فيلون السكندري
(نحو30 ق. م ـ 50 م)
فيلون السكندري Philo of Alexandria فيلسوف يهودي وكاتب يوناني، ولد في الاسكندرية لأسرة غنية بارزة فيها، لايُعرف كثير عن حياته سوى أنه حظي بتربية ممتازة، ينم على ذلك تضلعه من التوراة (رغم جهله العبرية) والفلسفة اليونانية وسائر الفلسفات التي كانت تموج بها الاسكندرية في عصره. وقد لقب بأفلاطون اليهود، لتأنقه في أسلوبه، وجودة تعبيراته، وكتاباته اليونانية. أرسلته الجالية اليهودية سنة 40م على رأس وفد إلى روما للتوسط لدى الامبراطور كاليغولا Calicula لرفع الغبن الروماني عن اليهود، وإعفائهم من التعبد لتماثيل الامبراطور في كنائسهم، وكانت مهمة صعبة أخفق فيها غير ما وفد، لكنه تمكن وحده من النجاح.
يعد فيلون أول فيلسوف جمع بين الفلسفة واللاهوت[ر]، فكان لاهوتياً أكثر من كونه فيلسوفاً، وقد تزعم المدرسة الفكرية في الاسكندرية التي جمعت بين التوحيد اليهودي وفلسفة أفلاطون.
عرف عن فيلون ميله إلى حياة التأمل، والتجرد عن الحياة العملية، وكذلك بعده عن الشؤون السياسية، رغم تأليفه كتاب «دفاع عن اليهود، موسى». واشتهر بشغفه بالأمور الدينية، والتوفيق بين الكتاب المقدس وعادات اليهود من جهة، والآراء الأفلاطونية وخاصة أفلاطون من جهة أخرى. كان متصوفاً، ورائداً للأفلاطونية المحدثة، ومؤسساً لمذهب في التأويل الرمزي المجازي مستفيداً من مناهج الفلسفة اليونانية التي سادت آنذاك في مدرسة الاسكندرية الفلسفية. فألَّف كتابه الشهير «الشرح المجازي للشرائع المقدسة»، وصاغ نظرية فلسفية أساسية عن اللوغوس Logos في مؤلفه «في عبودية الأحمق، في حرية الحكيم». كما دوّن بعض الكتب الفلسفية مثل «في دوام العالم»، و«في العناية الإلهية». وقد مثل إنتاجه الفكري ركيزة أولية وأساسية في ميدان التوفيق بين الدين والفلسفة.
حرص فيلون على تأويل نصوص التوراة خاصة «سفر التكوين» تأويلاً نظرياً متشبعاً بالفلسفة اليونانية، فكان يدعم تفسيراته بمختارات من هذه الفلسفة، وخاصة أفلاطون، لكنه كان يقف في تأويله للإلهيات عند حدود الشريعة لا يتعدّاها، ولذلك أقبل فلاسفة المسيحية والإسلام على كتبه بوصفها تقويماً دينياً للفلسفة اليونانية، ومحاولة جديرة بالمحاكاة لتأويل الأناجيل والقرآن تأويلاً فلسفياً. كما قدم تفسيراً لتاريخ اليهود، يقوم أساساً على تأويل قصص هذا التاريخ ووقائعه العينية، بإدخال ألفاظ ودلالات صوفية ومجازية.
تناول لاهوته موضوعات شتى شملت شرحاً لكيفية الخلق من العدم، والوجود، وصفات يهوه إله اليهود خالقاً وعلة أولى للكون عن طريق وسائط أو قوى إلهية تختلف الواحدة عن الأخرى بحسب وظيفتها، أهمها اللوغوس والحكمة الإلهية، والملائكة (وهي فكرة يهودية)، وقوى إلهية أخرى، كقوة الخير، وقوة القدرة، وقوة الحكمة الإلهية التي عدها فيلون أمّ العالم ووصفت بأنها زوج الإله. وأدى تمازج الفلسفة اليونانية بالأديان المنتشرة في الشرق إلى امتزاج الميثولوجيا اليونانية: آلهة اليونان بالآلهة المصرية القديمة، وولدت فكرة التزاوج بين الكائنات الإلهية فزيوس عند اليونان يتزوج من هيرا؛ تماماً كما في الديانة المصرية يتزوج أوزيريس من إيزيس وينجب حورس.
