الصمود الرياضي
يعبِّر الصمود، أو اللاتغيّر الرياضياتيmathematical invariance عن وجود خصائص فيزيائية ثابتة لاتتغيّر عند إجراء بعض التحويلات، ويرتبط هذا المفهوم بشكل وثيق مع مبادئ التناظر التي تؤدي دوراً أساسياً في الفيزياء، حيث يتحدّد ديناميك المنظومة المدروسة إلى حدّ بعيد من خلال خصائصها التناظرية. وليس من المبالغة القول إن التناظر هو ما يقدّم لنا التفسير الأساسي لأخذ القوانين الفيزيائية الشكلَ الذي لها.
تاريخيّاً لم يكن الطريق دوماً هكذا، فعلماءٌ مثل نيوتن Newton وأينشتاينEinstein وديراك Dirac صاغوا معادلاتهم التي تصف بعض ظواهر الطبيعة قبل معرفة الخصائص التناظرية لها. ولكن في العالَم المجهري، حيث القوى غير مألوفة، على المرء اكتشاف التناظرات التي تتمتّع بها المنظومة وتدلُّ عليها المقادير المصونة، مثل الاندفاع (كمية الحركة) والطاقة، قبل أن يستعين بها لمعرفة طبيعة القوى.
يقتضي مبدأ النسبية القائل: إن قوانين الفيزياء صامدة، لاتتغيّر، من جملة مرجعية لأخرى، أن تكون المقادير الفيزيائية المتضمَّنة في القوانين متمتعةً ببعض الخصائص التناظرية. يمكن تصنيف هذه المقادير في مقادير سلّمية مثل الكتلة الساكنة، أو مقادير متجهية (شعاعية) مثل التيار الكهربائي، أو مقادير موتّرية tensorial مثل السماحية الكهربائية، ولكلّ من هذه المقادير قوانين تحويل خاصة عند الانتقال من جملة مرجعية لأخرى.
يمكن إيضاح العلاقة بين مبادئ التناظر وقوانين المصونية إذا ما نظرنا إلى فرضية تجانس المكان التي تعني استحالةَ تحديدِ موضعٍ ما بشكل مطلق، ومن ثمّ لا بدّ أن تكون طاقة التأثير المتبادل بين جسيمين معتمدةً فقط على الموضع النسبي بينهما، ويكون اندفاع الجسيمين مصوناً. يوضح هذا المثال وجودَ علاقةٍ بين التناظر بالنسبة للانسحابات وانحفاظ الاندفاع.
بنية المادة وأنواع القوى في الطبيعة
بيّنت التجارب في المسرّعات أن النكليونات (البروتونات والنترونات) تتألف من جسيمات أصغر تسمّى بالكواركات[ر]quarks، ونعرف الآن ستة أنواع منها تدعى الكوارك العلوي u والسفلي d والمفتون cوالغريب s والذروي t والقعري b. وتبيّنَ كذلك وجودُ جسيمات مشابهة للإلكترون ولكنها أثقل منه هي الميون mμ والتاو tτ مع وجود ثلاثة أنواع من النترينوهات مرافقة لها، وتبيّنَ كذلك أن لكلّ جسيم جسيمَاً مضاداً يساويه في الكتلة ويعاكسه في الشحنة. تعرَّف الفيزيائيون في هذه الجسيمات على نمط تناظري يبدو من خلال معطيات الجدول 1، حيث صُنّفت في ثلاث عائلات، في كل واحدة منها كواركان وإلكترون، أو أحد قرينيه، وواحد من النترينوهات الثلاثة. تتشابه هذه الوحدات في خصائصها في العائلات الثلاث باستثناء كتلتها التي تزداد من عائلة إلى أخرى. تدعى الجسيمات المؤلَّفة من الكواركات بالباريونات[ر] baryons(مثل النكليونات التي تتألف من تجمّع ثلاثة كواركات من النوعين العلوي والسفلي)، بينما تدعى الجسيمات المؤلّفة من الكواركات ومضاداتها بالميزونات[ر] mesons (مثل البيونات pions)، أما الإلكترون وقريناه مع نترينوهاتها فتدعى اللبتونات[ر] leptons.
