عن سعينا لكي نصير كالماء
بلال خبيز 20 أغسطس 2023
آراء
(Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
تدور أحداث رواية "العطر" لباتريك زوسكيند حول شخصية كائن خارق لا رائحة له (جان باتيست غرونوي) يستطيع أن يميز أكثر الروائح دقة وخفاء. الروايات التي تتحدث عن أبطال خارقين لا تحصى عددًا اليوم، لكن ما تثبته رواية زوسكيند يتصل مباشرة بعلاقة الكائن البشري بروائحه وروائح بني جنسه. كما لو أن روائحنا الشخصية هي بصماتنا التي لا تخفى على الآخر، على ما توضح الرواية، وهي البصمة التي تجعلنا نتقرب من الآخر، أو نعرض عنه، بحسب تقبلنا لبصمته.
في كتابه "قلق في الحضارة"، يلاحظ سيغموند فرويد أن انتصاب قامة الإنسان جعله أقل اتصالًا بالروائح. وبالتالي فإن الإنسان الذي ابتعد عن روائحه وروائح الأشياء والكائنات الأخرى أصبح أقل قدرة على استخدام أنفه في التعرف إلى محيطه والاستئناس به، فاستعاض عن الأنف بالعين. لكن عين الإنسان لا تستسيغ المعقد والمتشابك. الجمال في عين الإنسان هو التناسق، والتناسق هو كناية عن التوسط. كل ما هو متطرف وحاد لا يعود جميلًا. ولأن العين عضو يعشق الهندسة والتناسب، استطاعت فرض منطقها على الحواس الأخرى، اللسان والجلد والأنف والأذن. وأصبحت كل هذه الأعضاء تنشد التوسط وترفض التطرف. أكان التطرف مذاقًا أم رائحة أم شكلًا أم مناخًا. لذا ينشد النشاط البشري ما أمكنه تجنب الحالات المتطرفة. ووسيلته لهذا التجنب هي الصناعة نفسها. وعلى هذا النشدان نشأت صناعات وتأصلت عادات. الطعام نطيبه بالبهارات، والجلود نطيبها بالعطور، والطبيعة العذراء نطيبها بمباني الإسمنت والخشب والحدائق المعتنى بنباتاتها وأنواعها. ولا نبقي من تلك الطبيعيات إلا ما نفترض أنه ضعيف وغير قادر على احتلال فضائنا. هذا يضم الورود والزهور كما يضم القطط والكلاب والعصافير. هذه الكائنات والأشياء التي تبدو ضعيفة الروح وقابلة للتلف على نحو سريع، حتى لنكاد نحسب أن عدوها هو الطبيعة نفسها. هذه الكائنات التي نربيها ونعتني بها هي الكائنات التي نحسب أنها غير قادرة على مواجهة الطبيعة، فنأويها في بيوتنا، ونعتني بها لأنها في عرفنا ووعينا كائنات هشة.
والأرجح أن احتفالنا بهشاشة هذه الكائنات مرده إلى قناعتنا بأننا نحن أيضا نعاني من تلك الهشاشة التي ننسبها إلى هذه الكائنات. فالكائن البشري لا يتصل بالطبيعة إلا مسلحًا بألف درع ورمح. من السيارات إلى البنادق والخناجر والسيوف، وصولًا إلى الأحذية والثياب. وفي كل هذا السعي المحموم، نحاول ما أمكننا أن نخرج على طبيعتنا، ونحل محلها طبيعة مصنوعة بالكامل. الجسم البشري المحتفى به بوصفه مثيرًا وجميلًا في الروايات والسينما وفيديوهات الشبكة العنكبوتية هو جسم أزيلت عن جلده كل ما يوحي ببريته وطبيعيته. سواء كان المزال شعرًا لا نرغب بمنظره وملمسه، أو كان روائح طبيعية لم نعد نرغب في إشهارها على الآخرين.
لكن الحياة اليومية بطبيعتها تجبرنا على العودة بريين وطبيعيين بين الحين والآخر. نحن نعمل، ونمارس الرياضات في الهواء الطلق، ونحارب، ونتسلق جبالًا، ونقطع صحارى، لنثبت لأنفسنا أننا تغلبنا على الطبيعة القاسية والقاتلة. لكننا ننسى أن الطبيعة تترك أثرها على جلودنا عند كل محنة وكل نشاط: نتعرق ونتسخ وتغمرنا الرمال والأتربة. وما أن نعود إلى منازلنا حتى نزيل كل ما علق بنا من الطبيعي بالماء والصابون. كما لو أن الماء هو المادة الطبيعية الوحيدة التي نأنس إليها ولا ننفر منها. وصفة الماء الأثيرة أنه بلا لون ولا طعم ولا رائحة، كما لو أننا نريد أن نكون حقًا بلا لون ولا طعم ولا رائحة.