تأثرت فلسفة فيلون عن اللوغوس بمصادر يونانية عدة، كان أبرزها ما جاء في فلسفة هرقليطس[ر] والرواقية[ر] وأنكساغوراس[ر] بأن اللوغوس هو النوس أو العقل الإلهي، والقوة المدبرة للكون، والحافظة له. فأصبح اللوغوس في التراث اليهودي أول القوى الصادرة عن الله، ومحل الصور، والنموذج الأول لكل الأشياء (كالمثال الأفلاطوني)، إنه رباط الكون الحافظ لأجزائه، ووسيلة الله في خلق العالم، وكلمة الله، ومجموع الحكم الإلهية في الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم، أي أسفار موسى\ التي أشار إليها اليهود باسم «ممرا»، وقد أثرت هذه النظرية في العقيدة المسيحية وظهرت آثارها في إنجيل يوحنا، رغم أن فيلون لم يحصر مدلول اللوغوس بشخص معين ولم يجسده في إنسان، كما شاع عند المسيحية.
والنفس عند فيلون خالدة وهي نعمة إلهية، لكن الله قادر على إبادتها لو تدنست وهبطت إلى العالم الأرضي، وهذا التصور حول خلود النفس يختلف عن الخلود الأفلاطوني[ر: الخلود]. أما العالم فهو مادي متناه، والمادة فيه مصدر الشر الذي تسعى النفس إلى الخلاص منه، إما بالمجاهدة والزهد وهو طريق المريدين (طريق يعقوب)؛ أو بالعلم (طريق إبراهيم)؛ أو بالنعمة الإلهية (طريق إسحق) كي تبلغ الله وتتحد به، وهذا هو الإيمان وعين التصوف.
بدأ فيلون من الدين، واستعان بالفلسفة، لا العكس، كما هي عليه الحال لدى الفلاسفة السابقين، ولدى كل فيلسوف حقيقي؛ وهذا يعني أن الحقيقة الدينية عنده هي الأصل في كل تفكير وهي التي تطبع الحقيقة العقلية لديه بطابعها الخاص، ومن هنا كان الإيمان عنده سابق العقلَ طبقاً للمقولة التي أتى بها فيما بعد القديس أوغسطين[ر] «آمن كي تعقل، واعقل كي تؤمن».
سوسن بيطار
(نحو30 ق. م ـ 50 م)
فيلون السكندري Philo of Alexandria فيلسوف يهودي وكاتب يوناني، ولد في الاسكندرية لأسرة غنية بارزة فيها، لايُعرف كثير عن حياته سوى أنه حظي بتربية ممتازة، ينم على ذلك تضلعه من التوراة (رغم جهله العبرية) والفلسفة اليونانية وسائر الفلسفات التي كانت تموج بها الاسكندرية في عصره. وقد لقب بأفلاطون اليهود، لتأنقه في أسلوبه، وجودة تعبيراته، وكتاباته اليونانية. أرسلته الجالية اليهودية سنة 40م على رأس وفد إلى روما للتوسط لدى الامبراطور كاليغولا Calicula لرفع الغبن الروماني عن اليهود، وإعفائهم من التعبد لتماثيل الامبراطور في كنائسهم، وكانت مهمة صعبة أخفق فيها غير ما وفد، لكنه تمكن وحده من النجاح.
يعد فيلون أول فيلسوف جمع بين الفلسفة واللاهوت[ر]، فكان لاهوتياً أكثر من كونه فيلسوفاً، وقد تزعم المدرسة الفكرية في الاسكندرية التي جمعت بين التوحيد اليهودي وفلسفة أفلاطون.
عرف عن فيلون ميله إلى حياة التأمل، والتجرد عن الحياة العملية، وكذلك بعده عن الشؤون السياسية، رغم تأليفه كتاب «دفاع عن اليهود، موسى». واشتهر بشغفه بالأمور الدينية، والتوفيق بين الكتاب المقدس وعادات اليهود من جهة، والآراء الأفلاطونية وخاصة أفلاطون من جهة أخرى. كان متصوفاً، ورائداً للأفلاطونية المحدثة، ومؤسساً لمذهب في التأويل الرمزي المجازي مستفيداً من مناهج الفلسفة اليونانية التي سادت آنذاك في مدرسة الاسكندرية الفلسفية. فألَّف كتابه الشهير «الشرح المجازي للشرائع المقدسة»، وصاغ نظرية فلسفية أساسية عن اللوغوس Logos في مؤلفه «في عبودية الأحمق، في حرية الحكيم». كما دوّن بعض الكتب الفلسفية مثل «في دوام العالم»، و«في العناية الإلهية». وقد مثل إنتاجه الفكري ركيزة أولية وأساسية في ميدان التوفيق بين الدين والفلسفة.