وتتعقد الأمور أكثر إذا ما أخذنا بالحسبان أيضاً قوى الطبيعة التي يُعرف منها اليوم أربعة أنواع هي: قوة الثقالة المسؤولة مثلاً عن بقاء كوكبنا في مداره حول الشمس، والقوة الكهرطيسية[ر] التي يرجع إليها الفضل في تمتعنا بمنجزات الكشوف الحديثة من كهرباء نرى أثرها في أجهزة الإنارة وأجهزة التلفاز والهاتف والحواسيب، أما القوتان الأساسيتان الأخريان فلا يُحَسُّ بهما في حياتنا اليومية لأن مداهما لا يتعدى الأبعاد الذرّيّة. تُعَدُّ أولاهما، وهي القوة النووية الشديدة، مسؤولة عن التصاق الكواركات بعضها ببعض ضمن البروتونات والنترونات، وعن ترابط هذه الأخيرة ضمن النوى الذرية؛ أما الثانية، وهي القوة النووية الضعيفة، فتتدخل في التحولات الجسيميّة أكثر من ظهورها كقوة جاذبة أو دافعة، وهي المسؤولة عن التفكك الإشعاعي لمواد مشعة كاليورانيوم. وقد تلمّس الفيزيائيون خاصيةً مشتركة بين أنواع هذه القوى كافة، تتجلى بوجود جسيم على مستوى مجهري، يرافق كل نوع من أنواع القوى الأربع، يُعَدُّ أصغر رزمة، أو كمّ، للقوة التي يرافقها. فالفوتونات التي ترافق القوة الكهرطيسية هي الجسيمات الأصغرية لهذه القوة؛ أما المكوّنات الأصغرية المرافقة للقوى النووية الضعيفة والشديدة فهي جسيمات ندعوها، على التوالي: بوزونات المعيار الضعيف W,Zوالغلوانات gluons. وقد برهن العلماء تجريبياً، حتى نهاية عام 1984، على وجود هذه الأنواع الثلاثة من جسيمات القوى، وحدّدوا خصائصها، المبيّنة في الجدول 2؛ وهم يعتقدون بوجود جسيم رابع يرافق قوة الثقالة، سمّوه الغرافيتون graviton، على الرغم من عدم تمكنهم حتى الآن من البرهان تجريبياً على وجوده.
التناظر في العالَم المجهري
يلعب التناظر دوراً كبيراً في فيزياء الجسيمات، ويمكن توصيفه رياضياتياً من خلال نظرية الزمر، لأن التحويلات التناظرية تشكّل زمرة، فتتالي تناظرين هو تناظر ومقلوبه كذلك. تنصّ نظرية نوثر Nötherعلى أنه عندما تتمتع منظومة فيزيائية بتناظرٍ مستمر ما فإن هناك مقداراً فيزيائياً مصوناً. أما عندما لا يتحقّق التناظر بشكل كامل فإن المصونية قد لا تكون مطلقة، مثل حالة اللاتغيّر عند إجراء تحويلات غاليليو Galileoوالذي لا يكون صالحاً إلاّ عند السرعات الصغيرة مقارنةً مع سرعة الضوء، ولكن، حتى هنا يؤدي التناظر دوراً في صياغة القوانين. فيما يأتي خمسة أنواع من التناظرات، بعضها محقّق بشكل كامل وبعضها بشكل جزئي.
1) التبديلات والمناقلاتpermutations & transpositions : تعبّر هذه التناظرات عن عدم القدرة على التمييز بين جسيمات متماثلة. تنقسم الجسيمات في الطبيعة إلى فئتين، تدعى جسيمات الفئة الأولى بالبوزونات bosons، وهي الجسيمات التي يمكن وجود أكثر من واحد منها في الحالة الكمومية نفسها، وكمثال عليها الجسيمات المرافقة للقوى والمذكورة في الجدول 2. نعبّر رياضياتياً عن تناظر البوزونات هذا بالقول: إن التابع الموجي لبوزونين يبقى نفسه عند المبادلة بينهما. تخضع البوزونات لإحصاء بوز ـ أينشتاينBose-Einstein، وتملك سبيناً من مضاعفات ثابت بلانك Planck. أما الفئة الثانية التي تُدعى بالفرميونات fermions فهي الجسيمات التي تخضع لمبدأ باولي Pauli في الاستبعاد فلا يمكن لفرميونين أن يكونا في الحالة الكمومية نفسها، وكمثال عليها الجسيمات المادية المذكورة في الجدول 1. تنعكس إشارة التابع الموجي لفرميونين عند المبادلة بينهما وتخضع الفرميونات لإحصاء فيرمي ـ ديراك Fermi-Dirac وتملك سبيناً مساوياً لأنصاف أعداد فردية من ثابت بلانك.
2) تناظرات الزمكان وزمرة بوانكاريه Poincaré: أهم هذه التناظرات هي الانسحابات عبر المكان والزمن والدورانات حول محور. يرافق كلاً من هذه التناظرات مقاديرُ مصونة، فاللاتغيّر عبر الانسحاب في الزمن (أي تنبّؤ قوانين الفيزياء بالتطوّر نفسه بغض النظر عن اللحظة التي يحدث فيها) يقتضي انحفاظ الطاقة، أما اللاتغيّر عبر الانسحاب في المكان (تجانس المكان) فيؤدي إلى مصونية الاندفاع، ويقتضي اللاتغيّر عبر الدوران (أي عدم وجود اتجاه مميّز في الفضاء) انحفاظ الاندفاع الزاوي الكلّي والذي هو مجموع الاندفاع الزاوي المداري مع سبين الجسيم. يجب أن تبقى القوانين الفيزيائية نفسها كذلك عند إجراء تحويلات لورنتز Lorentzفي النسبية الخاصة، فإذا ما أضيفت إليها الانسحابات في الزمكان حصلنا على زمرة بوانكاريه التي تمثّل زمرة تناظرات الزمكان.
