوجته عنات. وتخبر هذه الألواح بأنّ عنات: "أتخمت نفسها بكاء، حتى صارت تشرب الدموع كالخمر".
    مهما يكن من الأساس الأسطوري للدموع، إلا أنّها شأن إنساني بحت يرتبط بفكره وعواطفه وجسده وثقافته، وكانت لها استخدامات دينية وسياسية وجندرية وأدبية في تاريخها المديد. يقول رولان بارت: "بدموعي أروي قصة، وأنتج أسطورة من الحزن".

    "في الأسطورة البابلية خُلق البشر من دم الإله كنغو، وفي الديانات التوحيدية من التراب، أمّا الفرعونية، فقد خلقوا من دموع الإله رع، حيث أطلق عليهم رع: "أبناء دموعي""


    لم يتم التعرّف على الجهاز الدمعي بشكل كامل إلّا في القرن المنصرم، عبر التشريح. وتقع الغدد الدمعية الرئيسة في تجويف صغير بين العظم الجبهي ومقلة العين. وهذه الغدد مسؤولة عن إفراز الدموع الناتجة عن التهيج، كالتي تتساقط عند تقطيع البصل، أمّا الدموع الانفعالية، فهي التي تنشأ عن البكاء، أو الضحك. إلى جانب غدد صغيرة تفرز الدموع المسؤولة عن استمرارية ترطيب العين.
    ساد اعتقاد طويل الأمد يمتدّ من أبقراط إلى عصر النهضة بأنّ الدموع منشؤها الدماغ، وهي متعلّقة بسوائل الجسم الأساسية، من دم وبلغم وسوداء وصفراء. وكان يعتقد بأنّ اختلال تركيز هذه السوائل وتراكمها يؤدي إلى مرض الجسم، ولذلك كان الدواء عبر تفريغها. وبالنسبة للدماغ، كان التفريغ يتم عبر الدموع والبكاء. وقال أحد الأطباء في القرن السادس عشر إنّ: "الدموع رطوبة برازية يطرحها الدماغ". من هذه الفكرة الفيزيولوجية ظهرت كلمة التطهر/Catharsis، التي عرفناها في تعريف أرسطو للتراجيديا ودورها في تنقية انفعالات الخوف والشفقة.
    رأى ديكارت بأنّ الانفعالات تؤدي إلى تبخّر جزئيات من الروح الحيوانية في الإنسان، فتتكاثف في دموع. ويشير إلى أن البكائين أكثر شفقة ورأفة، فيقول في عاطفة الحب بأنّ تدفّق المزيد من الدم نحو القلب مع وجود برودة الحزن يؤدي إلى تكاثف تلك الأبخرة بشكل دموع. في حين ذهب داروين إلى أنّ الدموع ناتج عرضي، لا علاقة له بالانفعالات والعواطف والتفكير، فلا تختلف الدموع النفسية عن الانعكاسية والقاعدية.
    عندما كتب أفلاطون محاوراته، شن هجومًا على الانفعالات والعواطف، واعتبرهما ممّا يحرف العقل عن مساره، فشبّه الانفعالات بحصان قزم بشع، في حين مثّل العقل بحصان أبيض جميل، وإنّ جمعهما سوية ليقودا مركبة الإنسان سيؤدي إلى الانحراف. جاء رد أرسطو على أفلاطون لتبيان ما في التراجيديا والكوميديا من منافع عبر تصريف الزائد من مشاعر الخوف والشفقة، وجعلهما متوازنين. يقول أوفيد بأنّ البكاء يزيل الغضب. فيما كتب سينكا أن الدموع تهدئ الروح. وأشار أحد اللاهوتيين المسيحيين في القرن السابع عشر إلى التشابه بين الماء الذي ينظف الجسد، والدموع التي تطهر الروح. في مكان ما، استند سيغموند فرويد في تحليلاته عن الأمراض النفسية إلى فكرة التطهير، ورأى أن تلك الأمراض نتاج رغبات مكبوتة غير متصالح معها. كان ينوم مغناطيسيًا مريضه ليقوده إلى لحظة كبت تلك الرغبة وتفريغها بالبكاء والكلام، إلى أن ابتكرت إحدى مريضاته، وتدعى بيرثا بابنهايم، وصفًا لعلاج فرويد بقولها بأنه علاج بالكلام. ولا يخفى عنا ارتباط العبرات بالكلام، عبر الجذر (عَبَرَ). إنّ الكشوفات الحديثة عن أسباب الدموع تختلف عما سبق، فهي نتاج تعاضد جسدي عصبي نفسي، فكري وعاطفي، وخاصة الدموع الانفعالية، أمّا القاعدية، فهي لترطيب العين، والانعكاسية لتطهيرها من الأوساخ، أو ما يثير حساسيتها. لكن الاعتقادات الشعبية والثقافية ظلت ترى في نظرية التطهير أرضها الخلفية التي تحيل تفسيراتها لتساقط الدموع.