تحفل روايات أوائل القرن الماضي بشخصيات حالت ظروف العمل أو السفر بينها وبين الاغتسال والتطهر. هؤلاء الذين كانوا يعيشون في حضن وعد الليبرالية الذي يفيد بأن بذل الجهد اللازم كفيل بأن يجعل العالم أنعم ملمسًا، وأرق طبيعة، وأزكى رائحة، كانوا غالبًا ما يؤرخون اغتسالهم كما لو أنه حدث جلل. (في روايات اليوم ليس ثمة إشارات كثيرة لهذا الأمر، ذلك أننا منذ عقود بتنا نحسب أننا كائنات من لحم ودم وماء وصابون). ذلك أن الاغتسال في حد ذاته، كان، في تلك الفترة من صبا الليبرالية، تقربًا حاسمًا من حدود السعادة والراحة والرفاهية. واستمر هذا النزوع حيًا وقويًا ونابضًا إلى يومنا هذا. ومع استمراره وجموحه نجح في نبذ كثير مما هو طبيعي وفطري فينا، وجعلنا على نحو ما كائنات مصنوعة بالماء والصابون.
ليس في كل ما تقدم ما يمكن العودة عنه. لكن التوغل في هذا المسار الذي اختطته الكائنات البشرية يثير كثير من الأسئلة المحرجة. في القرون السابقة كانت حمى النظافة واقتلاع الروائح ونبذها تنحصر في المجال العام، فيعتني المرء بمظهره وملمسه ورائحته. لكنه في السائر من وقته، يعمل ويأكل ويقضي حاجاته متصالحًا مع روائحه وإفرازاته ومذاقاته. اليوم ثمة سعي محموم نحو جعل ما نتذوقه ونتناوله من طعام مقررًا بعناية من لا يريد أن يأكل أو يشرب ما قد يترك أثرًا في ما بعد. كما لو أن الجنوح المعاصر يريد أن يغسل أمعاءنا بالصابون والماء، وأن نستعيض بالمطيبات عما ألفنا تناوله وأكله طوال قرون. ثمة اليوم أمراض حساسية لكل شيء: الحليب والخبز واللحوم والحبوب. كل ما نتناوله في طعامنا بات قابلًا لأن نكون حساسين حياله. ونحن في هذا السعي إنما نريد أن نطرد روائحنا عنا، ونخفي طبائعنا. وفي سعينا هذا بتنا أقل تسامحًا مع أقراننا وشركائنا على نحو تتزايد حدته يومًا بعد يوم. ذلك أننا بتنا نأنف من روائحنا وإفرازاتنا، فكيف يمكننا أن نتقبل روائح وإفرازات الآخرين؟
والحق أن هذا التطرف في سعينا البشري الذي يخرجنا من طبيعة أجسامنا يطرح أسئلة عميقة حول علاقة الجنس بالجنس الآخر، وتاليًا حول أي خطاب يتعلق بالمساواة بين أجسام الجنسين. فحين تجد المرأة نفسها مجبرة على نحو قاطع على إخفاء روائحها وإفرازاتها و"زوائدها"، لا يستطيع جسمها أن يساوي جسم الرجل الذي ما زال يملك بعض البرية والتوحش. كما لو أن التساوي في هذا المقام محكوم بتحضيرات لا تحصى عددًا، ولا يكتسب بالولادة، كما هو مفترض.
أجسامنا التي نتواصل عبرها اليوم هي أجسام بعيدة عن أن تكون طبيعية. وتاليًا فإن ما يتحكم حقًا في مستواها هو محض صناعة رائجة. وبكلام أوضح، فإن المتعطرة، أو المتعطر، بعطر من درجة أولى، سيكون أعلى كعبًا، وأرفع درجة، من المتعطر بعطر من عطور الدرجة الثانية. وعلى المنوال نفسه، يمكن أن نلاحظ أن تعري أجزاء واسعة من أجسام الرجال والنساء مرتبط ارتباطًا حاسمًا بمدى العناية بهذا الجسم. فالعري المثير والمرغوب هو عري الجسم المعتنى بكل تفصيل من تفاصيله، لا عري المتشرد والمعوز، والذي لا يملك ما يستر جسمه. فالعوز يحوّل كل الجسم إلى عورة، فيما تحول العناية المفرطة كل جزء من أجزاء الجسم إلى مادة للعرض والإشهار.