3) التناظرات المنفصلةdiscretes: يمكن بناء بعض تحويلات لورنتز، والتي ندعوها بالصرف، بشكل مستمر ابتداءً من التحويل المطابق وعبر توالي تحويلات متناهية في الصغر، بينما توجد بعض التحويلات اللاصرفة والتي لاتنطبق عليها نظرية نوثر، فلايرافقها قوانين مصونية.
آ) الندّية أو قلب المكان parit: نرمز لهذه العملية بالرمز P، ووفقاً لها يتم عكس التابع الموجي للمنظومة المدروسة عبر مبدأ الإحداثيات: Pψ (r,t) = ψ (- r,t)، أو بعبارة أخرى تعني هذه العملية قلب المحاور رأساً على عقب. أشار العالمان يانغ Yang و لي Lee عام 1956 إلى إمكانية عدم تمتّع كوننا بهذا التناظر بسبب وجود القوى الضعيفة، بخلاف القوى الكهرطيسية والشديدة التي تحافظ على الندية، وسرعان ما برهنت على ذلك تجربةُ العالمة وو Wu في انحلال الكوبالت عند تطبيق حقل كهرطيسي يسمح بتعريف محورٍ في المكان، إذ اختلف إصدار أشعة bβفي اتجاه المحور عنه في الاتجاه المعاكس.
ب) عكس الزمن Time reversal: ونرمز له بالرمز T، ووفقاً له يتمّ عكس حركة الجسيمات بالنسبة للزمان (أي أن تعود إلى الوراء في حركتها)، ويعني اللاتغيّر بالنسبة إلى T أنه إذا انتقلت المنظومة من وضع إلى آخر فيمكنها العودة إلى الوضع الأصلي. تتمتّع معادلات المكيانيك الكلاسيكي بهذا التناظر، وما يجعل احتمالَ الانتقال العياني المعكوس ضئيلاً هو اعتباراتٌ إحصائية، أما في ميكانيك الكمّ، وعلى المستوى المجهري، فلايتغيّر كمون القوى الكهرطيسية والشديدة عند إجراء هذه العملية، أما القوى الضعيفة فتكسر هذا التناظر.
ج) رفْق الشحنة charge conjugation: ونرمز لهذه العملية التي تنقل جسيماً إلى جسيمه المضاد بالرمز C، وتكون المنظومة لامتغيّرة بالنسبة إلى C إذا تنبّأت القوانين الفيزيائية بالسلوك نفسه للجسيمات ومضاداتها، كأن يبدو الصدم بين إلكترون وبروتون مثل الصدم بين البوزيترون والبروتون المضاد. لاتحقّق القوى الضعيفة هذا التناظر بعكس القوى الأخرى.
د) نظرية الـ CPT: يمكن تعريف التناظرات الجدائية الناجمة عن تطبيقٍ متوالٍ للتناظرات المنفصلة السابقة مثل CPأو CPT. هناك مبادئ فيزيائية عامة، مثل السببية (سبقُ السبب للأثر) وموضعية التفاعلات (غياب التأثير الآني عن بعد) وعلاقة السبين بالإحصاء (المرتبطة بعدم التناقض بين نظرية الحقول الكمومية وتناظر لورنتز في النسبية الخاصة)، تقتضي ضرورة تمتّع الطبيعة بالتناظر CPT. يعني ذلك أن صورةَ عمليةٍ فيزيائية في المرآة مع استبدال مضادات الجسيمات بالجسيمات وعودتها في الحركة نحو الوراء، مكافئةٌ للعملية الأصلية، ويقتضي هذا أن قيم الكتل والأعمار متطابقة بين الجسيمات ومضاداتها. بيّنت تجارب اضمجلال الميزون K عام 1964 أن القوى الضعيفة تكسر التناظر CPومن ثم، حسب نظرية الـ CPT، فهي تكسر التناظر T كذلك. لا يوجد حتى الآن تفسير كامل لانكسار التناظر CP، فبينما يعزو نموذج واينبرغ ـ سلام Weinberg-Salam المعياري ذلك كليّاً إلى ما يعرف باسم مصفوفة كوباياشي ـ ماسكاوا Kobayashi-Maskawa، تعطي نماذج أخرى مثل التناظر الفائق والأوتار الفائقة تفسيرات تتجاوز التفسير المعياري.
