Saad Alkassem
تتوقف حلقة اليوم من (متحف الوطن الافتراضي) عند رشاد مصطفى (1911- 1995) رسام الدقة اللامتناهية، الذي يُعدُّ أحد أهم ممثلي التيار الواقعي الطبيعي في جيل الرواد. ولد في قرية جوبر قرب دمشق، وبخلاف معظم فناني جيله الذين واجهوا معارضة محيطهم لتوجهاهم الفنية، لقي تشجيعاً من أبيه في طفولته المبكرة قبل أن يدخل المدرسة الابتدائية حين كان يحاول رسم رأس حصان، فرسم له أبوه حصاناً كاملا مما خلق حافزاً عند رشاد الطفل لتطوير مهاراته عن طريق نقل الصور الفوتوغرافية، ورسم تكوينات الطبيعة الصامتة التي كان يمكن أن تتوفر في بيته من أزهار وفاكهة وأواني. في عام 1926غادر المدرسة الابتدائية وبعد ذلك بعامين (1928) انتقل إلى بيروت حيث تعرف هناك على الفنانين اللبنانيين مصطفى فروخ وعمر الأنسي. والتقى توفيق طارق عام 1937 ونشأت صداقة عميقة بينهما، وأقام معه لعدة سنوات في منزل واحد في بيروت وعملا معاً في (دائرة المساحة والتحسين العقاري) فيها، كما تشاركا في الرسم على الرغم من التباين الهائل بين شخصيتيهما. فخلافاً لتوفيق طارق النزق كان رشاد مصطفى هادئاً يعمل بصمت، بعيداً عن الأضواء، منصرفاً كلياً لتطوير مهاراته الفنية التي اكتسبها عن طريق تدريب نفسه، والاطلاع على الصور الفوتوغرافية - كما أشير سابقا - ومن ثم عن طريق الاطلاع على صور أعمال الفنانين العالميين المطبوعة حين توفرت له إمكانية شراء هذه الصور إثر عمله كرسام في دائرة المساحة. وقد استعاد رشاد مصطفى تلك المرحلة عام 1977 حين رسم وجهية (بورتريه) لتوفيق طارق (المنشورة هنا). ومع أن هذه الوجهية تبدو وكأنها دراسة لونية، إلا أنها تكشف عن براعته في التقاط ملامح الوجه وتعابيره. ويذكر الناقد التشكيلي طارق الشريف ان توفيق طارق فوجئ بموهبة رشاد فسأله عمن علمه الرسم، ولماذا لم يخبره بأنه يرسم، فأجابه مصطفى بأنه لا يريد البوح لأحد بذلك، لأنه لم يكن على قناعة بأنه فنان حقاً. كما أنه لم يسأل توفيق طارق عن أصول الرسم أو قواعده، ولا عن المشكلات التي تعترضه، مما يكشف عن طبيعة شخصية مصطفى الذي يرغب باكتشاف الحلول الخاصة به دون أي مساعدة. ويصل الشريف إلى القول إن هذا يؤكد أن العلاقة بين طارق ومصطفى كانت علاقة صداقة، «ولم تكن أبداً علاقة أستاذ بتلميذ، كما يحلو لبعض الكتاب أن يفسروا لقاء الفنانين في بيروت».
في عام 1943 عاد رشاد مصطفى الى دمشق حيث نشط في الأوساط الفنية وكان أحد مؤسسي رابطة الفنانين التشكيلين السوريين التي شارك في معارضها بدءاً من العام التالي (1944). وأحيل إلى التقاعد عام 1971 بعد ان أمضى ثلاثة واربعين عاما في وظيفته، فتفرغ للعمل الفني. وأقام في العام ذاته معرضاً فردياً في صالة الشعب للفنون الجميلة بدمشق. وفي عام 1980 شارك بمعرض في الصالة ذاتها مع الفنانين سعيد تحسين ونصير شورى إثر منحهم أوسمة الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى.
