في رحيل مارتن فالزر: مؤرّخ الحياة اليومية للألمان
سمير رمان 20 أغسطس 2023
هنا/الآن
كان فالزر عضوًا في أكاديمية الفنّ في برلين (Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
يعدُّ مارتن فالزر (1927- 2023) واحدًا من أكثر الكتاب الألمان المثيرين للجدل، هو المشهور بتصوير الصراعات النفسية الداخلية لأبطال رواياته، الأبطال السلبيين عمومًا، والذي أطلق عليه النقاد لقب "مؤرخ الحياة اليومية الألمانية".
كرّس فالزر إحدى رواياته وهي: "النبع الفوار/ Ein springender Brunnen" لتوثيق البيئة المحيطة به، ففي صغره، كان والده يتولى ترميم محطةٍ للقطارات، إلى جانب ترميم منجمٍ لاستخراج الفحم الحجري بالقرب من بحيرة كونسانس.
في الفترة ما بين 1938 و1943، التحق بالمدرسة الثانوية في لينداو، وتقدم بطلب للانضمام إلى الحزب الاشتراكي القومي عام 1944، الأمر الذي نفاه مارتين بشدّة (ولكنّ الأمر بقي، إلى جانب اتهامه بمعاداة اليهود والغجر، يلاحقه دومًا). وكغيره من شبان تلك الفترة من الألمان، شهد فالزر نهاية الحرب العالمية الثانية كجنديٍّ في قوات الفيرماخت (القوات الألمانية الموحدة).
تخرج في الثانوية عام 1946، والتحق بعدها بمعاهد الفلسفة واللاهوت في مدينة ريغينسبورغ، وتابع دراسته في جامعة توبنغن. تزوج عام 1950 وأنجب أربع بنات.
أثناء دراسته، بدأ فالزر عام 1949 العمل كمراسل صحافي، وككاتب مسرحيات إذاعية لدى مؤسسة روندغونك. حصل على درجة الدكتوراة من جامعة توبنغن عن أطروحة عن الكاتب فرانز كافكا. وجنبًا إلى جنب مع هلموت جيدل، شكّل فالزر نواة "مجموعة العبقرية" في إذاعة شتوتغارت. أخرج للإذاعة مسرحياتٍ، وعمل عام 1953 على كتابة أول فيلمٍ للتلفزيون الألماني بعد الحرب. وفي الوقت نفسه، كان يعمّق علاقاته في الساحة الأدبية كمحررٍ إذاعي ومؤلف. اعتبارًا من عام 1953، أصبح فالزر يحضر جميع فعاليات مجموعة الـ47، التي كرمته عام 1955 على قصته "نهاية العجوز تمبلونز/Templones Ende"، أولى رواياته التي ظهرت عام 1957، ولاقت نجاحًا كبيرًا، ما مكّن الكاتب من التفرّغ للتأليف ككاتب مستقل.
في الستينيات عمل فالزر، كغيره من المثقفين اليساريين، على دعم ويلي برانت ليصبح مستشارًا لألمانيا. وقف فالزر معارضًا عنيدًا للحرب الأميركية على فييتنام، وسافر مراتٍ عدة في الستينيات والسبعينيات إلى موسكو كمؤيدٍ للحزب الشيوعي الألماني، الذي لم يكن عضوًا فيه. وفي عام 1988، ألقى فالزر سلسلة خطاباتٍ عن بلاده أوضح فيها أنّ تقسيم ألمانيا كان ثغرةً كبيرة يجب سدّها وإعادة توحيد ألمانيا، الموضوع الذي كرّسه في صلب روايته الساخرة "dorle and Wolf"، التي سخر فيها من السلوك النموذجي للمسؤولين في ألمانيا الديمقراطية، ومن المحامين في المحاكم.
كان فالزر عضوًا في أكاديمية الفنّ في برلين، وعضوًا في أكاديمية ساكسون للفنون، وعضوًا في الأكاديمية الألمانية للّغة وللشعر في دارمشتات. في عام 2007، تبرع بجزءٍ كبير من مخطوطاته لأرشيف الأدب الألماني، وهو ما يمكن رؤيته في المعرض الدائم في متحف الأدب الحديث في مارباخ، ومن ضمنها مخطوطات روايته "زواج في فيليبسبورغ"/ Ehen in Philippsburg، وكذلك مخطوطات رواية "Einhorn und Ein springender Brunnen".
في عام 2022، تبرّع فالزر بإرثه المكوّن من مسوداتٍ ومخطوطاتٍ وترجمات لأعماله القصصية والدرامية والمقالات، بالإضافة إلى يومياته، لأرشيف الأدب الألماني.