4) التناظرات الداخلية: تساعد الاعتبارات التناظرية في تصنيف الجسيمات وفقاً لخصائصها الذاتية (الشحنة الكهربائية وأعداد كمومية أخرى) ضمن متعدّداتmultiplets أو عائلات، وكمثال على ذلك، أدخل هايزنبرغ Heisenberg عام 1932 مفهوم الإيزوسبين isospin من أجل توصيفِ عدمِ اعتمادِ القوى النووية على الشحنة الكهربائية، فاعتبر البروتون والنترون صورتين لكائن واحد هو النكليون، وتختلفان الواحدة عن الآخرى عند وجود القوى الكهرطيسية في قيمة المسقط الثالث للإيزوسبين، تماماً كما تنشطر مستويات الطاقة للإلكترون وفقاً لاختلاف قيم مسقط سبينه على محور مواز للحقل الكهرطيسي. إن أهم مبادئ ميكانيك الكم هو انحفاظ الاحتمال، ومن هنا تأتي أهمية دراسة زمر التناظر الأحادية SU(n)unitary.
آ) التناظرات SU(1): وترتبط بها المقادير السلمية الثابتة غير الكتلة والسبين، وعادة ما تكون هذه التحويلاتُ تحويلاتٍ معياريةgauge تغيِّر، كما سنرى، في طور الحقل الذي يصف الجسمَ المدروس بمقدارٍ متناسب مع المتحوّل الداخلي الموافق، مثل الشحنة الكهربائية التي تنجم مصونيتُها عن التغيّر المعياري الموافق للقوى الكهرمغنطيسية. أما مصونية العدد الباريوني B والأعداد اللبتونية الموافقة لكل عائلةٍ من اللبتونات فلا نعرف تماماً طبيعة التناظرات التي تقتضيها وقد لا تحقّقها الطبيعة عند الطاقات العالية جداً في بداية الكون. لاتحقّق القوى النووية الضعيفة مصونيةَ عدد الغرابة S المتعلّق بعدد الكواركات الغريبة، بينما يبقى هذا العدد مصوناً عند تأثير القوى الشديدة والكهرمغنطيسية.
ب) التناظرات: SU(2) ويكون المتحوّل الداخلي هنا هو الإيزوسبين الذي يسمح، كما ذُكر، باعتبار النكليون كائناً في فضاء رياضياتي مجرّد ذا إيزوسبين I = 1/2، وتوافق حالتاه (البروتون والنترون) قيماً مختلفة للمركبة الثالثة Iz المرتبطة بشكل خطي مع العدد الباريوني وعدد الغرابة والشحنة الكهربائية. وبالطريقة نفسها، يمكن تصنيف البيونات ضمن متعدّدة ذا إيزوسبين I = 1، وبشكل عام يمكن صياغة التناظر SU(2)الداخلي هذا على أنه تناظر بين نوعي الكوارك العلوي u والسفلي d والمكسور جزئياً بسبب اختلاف الكتلة والشحنة بينهما.
ج) التناظر SU(3): ويعني تناظراً بين الكواركات u,d,sويمكن النظر إليه كأنه تجميع لمتعدّدات الـ SU(2) المتميّزة بالعددين B و Sضمن متعدّدة كبيرة تتشارك جميع أعضائها بالعدد B وتختلف بالعدد S. إن هذا التناظر مكسور بشكل أكبر من SU(2) ولكنه كان الأساس الذي اعتبره العالِمان غِلمانْ Gell-Mann وزْڤغ Zweig عام 1964 في تبيان أن جميع الجسيمات المعروفة حينئذ تتألف من ثلاثة أنواع من الكواركات. وأمكن لهما تصنيف غالبية الجسيمات ضمن متعدّدات موافقة لتمثيلات زمرة SU(3)، فهناك متعدّدة ثمانيّة من الباريونات وأخرى عشارية، ومتعدّدة ثُمَانيّة للميزونات، وهكذا.
د) تناظرات أعلى: مثل SU(4) في الفيزياء النووية، وتقرن بين السبين والإيزوسبين وتعميمه إلى SU(6) في فيزياء الجسيمات.
5) تناظرات المعيار gauge symmetry: هذه التناظرات مهمة جداً فيزيائياً ويُعتقد أنها صحيحة تماماً تحققّها جميع القوى في الطبيعة، بينما يعود كسرها إلى اختيار المنظومة لحالة أساسية ground state لاتتمتّع بهذا التناظر، أو ما يعرف باسم آلية هيغز Higgs، وليس لأن بعض القوى تكسرها. تَجَمعُ نظرياتُ المعيار، بين ميكانيك الكم والنسبية الخاصة، وهي تتعلّق بأطوارٍ للحقول غير فيزيائية ولذا يمكن تغييرها عبر تحويلات تدعى بتحويلات المعيار ولا تتغيّر فيزياء المنظومة خلالها.
