في ذكرى رحيل حسين البرغوثي: عوالم الفكر والخيال المدهشة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • في ذكرى رحيل حسين البرغوثي: عوالم الفكر والخيال المدهشة

    في ذكرى رحيل حسين البرغوثي: عوالم الفكر والخيال المدهشة
    عمر شبانة 19 أغسطس 2023
    استعادات
    حسين البرغوثي
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    تعدّدت إبداعات حسين البرغوثي (1954 ـ 2002)، هذا المبدع الفلسطينيّ الاستثنائيّ وعوالمه، فقدّم كتابات ونصوصًا في أجناس عدة. فمن هو البرغوثي، وماذا فعل في حياته القصيرة نسبيًّا (48 عامًا)؟ يبدو لك في اللقاء معه كائنا مختلفًا، و"غير طبيعيّ". فكيف كان رحيله الفاجع، الرحيل بعد معاناة مع سرطان الغدد اللمفاويّة، لتأخُّر وصول "جرعة" الدم التي جرى إرسالها من عمّان إلى رام الله، فقد احتجزتها سلطات الاحتلال على الجسر، فرحل قبل وصولها. وهل كانت ستنقذ حياته الغرائبية، عَيشًا وإبداعًا؟
    حتّى في فحوصاته واكتشاف "سرطانه"، حدثت مصادفة لا عقلانية، أو تراجيكوميدية، تلائم غرابة أطواره، كادت توصله إلى الجنون الحقيقيّ، حين تمّ إبلاغه ـ خطأ ـ بأنه مصاب بالإيدز، فيشتعل غضبًا، ثم تأتي نتيجة الفحص "بشارة سارّة": عندك سرطان يفتك بالغدد اللمفاوية؟ فتخيّلوا أنّه يرقص فرحًا بالنتيجة! فقد تخلص من "شبهة" الإيدز اللعين: "قال لي دكتور أمراض الدم، في البدء، قد تكون مُصابًا بالإيدز. يا إلهي! سننتهي كلّنا، أنا وبترا (زوجته) وآثر (ابنه). ليس المهم أنا، مرَضي لعبة بين الله وبيني، أمّا هما؟!"... "السرطان يشفي من التدخين... السرطان وردة، نعمة إلهيّة! أمنيتي أن أكون مصابًا به الآن، لا بالإيدز... ومرّ أسبوع يشبه نصّ رامبو "فصل في الجحيم"... نتيجة الفحص نيغاتيف.. لكن عندك ليمفوما (سرطان في الغدد الليمفاويّة)... لا أهمية لذلك، فآثر وبترا خارج اللعبة الآن، وأنا قادر على اللعب وحيدًا مع القدر".

    الثقافة والمؤثرات
    هو من مواليد قرية كوبر قضاء رام الله عام 1954، يحمل شهادة الدكتوراة في الأدب المقارن من جامعة سياتل الأميركية، عرف الإنكليزية والمجَرية، وألمّ بالفرنسية، تبحّر في الأدب والفلسفة وعلم النفس وتاريخ الأديان والميثولوجيا. وقف أستاذًا أمام تلاميذه في جامعة بير زيت بنموذج إنسانيّ بناه بنفسه تلقائيًّا، عفويّ ومبادر وصامت ومتدفّق في الحديث، وفوضويّ في مشيته وملابسه، ومنظّم فكرًا وسلوكًا.
    "إبداعيًّا، لم يكن البرغوثي شاعرًا وكاتبًا عاديًّا، وما لم يستطع تحقيقه في الشعر تحقّق له في نصوصه النثرية الباذخة والباهرة"

