"المحب والمحبوب" لرامون لول: هل من تأثير للحلاج؟
علي لفتة سعيد 27 يونيو 2023
اجتماع
رامون لول في لوحة للفنان الإسباني فرانشيسكو ريبالتا، 1620
شارك هذا المقال
حجم الخط
ما إن يذكر الحلاج حتى يذكر الحب الإلهي، الحب المترفّع عن ملذّات الدنيا، والمقترّب من الذوبان في الذات الإلهية. وغدت كلماته تدور بين العشّاق، مثلما تدور بين المثقّفين وكتاباتهم. قد يبدو الأمر طبيعيًا بالنسبة لنا نحن قرّاء العربية والعارفين بالحلّاج كونه انسابَ في الصوفيّات التي تعلن عن التوحّد ما بين الحياة والروح، وبين السماء والمعنى. ولكن ما هي علاقة الغرب بالحلّاج؟ قد يبدو السؤال في غير محلّه أيضًا. فما دامت الترجمة موجودة فهذا يعني أن الكلمات قد طارت وحلّت بلغاتٍ عديدة. لكن الأثر الحلّاجي لم يكن من خلال ترجمة أقواله، بل من خلال أثره في الآخرين وكتاباتهم. فقد أثّر الحلاج في تغيّر سلوكيات البعض وإيمانهم أيضًا، وهذا ما يمكن تلمّسه أو قراءته حين نقرأ كتاب رامون لول حيث وجد الباحث والفيلسوف العراقي الدكتور حسين الهنداوي وجود ترابط وعلاقة أثر وتأثير بين الاثنين.
لا نحتاج إلى مقدمة للحديث عن تاريخية الحلاج وولادته ووفاته، ولكنها ضرورية من أجل معرفة كتاب رامون لول "المحب والمحبوب" والمكتوب، كما يقول الهنداوي، في الأصل باللغة الكتالانية، والذي فكّك الكتاب واطّلع عليه واستنتج أن هذا الفيلسوف يستلهم شعر الحسين ابن منصور الحلّاج والشعر الصوفي الإسلامي.
لكن السؤال هو كيف اطّلع رامون لول الذي عاش بين عامي 1235 و1313 على قصائد الحلاج في تلك الفترة من الحياة الثقافية لأوروبا الوسيطة والمظلمة؟ يجيب الهنداوي بأن مؤلّفات رامون لول ظلّت مجهولةً في الأوساط الفلسفية الغربية حتى فترةٍ قريبةٍ رغم الشهرة الواسعة التي نالها كرائدٍ لفلسفة الحب الإلهي في الغرب المسيحي الكلاسيكي. ويشير إلى أن لول كان واحدًا من أهم ثلاثة مفكّرين عرفتهم أوروبا في القرن الثالث عشر الميلادي إلى جانب توما الأكويني في إيطاليا ودون سكوت في إنكلترا، حيث ظلّ كتابه "الفن الكبير في الكشف عن الحقيقة" المكتوب باللغة اللاتينية في عام 1276 بمثابة المرجع الوحيد حول أفكاره. ولأن له هذا التأثير الصوفي فقد كان السبب في إهمال مؤلّفاته اللاحقة حين قام البابا غريغور الحادي عشر بإصدار مرسومٍ كهنوتي بإدانة الآراء الصوفية لرامون لول وبحظر تداول مؤلّفاته ما كرّس انصراف المهتمّين والمترجمين عنها.
بلغ إعجاب رامون لول وتوافقه مع منظورات الحلاج وأبي بكر الشبلي وابن الفارض حدًّا دفعه إلى الاعتقاد القوي بعدم وجود أيّ اختلافٍ جوهريّ بين الإيمانين الإسلامي والمسيحي |
ورامون لول ولد في جزيرة ماجورك الإسبانية في عام 1235 من عائلة برشلونية نبيلة مأخوذة بحب الثقافة الإسلامية التي كانت الأندلس أعظم مراكزها آنذاك. وبعد تلقّيه التربية الدينية والأخلاقية المسيحية الأولى، تفرّغ لدراسة اللاهوت والفلسفة، حيث درس الفلسفة المسيحية ثم الإغريقية والإسلامية قبل أن يتفرّغ كليًا لدراسة التصوّف الإسلامي. وقد بلغ إعجابه وتوافقه مع منظورات الحلاج وأبي بكر الشبلي وابن الفارض حدًّا دفعه إلى الاعتقاد القوي بعدم وجود أيّ اختلافٍ جوهريّ بين الإيمانين الإسلامي والمسيحي. وهذا الاعتقاد كما يوضّح الهنداوي دفعه إلى تكريس سنواتٍ طويلةٍ من عمره شاجبًا الحملات الصليبية التي كانت مستمرةً في عهده، وقد دعا إلى استبدالها بالحوار والتفاهم بين المسلمين والمسيحيين من أجل "التوحد من جديد". وقد وصل به الحد إلى أن يقوم بزيارة الجامعات الأوروبية في مونبلييه ونابولي وباريس وزار بلدان المغرب ومصر وسورية وروما، ولم يتوقّف حتى مات في عام 1313 متأثّرًا بجروح أصيب بها إثر محاولةٍ لقتله بسبب انفتاحه الديني.
وعن علامات الأثر والتأثير بالحلاج يقول الهنداوي إن كتابه (كتاب "المحب والمحبوب") يبدو واضحًا لمن يطّلع عليه حتى في اختيار العنوان، ومنذ مقدّمة الكتاب حيث يشير إلى استلهامه مناهج وكتابات المتصوّفة المسلمين. ويبيّن الهنداوي أن لول يقول "تعرّفت على هؤلاء المفكرين الذين يسمّون بـ(الصوفيين) ويحظون بمكانةٍ عظيمةٍ لدى المسلمين وغير المسلمين، فوجدتهم ذوي كلامٍ مفعمٍ بالحب وعباراتٍ جزيلةٍ تغمر الإنسان بمشاعر النبل والتقوى، وتقتضي منهجًا ترتفع المدارك بفضله إلى أعلى مراتب السمو مقرونةً بأعلى درجات التفاني الأمر الذي دعاني إلى تأليف هذا الكتاب مقتديا بهم".
لقد كان رامون لول بلا شك بمثابة مؤسّس بعيد، بمعنى ما، لعصر الأنوار الأوروبي لا سيما في انبثاق النزعة الإنسانوية الحديثة، وأيضًا في الموقف من الإسلام. وهذا الاتّجاه تبعه عليه لاحقًا مفكّرون أوروبّيون آخرون تعرّضوا هم أيضًا للاضطهاد، من بينهم المستشرق الفرنسي غيوم بوستل (1510-1581) الذي برع في اللغة العربية، وترك كتبًا لامعةً منها كتاب في النحو العربي أصدره في عام 1539.