ظل رشاد مصطفى أميناً طيلة حياته للأسلوب الواقعي الطبيعي. اتسمت لوحاته بالدقة والاتقان والاهتمام بأصغر التفاصيل. وحدثني الفنان الواقعي القدير عزيز إسماعيل، عن دهشته حين رأى رشاد مصطفى يباشر العمل بلوحة كبيرة باستخدام فرشاة ناعمة للغاية. وكيف كان يبدأ اللوحة من تفصيل صغير فيها لينتقل إلى باقي مكوناتها. أسلوب رشاد مصطفى الذي أثار استغراب فنان بكفاءة عزيز إسماعيل، هو أسلوب خاص به لا يخضع لمفاهيم المدارس الواقعية، وقبلها الكلاسيكية التي تبدأ اللوحة من الكل إلى الجزء. توصل إليه رشاد مصطفى من خلال تجربته الطويلة وعمله الدؤوب بحيث تبدو لوحته عند إنجازها وكأنها صورة فوتوغرافية، أما إذا طبعت صور لوحاته الزيتية الملونة (وخاصة التي تصور مشاهد الطبيعة) بالأبيض والأسود فإنها تبدو كلوحات (غرافيك) بالغة الإتقان حفرت على المعدن بشبكة من الخطوط الأنيقة الكثيفة الناعمة، ومن المؤكد ان سنوات عمله الطويلة كرسام في دائرة المساحة كان لها دور كبير في إكساب تجربته الدقة والإتقان الذي بلغته، وفي ارتقاء قدرته على العمل بصبر يجعله يمضي أشهراً يعمل بهدوء على لوحة واحدة، فإذا كانت عن الطبيعة استغرق في التفاصيل الصغيرة للأشجار والأغصان والأوراق والأعشاب والصخور. أما إذا كانت عن الطبيعة الصامتة فيمكن أن تتلف الفاكهة او الأزهار التي يصورها فيستبدلها بفاكهة جديدة.
مثلت مشاهد الطبيعة محور اهتمام رشاد مصطفى، تليها لوحات الطبيعة الصامتة، ومن ثم الوجهيات (البورتريه) وأهمها صورة وجهية لوالدته. كانت موضوع أكثر من مقالة لأكثر من ناقد. وتقدم مقالة نادرة للصحفي وحيد تاجا عرضاً أميناً لفلسفة رشاد مصطفى الفنية. فهذه المقالة التي نشرت في مجلة الحياة التشكيلية عام 2019 استندت إلى لقاء طويل أجراه تاجا مع مصطفى تناول تجربته ومفاهيمه وجاء فيها «الواقعية بنظر رشاد مصطفى هي سيدة الفنون والنبع الاصيل للثقافة. رغم كل ما ينتج اليوم من مختلف الاتجاهات والاساليب تدعي بعدها عن الواقعية وانفصالها عنها، وهي أيضا بالنسبة له قدرة ابداعية لدى الفنان يبني بوساطتها ما لا نستطيع ادراكه في الواقع جماليا، بينما كنا نتصور اننا ندركه ونعرفه. فالواقعية التي بدأت مع بداية الفن عند إنسان الكهوف، وتطورت وتبدلت مع تطور وتبدل الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، تثير الدهشة أكثر مما تثيرها اية مدرسة اخرى. وبالتالي فإن الأساليب المتنوعة التي حملت في جوانبها التعبير عن الواقع وحركته الاجتماعية لا يمكن تناولها بمعزل عن الواقعية، وهذا يشمل الأساليب الاكثر تعقيدا فهي ليست محاكاة ونقلا بل تعتمد على الخيال وبراعة التأليف والاحساس باللون وقوة الخط، فمن المعروف ان دوافع الفنان النفسية تصقل من خلال المعاناة في صدق وحرارة. أما عن بقية المدارس الفنية (التجريدية، التكعيبية، السريالية) وغيرها من المدارس فيرى الفنان مصطفى أن أعمال الفنان هي التي تقيمه في النهاية.. وهو يرى أن الفن في العالم اخذ يجدد الاعتراف بالواقعية وبأصالتها وقوتها بعد ان فشلت معظم الاساليب الفنية الحديثة في التعبير عن عمق الاحساس الفني».
يشارك رشاد مصطفى معظم الفنانين الواقعيين والانطباعيين الرأي بأن الطبيعة هي المعلم الأول للإنسان او للفنان، وأنها أعظم مدرسة لأن أكبر أساتذة العالم مهما تفانوا في العطاء يبقى علمهم محدودا مقارنة بتنوع الطبيعة وغناها. ولذلك فهو لا يُحرّف في أي عمل ينقله عنها.
الصور:
رشاد مصطفى
بورتريه لتوفيق طارق
والدة الفنان
طبيعة
طبيعة صامتة
بحر