آ) التناظر U(1) والإلكتروديناميك الكموميQED : نظرية ماكسويل Maxwell عن الحقل الكهرمغنطيسي عام 1864 نموذجٌ عن نظريةِ معيار، وإن لم يتضح مفهوم المعيار إلاّ في القرن العشرين. الحقول الأساسية في نظرية ماكسويل هي الحقول الكهربائية والمغنطيسية والتي يمكن التعبير عنها من خلال متغيّرات أخرى مساعدة هي الكمونات السلّمية والشعاعية. يعني تحوّل المعيار هنا تحولاً في قيم الكمون دون تغيير قيم الحقول الأساسية. تبقى هذه الصورة نفسها في الصياغة الكمومية لنظرية ماكسويل أو ما يُعرف باسم الإلكتروديناميك الكموميQED حيث التناظر الذي يحقّقه التابع اللاغرانجي هو تناظر الزمرة (U(1 والمرتبط مع انحفاظ الشحنة الكهربائية.
ب) التناظر SU(3) والكروموديناميك الكمومي QCD: أضحت الصورة واضحة تقريباً في منتصف السبعينيات عن نظريةِ معيارٍ لوصف القوى الشديدة تدعى باسم الكروموديناميك الكمومي QCD، حيث لكلّ كوارك ثلاثة ألوان، وتتمتّع النظرية بتناظرSU(3) موافق لهذه الألوان.
ج) التناظر SU(2) ونموذج واينبرغ ـ سلام: يصف هذا النموذج القوى الضعيفة والقوى الكهرطيسية ضمن نظريةِ معيارٍ، حيث زمرة التناظر قبل انكساره كانت U(1) ×SU(2) ثمّ حصل كسر التناظر من خلال آلية هيغز المسؤولة عن توليد الكتلة للبوزوناتW,Z.
د) النظريات الكبرى الموحّدة Grand Unified Theories GUTs:هناك محاولات لدمج القوى الكهرطيسية والضعيفة والشديدة ضمن نظرية معيار واحدة، حيث زمرة التناظر الأساسية قد تكون SU(5) أو SU(10)أو غيرها.
تنبؤات مستقبلية
يسمح اللاتغيّر الرياضياتي بالتنبّؤ بوجود علاقاتِ انتظامٍ قبل إثبات التجربة لها. فمثلاً، تنبّأ باولي منذ عام 1930 بوجود النترينو لتفسير انحفاظ الطاقة والاندفاع عند إصدار أشعة β المستمر، ولم يتم اكتشاف النترينو تجريبياً إلاّ سنة 1959.
1) نتائج: كذلك بيّنت تنبؤات الـ SU(3)الداخلية مطبقةً على متعدّدة الميزونات الثُّمانيّة ذات السبين المعدوم والزوجية السالبة ضرورةَ وجود ميون ثامن غير البيونات الثلاث وميزونات K الأربعة المعروفة، وقد تمّ التحقّق تجريبياً بعد بضع سنين من وجود هذا الجسيم وسمّي إيتا η. بيّن تطبيق التناظر نفسه على متعدّدة الباريونات العشارية ذات السبين 3/2 والزوجية الموجبة ضرورةَ وجود جسيم بخصائص معيّنة، وفعلاً اكتُشف هذا الجسيم لاحقاً بالخصائص المتوقّعة وسمّي أوميغا Ω.
2) التناظر الفائقsupersymmetry: يربط هذا التناظر بين الفرميونات والبوزونات، وتكون المنظومة لامتغيّرة بالنسبة إليه إذا أمكن تحويل الفرميونات لبوزونات وبالعكس دون تغيير البنية الداخلية للنظرية. مع ذلك، تبيّنُ الحساباتُ أنه عندما يتحوّل فرميون إلى بوزون، ثم يعود ليصير فرميوناً من جديد، فإنه يكون قدّ تحرّك، وهكذا يربط التناظر الفائق بين خاصية داخلية للجسيمات، وهي السبين، وبين تحويلات بوانكاريه للزمكان. فوق ذلك يسمح التناظر الفائق بإيجاد علاقة بين جسيمات الجدول (1) الفرميونية وجسيمات الجدول (2) البوزونية، ومن ثمّ يوجد ضمن التناظر الفائق صنفٌ واحد من الجسيمات تنتمي إليه جميعها. في حال تمتّعَ كوننا بالتناظر الفائق فلا بدّ من وجود جسيمات شريكة للجسيمات المعروفة تختلف عنها في السبين، وسيكون اكتشاف أحد هذه الجسيمات مستقبلاً في المسرّعات دليلاً على صمود الكون بالنسبة للتناظر الفائق.
3) الأوتار الفائقةsuperstrings :نظرية واعدة توحّد بين جميع القوى في الطبيعة، وتقوم على فكرة أن المكوّنات الأساسية للكون ليست نقاطاً مادية، بل كائنات وحيدة البعد مثل أوتار. تتمتّع نظرية الأوتار بتناظرات كثيرة ويؤدي لاتغيّر التابع اللاغرانجي فيها بالنسبة لهذه التناظرات دوراً كبيراً في التوجه نحو الطريق الصحيح لمعرفة النظرية وفهمها.