وكان فالزر غزير الانتاج، ولم يتوقف عن الكتابة حتى في المرحلة الأخيرة من عمره الذي امتد إلى 96 عامًا. وُري جثمانه الثرى في مسقط رأسه في فاسربيرغ في 31 يوليو/ تموز عام 2023.
أعماله الأدبية
لطالما كان الفشل في الحياة دافعًا يتكرر باستمرار في أعمال فالزر الأدبية. فأبطاله ليسوا على مستوى يمكنهم من تلبية متطلبات إخوانهم البشر، وفي الوقت نفسه لا يسعون إلى درجة تمكنهم من تحقيق مطالبهم هم أنفسهم. ولهذا نراهم يخوضون في جميع رواياته صراعًا داخليًا مريرًا في أعماقهم.
وتبقى المعارك التي يخوضها أبطال روايات فالزر محصورةً ضمن أرواحهم، في حين تبقى الحبكة الخارجية ثانويةً في غالب الأحيان، مما يجعل الكاتب ممثلًا نموذجيًا للأدب الألماني في فترة ما بعد الحرب (على غرار هاينريش بول، بيتر هاندكه، سيغفريد لنتس)، ما يضعه على نقيض من التقليد الأدبي الأنجلوساكسوني، حيث يكون العمل الخارجي في الرواية أكثر أهمية بكثير.
في كلمة نعي فالزر، قال مارتن كرومبهولتز: "لطالما أكّد فالزر أنّ نظرته إلى العالم، وللإنسان، قد اكتملت، وبلغت ذروة أصالتها فقط في رواياته، وليس في المرافعات السياسية، أو البيانات والمقالات التي كان يعبّر فيها عن آرائه". ومع ذلك، تبقى بعض مقالاته جزءًا لا يتجزأ من عمله الأدبي، للبراعة التي كتبت فيها، ولتألقها المبهر المرتبط بالبراهين المقنعة حتى الأعماق.
وفي المسرح، حقق فالزر نجاحاتٍ أيضًا، فعرضت مسرحيته الأولى "الانعطاف/ Der Abstecher" أكثر من 50 مرةً في الستينيات. أمّا مسرحيته "البلوط وأرنب الأنغورا/ Eiche und Angora" فكانت أول اختبارٍ فنيّ له في عصر الاشتراكية القومية. يقول هلموت كارازيك: أثارت مسرحية "العبث مع الرعب/ Mit dem Entsetzen Scherz getrieben" موجة من الجدل في أوساط النقاد، ولكنّها أدت أيضًا إلى أول نجاحٍ عالمي، إذ رحبت المراكز الأدبية المهمة في فيينا، زيوريخ، روتردام، أدنبرة، وبازل، وغيرها، بعرض المسرحية، فعرضت بشكلٍ متواصلٍ في باريس لمدة عامٍ.
أشاد الناقد الألماني سليط اللسان، مارسي رانيسكي، بفالرز، فقال في سبتمبر/ أيلول عام 1963: "كانت قصص فالزر المبكّرة تشخيصًا نقديًّا معاصرًا، وفي الوقت نفسه مثلت احتجاجًا قويًا على الأوضاع التي تحول دون تطور الفرد، وتجعله يذوي وينهار تمامًا. ينطبق هذا التشخيص أيضًا على نثر فالزر اللاحق. وعلى الرغم من لجوئه إلى وسائل أخرى، فقد بقي يشدّد ويؤكّد، مرارًا وتكرارًا، على عبثية الوجود في مصائر البشر، وإن كانوا شخصياتٍ مختلفة، ويؤكد للقارئ أنّ الشجاعة التي يتمتّع بها لصّ البنوك هي شجاعة لا غنى عنها للإنسان في كلّ مهنة يؤديها".
وفي رسالة أرسلتها الناقدة والناشرة إيريس راديش/ Iris Radisch إلى صحيفة "Die Zeit"، تنعي فيها فالزر، قالت: "بمزيجه المشكّل من الكفاح البرجوازي الصغير، ومن العمق والإصرار، بالإضافة إلى روحه الكوميدية الناعمة، يمثل فالزر عمق الحالات العاطفية الصغيرة الألمانية، وقد كان فريدًا حقًّا في هذه المجال". واستطردت أنّ فالزر كاتب رومانسي، وعلى المرء، ولو مرّةً واحدة، أن يقرأ في مرحلةٍ ما من حياته رواياتٍ مثل: "زواجٌ في فيليبسبورغ"، "نصف الوقت"، "عمل الروح"، "تكسّر الأمواج"، "دفاعًا عن الطفولة"، و"النبع الفوار".