    ومع ذلك كله، يقول "أنا وعي مهزوم"... ويوضح: "عندما أمنح الأشياء القديمة اسمًا جديدًا أكتشف وجهًا جديدًا لها". إنه كتاب جامع بين الشعر وعلم النفس والميثولوجيا والأنثروبولوجيا، والتاريخ والوطن.
    في ثنايا نصوصه نكتشف، من بين قراءاته وثقافته الواسعة، تركيز القراءة في مجموعة من الكتب خاصة، أبرزها ثلاثة كتب: "التوراة"، "العهد الجديد"، و"فلسفة الوجود عند هيغل"، وهذا الأخير هو رسالة الدكتوراة للفيلسوف والمفكر الألماني/ الأميركي هربرت ماركوزة (1898 ـ 1979)، الرسالة التي أشرف عليها الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر (1889 ـ 1976). وفضلًا عن ذلك معروف تأثر حسين بوجودية الفيلسوف الدانماركي كيركغارد، و"جنون" جان جينيه.
    وإذا كان ميشال فوكو يعتقد أن الجنون نمط من الفكر المستقل، وشكل من أشكال الوجود الأصيل، وينطوي على قيم جمالية ونظرة للإنسان والحياة والعالم، فقد كان حسين ينتمي إلى هذه الفئة المختلفة عن سواها من البشر. وعلى عكس ما هو سائد، أو بالأحرى ما كان سائدًا، فالجنون هو ضرب من المعرفة تتميّز بصعوبتها وانغلاقها وباطنيتها. مثلما نجد بين قراءاته ـ كما يقول ـ في تنظيرات "الفن العسكري للروح"، وهي التي دفعته ليتدرّب على أشكال من رياضة "الكاراتيه"، والـ"كونغ فو"، وكذلك في بنية العقل المبدع، التي جعلته ربّما يكتب في نصوصه وبحوثه عن إشكالية "هندسة القصيدة" مثلًا.
    فكثير ممّا يقوله البرغوثي على لسان "الصوفيّ بَري"، في نصّ "الضَّوء الأزرق" تحديدًا، وهو يشبه شخصيّة روائيّة تبدو متخيّلة، هو من بنات أفكار البرغوثي ومن تأمّلاته هو نفسه، من وحي شاعريته. فحين يقول الصوفيّ "أنا قِدر من الطاقة يغلي، الأرض ـ أمّنا ـ كرة تغلي بالطاقة"، فحسين هو صاحب العبارة، والطاقة هي طاقته. وحين يسأله "لمَ لا تكتب؟"، يجيب ببساطة "لأنّني أعيش، لا وقت عندي للكتابة". وعن سؤال "لمَ أكتب؟"، يجيب بالقول "لأنني أخاف، أخاف من نفسي وعلى نفسي، لأنني أرغب في النسيان...".

    نصوص في السيرة التأمّليّة
    فضلًا عن تجربته الشعرية المعروفة، وكتابته للمسرح، وترجمته "روميو وجولييت" (شكسبير)، وكتابة الأغاني بالعاميّة للفرق الفنية، وهي كلّها تستحقّ وقفة خاصة، يهمّنا هنا الوقوف على تجربته النثريّة ـ السّيرذاتية ـ الخاصّة، فقد كتب البرغوثي ثلاثة نصوص يمكن احتسابها في إطار السيرة، وإذا كان قد اشتُهر له النصّان "الضّوء الأزرق"، و"سأكون بين اللوز"، فقلّة من يعرفون نصّه التاسيسيّ في تجربته النثريّة هذه، وهو "الفراغ الذي رأى التفاصيل"، وكذلك نصّ "سقوط الجدار السابع". لكنّ النصوص الأربعة كُتبت بروح واحدة... باختلاف الثيمة والموضوع الأساس لكلّ منها.