من كل هذا يمكن القول: إن التناظر يؤدي دوراً كبيرا ً في الفيزياء، وأن عدم تغيّر القوانين الفيزيائية بالنسبة للتحويلات التناظرية يوفر أدواتٍ فعّالة وقوية في السعي لفهم طبيعة
نضال شمعون
يعبِّر الصمود، أو اللاتغيّر الرياضياتيmathematical invariance عن وجود خصائص فيزيائية ثابتة لاتتغيّر عند إجراء بعض التحويلات، ويرتبط هذا المفهوم بشكل وثيق مع مبادئ التناظر التي تؤدي دوراً أساسياً في الفيزياء، حيث يتحدّد ديناميك المنظومة المدروسة إلى حدّ بعيد من خلال خصائصها التناظرية. وليس من المبالغة القول إن التناظر هو ما يقدّم لنا التفسير الأساسي لأخذ القوانين الفيزيائية الشكلَ الذي لها.
تاريخيّاً لم يكن الطريق دوماً هكذا، فعلماءٌ مثل نيوتن Newton وأينشتاينEinstein وديراك Dirac صاغوا معادلاتهم التي تصف بعض ظواهر الطبيعة قبل معرفة الخصائص التناظرية لها. ولكن في العالَم المجهري، حيث القوى غير مألوفة، على المرء اكتشاف التناظرات التي تتمتّع بها المنظومة وتدلُّ عليها المقادير المصونة، مثل الاندفاع (كمية الحركة) والطاقة، قبل أن يستعين بها لمعرفة طبيعة القوى.
يقتضي مبدأ النسبية القائل: إن قوانين الفيزياء صامدة، لاتتغيّر، من جملة مرجعية لأخرى، أن تكون المقادير الفيزيائية المتضمَّنة في القوانين متمتعةً ببعض الخصائص التناظرية. يمكن تصنيف هذه المقادير في مقادير سلّمية مثل الكتلة الساكنة، أو مقادير متجهية (شعاعية) مثل التيار الكهربائي، أو مقادير موتّرية tensorial مثل السماحية الكهربائية، ولكلّ من هذه المقادير قوانين تحويل خاصة عند الانتقال من جملة مرجعية لأخرى.
يمكن إيضاح العلاقة بين مبادئ التناظر وقوانين المصونية إذا ما نظرنا إلى فرضية تجانس المكان التي تعني استحالةَ تحديدِ موضعٍ ما بشكل مطلق، ومن ثمّ لا بدّ أن تكون طاقة التأثير المتبادل بين جسيمين معتمدةً فقط على الموضع النسبي بينهما، ويكون اندفاع الجسيمين مصوناً. يوضح هذا المثال وجودَ علاقةٍ بين التناظر بالنسبة للانسحابات وانحفاظ الاندفاع.
بنية المادة وأنواع القوى في الطبيعة
بيّنت التجارب في المسرّعات أن النكليونات (البروتونات والنترونات) تتألف من جسيمات أصغر تسمّى بالكواركات[ر]quarks، ونعرف الآن ستة أنواع منها تدعى الكوارك العلوي u والسفلي d والمفتون cوالغريب s والذروي t والقعري b. وتبيّنَ كذلك وجودُ جسيمات مشابهة للإلكترون ولكنها أثقل منه هي الميون mμ والتاو tτ مع وجود ثلاثة أنواع من النترينوهات مرافقة لها، وتبيّنَ كذلك أن لكلّ جسيم جسيمَاً مضاداً يساويه في الكتلة ويعاكسه في الشحنة. تعرَّف الفيزيائيون في هذه الجسيمات على نمط تناظري يبدو من خلال معطيات الجدول 1، حيث صُنّفت في ثلاث عائلات، في كل واحدة منها كواركان وإلكترون، أو أحد قرينيه، وواحد من النترينوهات الثلاثة. تتشابه هذه الوحدات في خصائصها في العائلات الثلاث باستثناء كتلتها التي تزداد من عائلة إلى أخرى. تدعى الجسيمات المؤلَّفة من الكواركات بالباريونات[ر] baryons(مثل النكليونات التي تتألف من تجمّع ثلاثة كواركات من النوعين العلوي والسفلي)، بينما تدعى الجسيمات المؤلّفة من الكواركات ومضاداتها بالميزونات[ر] mesons (مثل البيونات pions)، أما الإلكترون وقريناه مع نترينوهاتها فتدعى اللبتونات[ر] leptons.