سمير رمان 20 أغسطس 2023
هنا/الآن
كان فالزر عضوًا في أكاديمية الفنّ في برلين (Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
يعدُّ مارتن فالزر (1927- 2023) واحدًا من أكثر الكتاب الألمان المثيرين للجدل، هو المشهور بتصوير الصراعات النفسية الداخلية لأبطال رواياته، الأبطال السلبيين عمومًا، والذي أطلق عليه النقاد لقب "مؤرخ الحياة اليومية الألمانية".
كرّس فالزر إحدى رواياته وهي: "النبع الفوار/ Ein springender Brunnen" لتوثيق البيئة المحيطة به، ففي صغره، كان والده يتولى ترميم محطةٍ للقطارات، إلى جانب ترميم منجمٍ لاستخراج الفحم الحجري بالقرب من بحيرة كونسانس.
في الفترة ما بين 1938 و1943، التحق بالمدرسة الثانوية في لينداو، وتقدم بطلب للانضمام إلى الحزب الاشتراكي القومي عام 1944، الأمر الذي نفاه مارتين بشدّة (ولكنّ الأمر بقي، إلى جانب اتهامه بمعاداة اليهود والغجر، يلاحقه دومًا). وكغيره من شبان تلك الفترة من الألمان، شهد فالزر نهاية الحرب العالمية الثانية كجنديٍّ في قوات الفيرماخت (القوات الألمانية الموحدة).
تخرج في الثانوية عام 1946، والتحق بعدها بمعاهد الفلسفة واللاهوت في مدينة ريغينسبورغ، وتابع دراسته في جامعة توبنغن. تزوج عام 1950 وأنجب أربع بنات.
أثناء دراسته، بدأ فالزر عام 1949 العمل كمراسل صحافي، وككاتب مسرحيات إذاعية لدى مؤسسة روندغونك. حصل على درجة الدكتوراة من جامعة توبنغن عن أطروحة عن الكاتب فرانز كافكا. وجنبًا إلى جنب مع هلموت جيدل، شكّل فالزر نواة "مجموعة العبقرية" في إذاعة شتوتغارت. أخرج للإذاعة مسرحياتٍ، وعمل عام 1953 على كتابة أول فيلمٍ للتلفزيون الألماني بعد الحرب. وفي الوقت نفسه، كان يعمّق علاقاته في الساحة الأدبية كمحررٍ إذاعي ومؤلف. اعتبارًا من عام 1953، أصبح فالزر يحضر جميع فعاليات مجموعة الـ47، التي كرمته عام 1955 على قصته "نهاية العجوز تمبلونز/Templones Ende"، أولى رواياته التي ظهرت عام 1957، ولاقت نجاحًا كبيرًا، ما مكّن الكاتب من التفرّغ للتأليف ككاتب مستقل.
في الستينيات عمل فالزر، كغيره من المثقفين اليساريين، على دعم ويلي برانت ليصبح مستشارًا لألمانيا. وقف فالزر معارضًا عنيدًا للحرب الأميركية على فييتنام، وسافر مراتٍ عدة في الستينيات والسبعينيات إلى موسكو كمؤيدٍ للحزب الشيوعي الألماني، الذي لم يكن عضوًا فيه. وفي عام 1988، ألقى فالزر سلسلة خطاباتٍ عن بلاده أوضح فيها أنّ تقسيم ألمانيا كان ثغرةً كبيرة يجب سدّها وإعادة توحيد ألمانيا، الموضوع الذي كرّسه في صلب روايته الساخرة "dorle and Wolf"، التي سخر فيها من السلوك النموذجي للمسؤولين في ألمانيا الديمقراطية، ومن المحامين في المحاكم.
كان فالزر عضوًا في أكاديمية الفنّ في برلين، وعضوًا في أكاديمية ساكسون للفنون، وعضوًا في الأكاديمية الألمانية للّغة وللشعر في دارمشتات. في عام 2007، تبرع بجزءٍ كبير من مخطوطاته لأرشيف الأدب الألماني، وهو ما يمكن رؤيته في المعرض الدائم في متحف الأدب الحديث في مارباخ، ومن ضمنها مخطوطات روايته "زواج في فيليبسبورغ"/ Ehen in Philippsburg، وكذلك مخطوطات رواية "Einhorn und Ein springender Brunnen".
في عام 2022، تبرّع فالزر بإرثه المكوّن من مسوداتٍ ومخطوطاتٍ وترجمات لأعماله القصصية والدرامية والمقالات، بالإضافة إلى يومياته، لأرشيف الأدب الألماني.
وكان فالزر غزير الانتاج، ولم يتوقف عن الكتابة حتى في المرحلة الأخيرة من عمره الذي امتد إلى 96 عامًا. وُري جثمانه الثرى في مسقط رأسه في فاسربيرغ في 31 يوليو/ تموز عام 2023.