بلال خبيز 20 أغسطس 2023
آراء
(Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
تدور أحداث رواية "العطر" لباتريك زوسكيند حول شخصية كائن خارق لا رائحة له (جان باتيست غرونوي) يستطيع أن يميز أكثر الروائح دقة وخفاء. الروايات التي تتحدث عن أبطال خارقين لا تحصى عددًا اليوم، لكن ما تثبته رواية زوسكيند يتصل مباشرة بعلاقة الكائن البشري بروائحه وروائح بني جنسه. كما لو أن روائحنا الشخصية هي بصماتنا التي لا تخفى على الآخر، على ما توضح الرواية، وهي البصمة التي تجعلنا نتقرب من الآخر، أو نعرض عنه، بحسب تقبلنا لبصمته.
في كتابه "قلق في الحضارة"، يلاحظ سيغموند فرويد أن انتصاب قامة الإنسان جعله أقل اتصالًا بالروائح. وبالتالي فإن الإنسان الذي ابتعد عن روائحه وروائح الأشياء والكائنات الأخرى أصبح أقل قدرة على استخدام أنفه في التعرف إلى محيطه والاستئناس به، فاستعاض عن الأنف بالعين. لكن عين الإنسان لا تستسيغ المعقد والمتشابك. الجمال في عين الإنسان هو التناسق، والتناسق هو كناية عن التوسط. كل ما هو متطرف وحاد لا يعود جميلًا. ولأن العين عضو يعشق الهندسة والتناسب، استطاعت فرض منطقها على الحواس الأخرى، اللسان والجلد والأنف والأذن. وأصبحت كل هذه الأعضاء تنشد التوسط وترفض التطرف. أكان التطرف مذاقًا أم رائحة أم شكلًا أم مناخًا. لذا ينشد النشاط البشري ما أمكنه تجنب الحالات المتطرفة. ووسيلته لهذا التجنب هي الصناعة نفسها. وعلى هذا النشدان نشأت صناعات وتأصلت عادات. الطعام نطيبه بالبهارات، والجلود نطيبها بالعطور، والطبيعة العذراء نطيبها بمباني الإسمنت والخشب والحدائق المعتنى بنباتاتها وأنواعها. ولا نبقي من تلك الطبيعيات إلا ما نفترض أنه ضعيف وغير قادر على احتلال فضائنا. هذا يضم الورود والزهور كما يضم القطط والكلاب والعصافير. هذه الكائنات والأشياء التي تبدو ضعيفة الروح وقابلة للتلف على نحو سريع، حتى لنكاد نحسب أن عدوها هو الطبيعة نفسها. هذه الكائنات التي نربيها ونعتني بها هي الكائنات التي نحسب أنها غير قادرة على مواجهة الطبيعة، فنأويها في بيوتنا، ونعتني بها لأنها في عرفنا ووعينا كائنات هشة.
"عين الإنسان لا تستسيغ المعقد والمتشابك. الجمال في عين الإنسان هو التناسق، والتناسق هو كناية عن التوسط" |
والأرجح أن احتفالنا بهشاشة هذه الكائنات مرده إلى قناعتنا بأننا نحن أيضا نعاني من تلك الهشاشة التي ننسبها إلى هذه الكائنات. فالكائن البشري لا يتصل بالطبيعة إلا مسلحًا بألف درع ورمح. من السيارات إلى البنادق والخناجر والسيوف، وصولًا إلى الأحذية والثياب. وفي كل هذا السعي المحموم، نحاول ما أمكننا أن نخرج على طبيعتنا، ونحل محلها طبيعة مصنوعة بالكامل. الجسم البشري المحتفى به بوصفه مثيرًا وجميلًا في الروايات والسينما وفيديوهات الشبكة العنكبوتية هو جسم أزيلت عن جلده كل ما يوحي ببريته وطبيعيته. سواء كان المزال شعرًا لا نرغب بمنظره وملمسه، أو كان روائح طبيعية لم نعد نرغب في إشهارها على الآخرين.
لكن الحياة اليومية بطبيعتها تجبرنا على العودة بريين وطبيعيين بين الحين والآخر. نحن نعمل، ونمارس الرياضات في الهواء الطلق، ونحارب، ونتسلق جبالًا، ونقطع صحارى، لنثبت لأنفسنا أننا تغلبنا على الطبيعة القاسية والقاتلة. لكننا ننسى أن الطبيعة تترك أثرها على جلودنا عند كل محنة وكل نشاط: نتعرق ونتسخ وتغمرنا الرمال والأتربة. وما أن نعود إلى منازلنا حتى نزيل كل ما علق بنا من الطبيعي بالماء والصابون. كما لو أن الماء هو المادة الطبيعية الوحيدة التي نأنس إليها ولا ننفر منها. وصفة الماء الأثيرة أنه بلا لون ولا طعم ولا رائحة، كما لو أننا نريد أن نكون حقًا بلا لون ولا طعم ولا رائحة.