وتتعقد الأمور أكثر إذا ما أخذنا بالحسبان أيضاً قوى الطبيعة التي يُعرف منها اليوم أربعة أنواع هي: قوة الثقالة المسؤولة مثلاً عن بقاء كوكبنا في مداره حول الشمس، والقوة الكهرطيسية[ر] التي يرجع إليها الفضل في تمتعنا بمنجزات الكشوف الحديثة من كهرباء نرى أثرها في أجهزة الإنارة وأجهزة التلفاز والهاتف والحواسيب، أما القوتان الأساسيتان الأخريان فلا يُحَسُّ بهما في حياتنا اليومية لأن مداهما لا يتعدى الأبعاد الذرّيّة. تُعَدُّ أولاهما، وهي القوة النووية الشديدة، مسؤولة عن التصاق الكواركات بعضها ببعض ضمن البروتونات والنترونات، وعن ترابط هذه الأخيرة ضمن النوى الذرية؛ أما الثانية، وهي القوة النووية الضعيفة، فتتدخل في التحولات الجسيميّة أكثر من ظهورها كقوة جاذبة أو دافعة، وهي المسؤولة عن التفكك الإشعاعي لمواد مشعة كاليورانيوم. وقد تلمّس الفيزيائيون خاصيةً مشتركة بين أنواع هذه القوى كافة، تتجلى بوجود جسيم على مستوى مجهري، يرافق كل نوع من أنواع القوى الأربع، يُعَدُّ أصغر رزمة، أو كمّ، للقوة التي يرافقها. فالفوتونات التي ترافق القوة الكهرطيسية هي الجسيمات الأصغرية لهذه القوة؛ أما المكوّنات الأصغرية المرافقة للقوى النووية الضعيفة والشديدة فهي جسيمات ندعوها، على التوالي: بوزونات المعيار الضعيف W,Zوالغلوانات gluons. وقد برهن العلماء تجريبياً، حتى نهاية عام 1984، على وجود هذه الأنواع الثلاثة من جسيمات القوى، وحدّدوا خصائصها، المبيّنة في الجدول 2؛ وهم يعتقدون بوجود جسيم رابع يرافق قوة الثقالة، سمّوه الغرافيتون graviton، على الرغم من عدم تمكنهم حتى الآن من البرهان تجريبياً على وجوده.
التناظر في العالَم المجهري
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجدول 1: الجسيمات الأولية وكتلها مقدّرة بكتلة البروتون |
1) التبديلات والمناقلاتpermutations & transpositions : تعبّر هذه التناظرات عن عدم القدرة على التمييز بين جسيمات متماثلة. تنقسم الجسيمات في الطبيعة إلى فئتين، تدعى جسيمات الفئة الأولى بالبوزونات bosons، وهي الجسيمات التي يمكن وجود أكثر من واحد منها في الحالة الكمومية نفسها، وكمثال عليها الجسيمات المرافقة للقوى والمذكورة في الجدول 2. نعبّر رياضياتياً عن تناظر البوزونات هذا بالقول: إن التابع الموجي لبوزونين يبقى نفسه عند المبادلة بينهما. تخضع البوزونات لإحصاء بوز ـ أينشتاينBose-Einstein، وتملك سبيناً من مضاعفات ثابت بلانك Planck. أما الفئة الثانية التي تُدعى بالفرميونات fermions فهي الجسيمات التي تخضع لمبدأ باولي Pauli في الاستبعاد فلا يمكن لفرميونين أن يكونا في الحالة الكمومية نفسها، وكمثال عليها الجسيمات المادية المذكورة في الجدول 1. تنعكس إشارة التابع الموجي لفرميونين عند المبادلة بينهما وتخضع الفرميونات لإحصاء فيرمي ـ ديراك Fermi-Dirac وتملك سبيناً مساوياً لأنصاف أعداد فردية من ثابت بلانك.
|
|||||||||||||||
الجدول 2: أنواع القوى الأربع وجسيماتها المرافقة وكتلتها مقدّرة بكتلة البروتون |
3) التناظرات المنفصلةdiscretes: يمكن بناء بعض تحويلات لورنتز، والتي ندعوها بالصرف، بشكل مستمر ابتداءً من التحويل المطابق وعبر توالي تحويلات متناهية في الصغر، بينما توجد بعض التحويلات اللاصرفة والتي لاتنطبق عليها نظرية نوثر، فلايرافقها قوانين مصونية.
آ) الندّية أو قلب المكان parit: نرمز لهذه العملية بالرمز P، ووفقاً لها يتم عكس التابع الموجي للمنظومة المدروسة عبر مبدأ الإحداثيات: Pψ (r,t) = ψ (- r,t)، أو بعبارة أخرى تعني هذه العملية قلب المحاور رأساً على عقب. أشار العالمان يانغ Yang و لي Lee عام 1956 إلى إمكانية عدم تمتّع كوننا بهذا التناظر بسبب وجود القوى الضعيفة، بخلاف القوى الكهرطيسية والشديدة التي تحافظ على الندية، وسرعان ما برهنت على ذلك تجربةُ العالمة وو Wu في انحلال الكوبالت عند تطبيق حقل كهرطيسي يسمح بتعريف محورٍ في المكان، إذ اختلف إصدار أشعة bβفي اتجاه المحور عنه في الاتجاه المعاكس.
