حين "يخرج" سكورسيزي عن مساراته المعهودة وبراءة سينماه العميقة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حين "يخرج" سكورسيزي عن مساراته المعهودة وبراءة سينماه العميقة

    اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	IMG_٢٠٢٣٠٨٢٠_١٠٣١٥٩.jpg 
مشاهدات:	5 
الحجم:	57.7 كيلوبايت 
الهوية:	148601
    "ذئب وول ستريت" ثروات واحتيالات مذهلة تتنقل وسط جنون مغامرات الفحش والمخدرات.
    في بدايات العقد الثاني من القرن الـ21 وبعد عامين تماماً من تحقيقه فيلمه "الأكثر براءة" و"سينمائية"، بالتالي "ذاتية" في مساره السينمائي، "هوغو"، وفي وقت كان يبدو فيه منتمياً إلى الماضي السحيق ذلك الزمن الذي كان مارتن سكورسيزي يحقق فيه أفلاماً قاسية تشاكس الحلم الأميركي وتقدم شخصيات غالباً ما تتأرجح بين المال والخطيئة والتوبة والمخدرات وضروب الانحلال الأخرى، ها هو ذاك الذي يلقب بأكبر سينمائي أميركي حي يثبت مرة أخرى جدارته باللقب، بل يثبت أكثر من هذا أنه ربما يكون الأكثر شباباً بين كبار العاملين في هوليوود في أيامنا هذه. بعد عامين من "هوغو" إذاً، ها هو سكورسيزي يصل ما كان يبدو أنه انقطع لديه مع تحف قديمة له مثل "فتية طيبون" و"كازينو" وربما أيضاً "الثور الهائج"... ولكن مع جرعات إضافية مدهشة من الجنون والإباحية ما كان هذا المخرج المحتشم يجرؤ عليها قبل ربع قرن وأكثر... وكل هذا في فيلمه غير المتوقع الذي فاجأ أهل السينما وجمهورها يومها بعروض عالمية بدت وكأنها أتت من دون مقدمات...
    ذئب في عالم الذئب
    الفيلم المعني هو بالتأكيد "ذئب وول ستريت" الذي عاد فيه سكورسيزي إلى إدارة ممثله المفضل في تلك السنوات ليوناردو دي كابريو للمرة الخامسة تباعاً تقريباً في دور يذكر بما كانت العلاقة الفنية عليه بين سكورسيزي وروبرت دينيرو عند بدايات هذين معاً. والطريف هنا هو أنه لئن كان ليوناردو يبدو أكثر شباباً وجنوناً مما كان عليه دينيرو في أكثر أداءاته مع صاحب "سائق التاكسي" و"الثور الهائج" و"كازينو" جنوناً، فإن اشتغال سكورسيزي على الفيلم الجديد بدا بدوره أكثر حيوية وشباباً مما كانت عليه الأمور في أي من أفلامه السابقة. وكأن العمل هذه المرة أعاده نصف قرن إلى الوراء... وذلك لأننا هنا، في "ذئب وول ستريت" نجد أنفسنا أمام ما يقرب من ثلاث ساعات من الجنون والحيوية والحركة والمخدرات والأموال والبورصة والعاهرات والمناكفات الزوجية ومشاهد الجنس والنجاح الرأسمالي والمطاردات البوليسية والخيانات... في النهاية بدا الأمر وكأن ما أراد سكورسيزي أن يقدمه إنما هو "أنطولوجيا" شاملة تراكم كل ما كان سبق أن قدمه في العدد الأكبر من أفلامه... وربما كذلك مع إطلالات تأسيسية، بالنسبة إليه، على بعض ما يميز أساليب زملاء له سبق له هو أن حيا أعمالهم وأحياناً انتماء تلك الأعمال إليه. نقول هذا ونفكر ببعض أكثر اللحظات جنوناً في بعض أفلام الأخوين كون أو حتى بسينما مونتي بيتون وفيس أندرسون وصولاً ربما إلى سينما جاد آباتو... ونعرف أن كل واحد من هؤلاء كان في مرحلة ما قد أقر بأستاذية سكورسيزي له. فهل شعر الأستاذ أن الوقت قد حان كي يرد التحية بأجمل منها؟