تحفل روايات أوائل القرن الماضي بشخصيات حالت ظروف العمل أو السفر بينها وبين الاغتسال والتطهر. هؤلاء الذين كانوا يعيشون في حضن وعد الليبرالية الذي يفيد بأن بذل الجهد اللازم كفيل بأن يجعل العالم أنعم ملمسًا، وأرق طبيعة، وأزكى رائحة، كانوا غالبًا ما يؤرخون اغتسالهم كما لو أنه حدث جلل. (في روايات اليوم ليس ثمة إشارات كثيرة لهذا الأمر، ذلك أننا منذ عقود بتنا نحسب أننا كائنات من لحم ودم وماء وصابون). ذلك أن الاغتسال في حد ذاته، كان، في تلك الفترة من صبا الليبرالية، تقربًا حاسمًا من حدود السعادة والراحة والرفاهية. واستمر هذا النزوع حيًا وقويًا ونابضًا إلى يومنا هذا. ومع استمراره وجموحه نجح في نبذ كثير مما هو طبيعي وفطري فينا، وجعلنا على نحو ما كائنات مصنوعة بالماء والصابون.
ليس في كل ما تقدم ما يمكن العودة عنه. لكن التوغل في هذا المسار الذي اختطته الكائنات البشرية يثير كثير من الأسئلة المحرجة. في القرون السابقة كانت حمى النظافة واقتلاع الروائح ونبذها تنحصر في المجال العام، فيعتني المرء بمظهره وملمسه ورائحته. لكنه في السائر من وقته، يعمل ويأكل ويقضي حاجاته متصالحًا مع روائحه وإفرازاته ومذاقاته. اليوم ثمة سعي محموم نحو جعل ما نتذوقه ونتناوله من طعام مقررًا بعناية من لا يريد أن يأكل أو يشرب ما قد يترك أثرًا في ما بعد. كما لو أن الجنوح المعاصر يريد أن يغسل أمعاءنا بالصابون والماء، وأن نستعيض بالمطيبات عما ألفنا تناوله وأكله طوال قرون. ثمة اليوم أمراض حساسية لكل شيء: الحليب والخبز واللحوم والحبوب. كل ما نتناوله في طعامنا بات قابلًا لأن نكون حساسين حياله. ونحن في هذا السعي إنما نريد أن نطرد روائحنا عنا، ونخفي طبائعنا. وفي سعينا هذا بتنا أقل تسامحًا مع أقراننا وشركائنا على نحو تتزايد حدته يومًا بعد يوم. ذلك أننا بتنا نأنف من روائحنا وإفرازاتنا، فكيف يمكننا أن نتقبل روائح وإفرازات الآخرين؟
والحق أن هذا التطرف في سعينا البشري الذي يخرجنا من طبيعة أجسامنا يطرح أسئلة عميقة حول علاقة الجنس بالجنس الآخر، وتاليًا حول أي خطاب يتعلق بالمساواة بين أجسام الجنسين. فحين تجد المرأة نفسها مجبرة على نحو قاطع على إخفاء روائحها وإفرازاتها و"زوائدها"، لا يستطيع جسمها أن يساوي جسم الرجل الذي ما زال يملك بعض البرية والتوحش. كما لو أن التساوي في هذا المقام محكوم بتحضيرات لا تحصى عددًا، ولا يكتسب بالولادة، كما هو مفترض.
أجسامنا التي نتواصل عبرها اليوم هي أجسام بعيدة عن أن تكون طبيعية. وتاليًا فإن ما يتحكم حقًا في مستواها هو محض صناعة رائجة. وبكلام أوضح، فإن المتعطرة، أو المتعطر، بعطر من درجة أولى، سيكون أعلى كعبًا، وأرفع درجة، من المتعطر بعطر من عطور الدرجة الثانية. وعلى المنوال نفسه، يمكن أن نلاحظ أن تعري أجزاء واسعة من أجسام الرجال والنساء مرتبط ارتباطًا حاسمًا بمدى العناية بهذا الجسم. فالعري المثير والمرغوب هو عري الجسم المعتنى بكل تفصيل من تفاصيله، لا عري المتشرد والمعوز، والذي لا يملك ما يستر جسمه. فالعوز يحوّل كل الجسم إلى عورة، فيما تحول العناية المفرطة كل جزء من أجزاء الجسم إلى مادة للعرض والإشهار.