    جنس الدموع
    رأى ديكارت بأنّ الانفعالات تؤدي إلى تبخّر جزئيات من الروح الحيوانية في الإنسان، فتتكاثف في دموع (Getty)
    إنّ المعاني الإنسانية للدموع لا تتعلّق فقط بجنس من يبكي، أكان ذكرًا أم أنثى، ولا عمره، أكان كبيرًا أو صغيرًا، فهنالك تداخلات ثقافية اجتماعية تخلط المعايير، حسب الزمان والمكان. تعود أقدم محاولة للتمييز الانفعالي بين الجنسين إلى أرسطو: "المرأة أكثر تعاطفًا من الرجل، ومن السهل إثارة دموعها"، ومع ذلك كان لعادات المجتمعات ما تفرضه من أشكال التعبير على الذكر والأنثى. لقد فرضت النزعة الرواقية العقلية على الرجال أن يكونوا ضنينين بدموعهم، والأحرى معرفة كيفية استخدامها أخلاقيًا واجتماعيًا وسلطويًا، فقد سُئل روسو عن الرجولة، فرأى أنها القدرة على التعبير من خلال الدموع، أو ما يمكن تسميته البكاء الأخلاقي، وليس الانفعالي، والذي كان كثيرًا ما يستخدم من قبل السياسيين، لكن النزعة الرأسمالية خفّفت من ذلك كثيرًا، ودعت إلى رجل عملي لا تهزه النوائب. لكن بعد حربين عالميتين أصبح المنطق أن يكون الرجل أكثر حساسية، هكذا بدأنا نرى السينما تكرّس الرجل الحسّاس العاطفي ذارف الدموع. يجمع أكثر علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع على أن كل الثقافات تقسم المظهر الانفعالي بين الرجال والنساء، فلكل منهم دوره، حيث تلعب النساء دورًا أكبر في مظاهر الحداد، حيث نرى الندابات، أو البكاءات، جلّهن من النساء، حتى أصبحت مهنة لهن.
    تعرضت دموع النساء إلى التهكّم من قبل الرجال، حيث تكلّم المحلّل النفسي ألفريد أدلر، الذي يعد من تلاميذ سيغموند فرويد، على ما يسمى استبداد الدموع الذي تمارسه النساء على الرجال. أما الكاتب ج. ك. مورلي فقال عن دموع النساء: "إنّ أعظم قوة مائية في العالم هي دموع المرأة". لكن الشاعر أوفيد نصح الشاب أن يبكي بين يدي حبيبته لكي يغويها. وفي الوقت نفسه، ينصح الأنثى أن تتعلم تزييف دموعها من أجل الإغواء. مهما يكن من سيطرة النساء على عالم الدموع، إلا أنّ دموع الرجال اكتسبت حظوة جيدة في رأي الناس بعد أن كتب غوته روايته "آلام فرتر"، حتى أن إميل سيوران شبه الدموع بالموسيقى، مقتفيًا نيتشه في ذلك قائلًا عنها: بأنّها شكل من أشكال الفن، وبأنّها تجربة جمالية.