    سيرة حقيقية
    إلى حد ما أجل، غير أن هذا يظل في الشكل، وفي لحظات عابرة تمر فيها لمحات أنطولوجية، أو في استخدام ممثل من طينة جونا هيل – ممثل آباتو المفضل - في ثاني أدوار الفيلم بعد دور ليوناردو دي كابريو، أو في حوارات لن تنسى في بعض المشاهد الأساس، كما في المشهد الذي يدور أول الفيلم في مطعم بين ليوناردو وماتيو ماكنافي حول ضرورة الاستيلاء على أموال الزبائن كشرط أول للنجاح. والحقيقة أن هذا الشرط هو عماد الفيلم وموضوعه... ولئن كان المال قد شكل دائماً موضوعة أساسية في أفلام سكورسيزي، فإنه هذه المرة الموضوع الجوهري. وسيبدو الأمر طبيعياً إن نحن أدركنا أن الفيلم مأخوذ أصلاً –وكما حال العدد الأكبر من أفلام سكورسيزي "الفاضحة" للحلم الأميركي- من سيرة ذاتية حقيقية كتبها النصاب جوليان بلفور بعدما كان عاش سنوات مذهلة في وول ستريت أسس خلالها شركة للمتاجرة بالأسهم راكم بفضلها وبفضل خداعه للزبائن والمستثمرين عشرات ملايين الدولارات قبل أن "يفتضح" أمره بفضل دأب شرطي سيحاول ذات لحظة رشوته فيكون في ذلك القضاء عليه، ويسجن ليخرج من سجنه "خبيراً مستشاراً" ويكتب سيرته، ليس كعبرة وإنما كـ..."درس في النجاح.
    رحلات مكوكية
    هذه السيرة وموضوعها ونهايتها حافظ عليها سكورسيزي مع كاتب السيناريو تيرنس ونتر في شكلها الخطي ولكن غالباً أيضاً على شكل رحلات مكوكية في الزمن، من دون كبير تدخل منه، ومع هذا وكما يحدث دائماً مع سكورسيزي حين يستحوذ على نص سابق الوجود ليحوله إلى فيلم، طلع الفيلم من بين يديه "سكورسيزياً" خالصاً... بل بدا وكأنه يعصرن ما لا يقل عن فيلمين للمخرج نفسه هما بالتحديد "فتية طيبون" و"كازينو"، إلى درجة أن الراوي الذي تروى لنا أحداث كثيرة من الفيلم من طريقه كما جرت العادة في أفلام سكورسيزي، وهو هنا في "ذئب وول ستريت"، ليوناردو دي كابريو نفسه، يبدو وكأنه يستكمل ما كان يرويه راي ليوتا في "كازينو" أو ما كان يروى خارج الشاشة على الطريقة نفسها في الفيلم الأسبق "فتية طيبون"، وأحياناً بالعبارات نفسها إن لم تخنا الذاكرة. ولنتنبه هنا إلى أن ما كان يروى في المرات الثلاث، مع الفوارق الزمنية، إنما هو حكاية صعود وهبوط رجل من الحثالة: صعوده خارج القوانين وهبوطه غالباً تحت رعاية تلك القوانين إذ يتحول إلى واش يسلم رفاقه إلى السلطات مقابل تخفيف عقوبته...