حرص فيلون على تأويل نصوص التوراة خاصة «سفر التكوين» تأويلاً نظرياً متشبعاً بالفلسفة اليونانية، فكان يدعم تفسيراته بمختارات من هذه الفلسفة، وخاصة أفلاطون، لكنه كان يقف في تأويله للإلهيات عند حدود الشريعة لا يتعدّاها، ولذلك أقبل فلاسفة المسيحية والإسلام على كتبه بوصفها تقويماً دينياً للفلسفة اليونانية، ومحاولة جديرة بالمحاكاة لتأويل الأناجيل والقرآن تأويلاً فلسفياً. كما قدم تفسيراً لتاريخ اليهود، يقوم أساساً على تأويل قصص هذا التاريخ ووقائعه العينية، بإدخال ألفاظ ودلالات صوفية ومجازية.
تناول لاهوته موضوعات شتى شملت شرحاً لكيفية الخلق من العدم، والوجود، وصفات يهوه إله اليهود خالقاً وعلة أولى للكون عن طريق وسائط أو قوى إلهية تختلف الواحدة عن الأخرى بحسب وظيفتها، أهمها اللوغوس والحكمة الإلهية، والملائكة (وهي فكرة يهودية)، وقوى إلهية أخرى، كقوة الخير، وقوة القدرة، وقوة الحكمة الإلهية التي عدها فيلون أمّ العالم ووصفت بأنها زوج الإله. وأدى تمازج الفلسفة اليونانية بالأديان المنتشرة في الشرق إلى امتزاج الميثولوجيا اليونانية: آلهة اليونان بالآلهة المصرية القديمة، وولدت فكرة التزاوج بين الكائنات الإلهية فزيوس عند اليونان يتزوج من هيرا؛ تماماً كما في الديانة المصرية يتزوج أوزيريس من إيزيس وينجب حورس.
تأثرت فلسفة فيلون عن اللوغوس بمصادر يونانية عدة، كان أبرزها ما جاء في فلسفة هرقليطس[ر] والرواقية[ر] وأنكساغوراس[ر] بأن اللوغوس هو النوس أو العقل الإلهي، والقوة المدبرة للكون، والحافظة له. فأصبح اللوغوس في التراث اليهودي أول القوى الصادرة عن الله، ومحل الصور، والنموذج الأول لكل الأشياء (كالمثال الأفلاطوني)، إنه رباط الكون الحافظ لأجزائه، ووسيلة الله في خلق العالم، وكلمة الله، ومجموع الحكم الإلهية في الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم، أي أسفار موسى\ التي أشار إليها اليهود باسم «ممرا»، وقد أثرت هذه النظرية في العقيدة المسيحية وظهرت آثارها في إنجيل يوحنا، رغم أن فيلون لم يحصر مدلول اللوغوس بشخص معين ولم يجسده في إنسان، كما شاع عند المسيحية.
والنفس عند فيلون خالدة وهي نعمة إلهية، لكن الله قادر على إبادتها لو تدنست وهبطت إلى العالم الأرضي، وهذا التصور حول خلود النفس يختلف عن الخلود الأفلاطوني[ر: الخلود]. أما العالم فهو مادي متناه، والمادة فيه مصدر الشر الذي تسعى النفس إلى الخلاص منه، إما بالمجاهدة والزهد وهو طريق المريدين (طريق يعقوب)؛ أو بالعلم (طريق إبراهيم)؛ أو بالنعمة الإلهية (طريق إسحق) كي تبلغ الله وتتحد به، وهذا هو الإيمان وعين التصوف.
بدأ فيلون من الدين، واستعان بالفلسفة، لا العكس، كما هي عليه الحال لدى الفلاسفة السابقين، ولدى كل فيلسوف حقيقي؛ وهذا يعني أن الحقيقة الدينية عنده هي الأصل في كل تفكير وهي التي تطبع الحقيقة العقلية لديه بطابعها الخاص، ومن هنا كان الإيمان عنده سابق العقلَ طبقاً للمقولة التي أتى بها فيما بعد القديس أوغسطين[ر] «آمن كي تعقل، واعقل كي تؤمن».
سوسن بيطار