أعماله الأدبية
لطالما كان الفشل في الحياة دافعًا يتكرر باستمرار في أعمال فالزر الأدبية. فأبطاله ليسوا على مستوى يمكنهم من تلبية متطلبات إخوانهم البشر، وفي الوقت نفسه لا يسعون إلى درجة تمكنهم من تحقيق مطالبهم هم أنفسهم. ولهذا نراهم يخوضون في جميع رواياته صراعًا داخليًا مريرًا في أعماقهم.
وتبقى المعارك التي يخوضها أبطال روايات فالزر محصورةً ضمن أرواحهم، في حين تبقى الحبكة الخارجية ثانويةً في غالب الأحيان، مما يجعل الكاتب ممثلًا نموذجيًا للأدب الألماني في فترة ما بعد الحرب (على غرار هاينريش بول، بيتر هاندكه، سيغفريد لنتس)، ما يضعه على نقيض من التقليد الأدبي الأنجلوساكسوني، حيث يكون العمل الخارجي في الرواية أكثر أهمية بكثير.
في كلمة نعي فالزر، قال مارتن كرومبهولتز: "لطالما أكّد فالزر أنّ نظرته إلى العالم، وللإنسان، قد اكتملت، وبلغت ذروة أصالتها فقط في رواياته، وليس في المرافعات السياسية، أو البيانات والمقالات التي كان يعبّر فيها عن آرائه". ومع ذلك، تبقى بعض مقالاته جزءًا لا يتجزأ من عمله الأدبي، للبراعة التي كتبت فيها، ولتألقها المبهر المرتبط بالبراهين المقنعة حتى الأعماق.
وفي المسرح، حقق فالزر نجاحاتٍ أيضًا، فعرضت مسرحيته الأولى "الانعطاف/ Der Abstecher" أكثر من 50 مرةً في الستينيات. أمّا مسرحيته "البلوط وأرنب الأنغورا/ Eiche und Angora" فكانت أول اختبارٍ فنيّ له في عصر الاشتراكية القومية. يقول هلموت كارازيك: أثارت مسرحية "العبث مع الرعب/ Mit dem Entsetzen Scherz getrieben" موجة من الجدل في أوساط النقاد، ولكنّها أدت أيضًا إلى أول نجاحٍ عالمي، إذ رحبت المراكز الأدبية المهمة في فيينا، زيوريخ، روتردام، أدنبرة، وبازل، وغيرها، بعرض المسرحية، فعرضت بشكلٍ متواصلٍ في باريس لمدة عامٍ.
"في عام 2022، تبرّع فالزر بإرثه المكوّن من مسوداتٍ ومخطوطاتٍ وترجمات لأعماله القصصية والدرامية والمقالات، بالإضافة إلى يومياته، لأرشيف الأدب الألماني" |
أشاد الناقد الألماني سليط اللسان، مارسي رانيسكي، بفالرز، فقال في سبتمبر/ أيلول عام 1963: "كانت قصص فالزر المبكّرة تشخيصًا نقديًّا معاصرًا، وفي الوقت نفسه مثلت احتجاجًا قويًا على الأوضاع التي تحول دون تطور الفرد، وتجعله يذوي وينهار تمامًا. ينطبق هذا التشخيص أيضًا على نثر فالزر اللاحق. وعلى الرغم من لجوئه إلى وسائل أخرى، فقد بقي يشدّد ويؤكّد، مرارًا وتكرارًا، على عبثية الوجود في مصائر البشر، وإن كانوا شخصياتٍ مختلفة، ويؤكد للقارئ أنّ الشجاعة التي يتمتّع بها لصّ البنوك هي شجاعة لا غنى عنها للإنسان في كلّ مهنة يؤديها".
وفي رسالة أرسلتها الناقدة والناشرة إيريس راديش/ Iris Radisch إلى صحيفة "Die Zeit"، تنعي فيها فالزر، قالت: "بمزيجه المشكّل من الكفاح البرجوازي الصغير، ومن العمق والإصرار، بالإضافة إلى روحه الكوميدية الناعمة، يمثل فالزر عمق الحالات العاطفية الصغيرة الألمانية، وقد كان فريدًا حقًّا في هذه المجال". واستطردت أنّ فالزر كاتب رومانسي، وعلى المرء، ولو مرّةً واحدة، أن يقرأ في مرحلةٍ ما من حياته رواياتٍ مثل: "زواجٌ في فيليبسبورغ"، "نصف الوقت"، "عمل الروح"، "تكسّر الأمواج"، "دفاعًا عن الطفولة"، و"النبع الفوار".