    مضاربات البورصة
    كل هذا تتقاسمه الأفلام السكورسيزية معاً، لكن ما هو جديد هذه المرة، هو أن ما كان يبدو في الفيلمين السابقين خلاصاً من طريق التوبة على النمط الكاثوليكي، يفقد هنا جوهره وربما لأن فردية الحالة في "فتية طيبون" و"كازينو" وربما كذلك بشكل أعمق ومختلف بعض الشيء، في "الثور الهائج"، تخلي المكان هنا لحالة أكثر جماعية –ليس فقط بالنظر إلى أن الشركة التي يؤسسها بلفور ورفاقه تعتمد العمل الجماعي، بل كذلك لأن الحالة الحقيقية التي ترويها سيرة بلفور لم تعد حالة استثنائية حتى وإن كان بلفور نفسه استثنائياً. وهنا يكمن لب المسألة في "ذئب وول ستريت"، وذلك لأننا هنا أمام ظاهرة ترتبط ارتباطاً حاسماً بالذهنيات الرأسمالية التي عمت بورصات العالم في سنوات الـ80 والـ90 من القرن الـ20، ذهنيات الصعود مهما كان الثمن ولو على جثث الآخرين... وكان ذلك معمماً في السنوات التي شهدت صعود ما يسمى "الفتية الذهبيون" (غولدن بويز) في وول ستريت وغيره، يخوضون مضاربات البورصة في ألعاب تحدث تنقلات في الثروات والأسهم تثري البعض وتفلس الآخرين بين دقيقة وأخرى. وحتى إن كان الـ"غولدن بويز" أفراداً وقد يجوز اللجوء في بحث حالاتهم إلى الدنو من القيم الكاثوليكية والأخلاقية وغيرها، فإن الظواهر صارت أكثر اتساعاً بكثير. وهذا أمر لا بأس من الإشارة إلى أن أفلاماً وكتباً عديدة عالجته في السنوات الأخيرة، لا سيما على ضوء انهيار أسواق الأسهم والإفلاسات –ومن بينها جزءا "وول ستريت" لأوليفر ستون، و"كوزموبوليس" لديفيد كروننبرغ كي لا نذكر سوى الأعمال الأشهر– ولكن ما كان يبدو لدى الآخرين فعل إدانة مؤدلجة بعض الشيء، يتحول لدى سكورسيزي، كالعادة، إلى التباس يمكن وصفه بالالتباس الخلاق.
    سجالات أخلاقية
    وهذا الأمر لم يكن ليخفى على المخرج السبعيني الذي بدأ فيلمه، بعد أيام الدهشة والإعجاب الأولى، يثير سجالاً عميقاً حول ماذا يريد حقاً أن يقول، وهل كان في الأصل متعمداً أن يصور شخصيته المحورية، جوليان بلفور، فاتنا تحت ملامح ممثله المفضل؟ من المؤكد أن سكورسيزي لن يحاول التعمق في الإجابة عن مثل هذه الأسئلة ولسان حاله يقول، كالعادة، إن غايته الأولى والأخيرة كانت أن يقدم عملاً سينمائياً جديداً وطريفاً وأخاذاً، وأن يرسم – مستقاة من الواقع الحقيقي – شخصيات من الحياة تعيش بيننا ونعيش بينها... أما الذين يريدون وعظاً ودروساً في الأخلاق فعليهم بالكنائس والجمعيات الخيرية! وفي انتظار ذلك ها هو الفيلم بساعاته الثلاث وجنونه وملايين دولاراته المجمعة ثم الضائعة وشرطة مكافحة التهرب من الضرائب إذ تنجح حيناً وتخفق حيناً، والتهريب إذ يتم بين نيويورك وسويسرا ودي كابريو من خلال شركته يجمع الأرباح ويراكم سهرات المخدرات والفحش، والعاصفة البحرية تهاجم اليخت في سينما نادرة... وها هو المتفرج بعدما يكون قد تساءل أول الأمر عما يمكن، بعد، لسكورسيزي أن يقدم بعد السلسلة المدهشة من روائع مساره، يخرج وهو يتمتم: ها هو سكورسيزي يبدو هذه المرة أيضاً، كمن يبدأ من جديد
يعمل...
X