    إبداعيًّا، لم يكن البرغوثي شاعرًا وكاتبًا عاديًّا، وما لم يستطع تحقيقه في الشعر تحقّق له في نصوصه النثرية الباذخة والباهرة. فهو أوّلًا صاحب "الضّوء الأزرق"، النصّ النثريّ السّيرذاتيّ، القصير نسبيًّا (184 صفحة)، باذخ الجمال والتنوّع في تجواله بين عوالم الإبداع والوجود، عوالم السرد والشعر، الجنون الذي يقود إلى التمرّد حدّ التشرّد، ولكن ليس الضياع المجّاني، هو التسكّع في الطبيعة والمجتمعات البشرية متعدّدة الأجناس والألوان والأمكنة والأزمنة. يقول "أحبّ في الروح: الهامشيّ، الاستثنائيّ، الشاذّ، المتفرّد، المنطقة الحرام بين الحدود، الحافة...". وبخصوص اللون، يتساءل "ما هو طَيري الأزرق؟". ويجيب بسؤال آخر "وجهي؟"، ويتحدث عن "روحانيّة الأزرق"، و"حلم الوعل الأزرق" (النص المقدس عند الهنود الحمر)، وعن ارتباط الأزرق بالسماء في مصر الفرعونية... ومقهى "الوهم العظيم" وعن "القمر الأزرق" في رحلته "الأميركيّة".
    هو نص إبداعي من تأمّلاته في الكون والطبيعة والوجود والآلهة والإنسان، في المكان والزمان، نص له مرجعيّات كثيرة، لكنه ليس بحثًا أكاديميًا بمراجع ومصادر محددة سلفًا. نص تحضر فيه الأديان والأخلاقيات والنظريات والفلسفات حول الوجود والتكوين الأول، ولكن من دون ضوابط البحث الأكاديمي الصارمة. يحضر المكان والزمان بلا إدراج واضح للمرجعيات. وعن هذا الكتاب النثريّ قال محمود درويش: "لقد تحقّقت شاعريّة حسين البرغوثي الحقيقية في "الضّوء الأزرق". إنه نص لا يُصنّف في جنس أدبيّ واحد، وهو ليس سيرة ذاتية بالمعنى المتعارف عليه، ولا هو رواية، إنه يذكّرنا بسرديات الرواية وحميمية السيرة، ولكن سيرة المؤلّف هي أحد المكوّنات الأساسية لهذا النصّ المفتوح على كلّ أشكال الكتابة القادرة على استيعاب همومه الوجودية والثقافية والفلسفية... إنه كتاب فريد من نوعه في الكتابة العربية، ولعله أجمل إنجازات النثر في الأدب الفلسطينيّ".
    النصّ النثريّ ـ السّيريّ الثاني "سأكون بين اللوز"، ينطلق من السّرطان، وفيه يعانق البرغوثي قريته (كوبر) ومناخاتها التي لاذ بها، بدفئها وحميميّتها، حنينًا واستشفاءً بداية الأمر، فهو يقول بقدر من الندم لمفارقتها ربّما: "بعد ثلاثين عامًا أعود إلى السكن في ريف رام الله... إلى هذا الجَمال الذي تمّت خيانته"، وهي أيضًا عودة "تحت وطأة المرض"، حينذاك كان الوقت زمن الانتفاضة الثانية بمواجهاتها وشهدائها وجرحاها ممن تغصّ بهم المستشفى، وجاء العلاج في زمن انشغال الناس بموت آخر فرديّ وجمعيّ، "فالمريض ـ حتى مريض السرطان ـ يبدو فضوليًّا، أو زائدًا عن الحاجة". وحيث قسم "الولادات الجديدة" فوق، وثلاجة حفظ الموتى تحت، يتذكّر الشاعر توفيق صايغ في قوله: "معلّق أنا/ بين موت وحياة/ لا بين موت أو حياة". والقرية هي ملاذه بتاريخها وموروثها من الخرافات وحكايات الإنس والجنّ، من الأمّ والأب والأسْرة والأسلاف.
    وفي إحدى حالات انهياره، يصرخ "لقد مرِض الجبل بالسرطان! الجبل يقول لي: حتّى لو بقيت لك سنتان للعيش، فإن سنتين هنا أعمق من قرنين "هناك". قاوم... لا لأجلك، قاوم... قل لهم... سأكون بين اللوز!". ويتكلم عن السرطان والملل الذي قال عنه كيركغارد إنه "مرعب إلى حدٍّ لا يمكنني عندها أن أصفه إلّا بالقول بأنه مرعب إلى درجة مملّة". وعن هذا النصّ وكاتبه يقول الشاعر الفلسطينيّ أحمد دحبور: "إن شاعريّة البرغوثي الحقيقية وجدت متنفّسها الطبيعي في هذا النص المركّب". ويضيف دحبور: "بين أيدينا كتاب يتطابق مع عوالم الفيلسوف الوجودي الدنماركي كيركغارد، من حيث أنه خليط غريب من الاعترافات العاطفية الشخصية والتأملات الفلسفية والمقالات الأدبية، وفي الكتاب تتعاقب الأجناس الأدبية: يوميات، عرض منظم، مناجَيات، صور أدبية، تفسير أحلام... إلخ. وزيادة على هذه المزايا والسجايا نعود لدى حسين إلى الحكايات التي تجمع سحر الميثولوجيا إلى مكر العقل الذي يقود القارئ، من غير مباشرة، إلى التأويل حينًا وإلى التخيّل أحيانًا... لقد جاء بصور مذهلة للوديان والجبال والبشر، وكلام يذهب إلى العميق والحميم، فلا تعرف ما إذا كنت تقرأ نشيدًا في وداع الحياة، أم أنه فصل تأملي في تمجيد هذه الحياة".
    "وقف حسين البرغوثي أستاذًا أمام تلاميذه في جامعة بير زيت بنموذج إنسانيّ بناه بنفسه تلقائيًّا، عفويّ ومبادر وصامت ومتدفّق في الحديث، وفوضويّ في مشيته وملابسه"

    ومن مرتكزات البرغوثي الأساسية، يبرز هنا، وبتركيز كبير، ذهن الإنسان وتكرار لتحديده: "الذهن: فِنجانك الذهبي. من طبيعة الذهن أن يكون فارغًا، ومن طبيعة الفراغ أن يكون قابلًا لأن تصبّ فيه أي رأي، أو نظرية، أو مذهب، أو معرفة، أو شعور، أو ذكريات. ميّز بين الذهن ومحتواه، كما تميّز بين الفنجان والشاي الذي في الفنجان، يا رجل". وبالنسبة إليه فـ"كلّ ذهنٍ فقد قدرته على تصميم نفسه، سيقوم غيره بتصميمه. وقد سمّيت القدرة على إعادة تصميم النفس "الهندسة العُليا"...".
    وفي الختام، يبدو أن حسين يفكر ويتساءل، مثل إيليا أبي ماضي، ومثلما كتب كيركغارد: "كلما تحسستُ الوجود، لم أجد شيئًا. ما هذا الشيء المسمى بالكون؟ من الذي أوجدني في هذا العالم، والآن يتركني وحيدًا؟ من أنا؟ كيف أتيت إلى هنا؟ ولماذا لم يسألني أحد؟".
يعمل...
X