    قوّة الدموع
    ترى كاي كارمايكل في كتابها "طقوس البراءة؛ الدموع والقوة الاحتجاج" أنّ دموع الضحايا في بعض الثقافات شكل من أنواع الاحتجاج، لذلك كانت تعمد إلى تحريم تلك الدموع. لم يكن سوفوكليس في مسرحيته "أنتيغون" إلا ملاحظًا لقوة الدموع الاحتجاجية والانتقامية. وهذا ما حدا بالملك كريون لأن يمنع أنتيغون من دفن جثة أخيها في أرض الوطن والحداد عليه. هذا الموقف عبّر عنه المشرع الإغريقي صولون في القرن السادس قبل الميلاد بأن أقرّ مجموعة من القوانين تضبط الحداد العام، وخاصة للنساء، لقدرته التخريبية الثأرية على أثينا. وفي عصرنا الحديث، وخاصة لدى الديكتاتوريات، تنتشر مثل هذه التحريمات، ولربما من أشهرها تحريم المجلس العسكري في إثيوبيا عام 1994 على الأمهات أن يبكين أولادهم المختفين!
    تعرض حكاية شعبية صينية إبّان بناء سور الصين بأنّ إحدى النساء بكت بشدّة عندما علمت بموت زوجها في بناء السور، ودفنه بين حجارته. لقد تحولت دموع تلك الأرملة إلى سيل جارف غمر سور الصين العظيم لأكثر من مئتي ميل، انتقامًا لموت زوجها. لكن إلى جانب قدرة الدموع الانتقامية، فإنّ لها قدرة على إحلال الصلح، ففي المصادر التاريخية الرومانية اشتبك الرومان مع جيرانهم، ولولا تدخل النساء من الجانبين والبكاء، لدارت حرب طاحنة، لكن دموع النساء أطفأت فتيل الحرب. وفي قصة كتبها الأخوان غريم عن شخص يدعى جون الحديدي استبدل انتقامه بالحزن العميق والدموع.



    "تعرضت دموع النساء إلى التهكّم من قبل الرجال، حيث تكلّم المحلّل النفسي ألفريد أدلر، الذي يعد من تلاميذ سيغموند فرويد، على ما يسمى استبداد الدموع الذي تمارسه النساء على الرجال"


    تساعدنا الدموع في مواجهة الواقع، وبالأحرى الهروب منه، ففي رواية "أليس في بلاد العجائب"، تبكي أليس كثيرًا حتى تطفو فوق دموعها، وتذهب مع طوفان الدموع بعيدًا. يقول سارتر بأنّ الانفعالات بناءة أكثر مما توحي به، فعندما نجد أنفسنا في موقف لا يمكن تحمله، فإننا نعيد إنشاء العالم بواسطة انفعالاتنا، كما الثعلب في قصة إيسوب، فعندما لم يطل العنب قال عنه بأنه حامض. لكن سارتر يرى الاكتفاء بالانفعال والدموع موقفًا عقليًا متراجعًا. على عكس طبيب الأعصاب والنفس، أنطونيو داماسيو، الذي يذهب إلى أن العقل الخالي من الانفعالات والتعبير عنها بواسطة الدموع هو وعي متدهور. نستطيع أن نكون متحيّزين لداماسيو، فدموع الصدق والإخلاص والإيمان، وحتى الفرح واللذة، دلائل مهمة على قوة الانفعالات والعواطف في دعم مواقفنا العقلية. يتساءل هاملت في مسرحية شكسبير كيف للممثّل في الفرقة التي استقبلها القصر أن يبكي؟ ويصف بكاء الملكة هيكوبا على بريام ملك طروادة وهو غير قادر أن يكون له انفعال صحيح تجاه عمّه الذي قتل والده!
    تبدأ الدموع مع لحظة ولادتنا، وتشيعنا في لحظة وفاتنا، سواء كانت مجرد عارض جانبي للحزن، أو تطهيرًا، أو نتيجة للعلاقات المتشابكة بين العقل والأعصاب والنفس والجسد، والفكر والانفعالات. لكنَّ للحياة، كما مثلها الإغريق، وجهين؛ ضاحك وباك، وفي الضحك والبكاء نجد الدموع. وكما يقول فيلسوف الجماليات جورج سانتيانا: "الشاب الذي لم يبكِ شخص متوحش. الرجل العجوز الذي لن يضحك شخص أحمق".



    ملاحظة: يستند هذا المقال إلى كتاب: "تاريخ البكاء؛ تاريخ الدموع الطبيعي والثقافي" لتوم لوتز، ترجمة عبد المنعم محجوب، الصادر عن دار سبعة السعودية عام 2022.
يعمل...
X