ب) عكس الزمن Time reversal: ونرمز له بالرمز T، ووفقاً له يتمّ عكس حركة الجسيمات بالنسبة للزمان (أي أن تعود إلى الوراء في حركتها)، ويعني اللاتغيّر بالنسبة إلى T أنه إذا انتقلت المنظومة من وضع إلى آخر فيمكنها العودة إلى الوضع الأصلي. تتمتّع معادلات المكيانيك الكلاسيكي بهذا التناظر، وما يجعل احتمالَ الانتقال العياني المعكوس ضئيلاً هو اعتباراتٌ إحصائية، أما في ميكانيك الكمّ، وعلى المستوى المجهري، فلايتغيّر كمون القوى الكهرطيسية والشديدة عند إجراء هذه العملية، أما القوى الضعيفة فتكسر هذا التناظر.
ج) رفْق الشحنة charge conjugation: ونرمز لهذه العملية التي تنقل جسيماً إلى جسيمه المضاد بالرمز C، وتكون المنظومة لامتغيّرة بالنسبة إلى C إذا تنبّأت القوانين الفيزيائية بالسلوك نفسه للجسيمات ومضاداتها، كأن يبدو الصدم بين إلكترون وبروتون مثل الصدم بين البوزيترون والبروتون المضاد. لاتحقّق القوى الضعيفة هذا التناظر بعكس القوى الأخرى.
د) نظرية الـ CPT: يمكن تعريف التناظرات الجدائية الناجمة عن تطبيقٍ متوالٍ للتناظرات المنفصلة السابقة مثل CPأو CPT. هناك مبادئ فيزيائية عامة، مثل السببية (سبقُ السبب للأثر) وموضعية التفاعلات (غياب التأثير الآني عن بعد) وعلاقة السبين بالإحصاء (المرتبطة بعدم التناقض بين نظرية الحقول الكمومية وتناظر لورنتز في النسبية الخاصة)، تقتضي ضرورة تمتّع الطبيعة بالتناظر CPT. يعني ذلك أن صورةَ عمليةٍ فيزيائية في المرآة مع استبدال مضادات الجسيمات بالجسيمات وعودتها في الحركة نحو الوراء، مكافئةٌ للعملية الأصلية، ويقتضي هذا أن قيم الكتل والأعمار متطابقة بين الجسيمات ومضاداتها. بيّنت تجارب اضمجلال الميزون K عام 1964 أن القوى الضعيفة تكسر التناظر CPومن ثم، حسب نظرية الـ CPT، فهي تكسر التناظر T كذلك. لا يوجد حتى الآن تفسير كامل لانكسار التناظر CP، فبينما يعزو نموذج واينبرغ ـ سلام Weinberg-Salam المعياري ذلك كليّاً إلى ما يعرف باسم مصفوفة كوباياشي ـ ماسكاوا Kobayashi-Maskawa، تعطي نماذج أخرى مثل التناظر الفائق والأوتار الفائقة تفسيرات تتجاوز التفسير المعياري.
4) التناظرات الداخلية: تساعد الاعتبارات التناظرية في تصنيف الجسيمات وفقاً لخصائصها الذاتية (الشحنة الكهربائية وأعداد كمومية أخرى) ضمن متعدّداتmultiplets أو عائلات، وكمثال على ذلك، أدخل هايزنبرغ Heisenberg عام 1932 مفهوم الإيزوسبين isospin من أجل توصيفِ عدمِ اعتمادِ القوى النووية على الشحنة الكهربائية، فاعتبر البروتون والنترون صورتين لكائن واحد هو النكليون، وتختلفان الواحدة عن الآخرى عند وجود القوى الكهرطيسية في قيمة المسقط الثالث للإيزوسبين، تماماً كما تنشطر مستويات الطاقة للإلكترون وفقاً لاختلاف قيم مسقط سبينه على محور مواز للحقل الكهرطيسي. إن أهم مبادئ ميكانيك الكم هو انحفاظ الاحتمال، ومن هنا تأتي أهمية دراسة زمر التناظر الأحادية SU(n)unitary.
آ) التناظرات SU(1): وترتبط بها المقادير السلمية الثابتة غير الكتلة والسبين، وعادة ما تكون هذه التحويلاتُ تحويلاتٍ معياريةgauge تغيِّر، كما سنرى، في طور الحقل الذي يصف الجسمَ المدروس بمقدارٍ متناسب مع المتحوّل الداخلي الموافق، مثل الشحنة الكهربائية التي تنجم مصونيتُها عن التغيّر المعياري الموافق للقوى الكهرمغنطيسية. أما مصونية العدد الباريوني B والأعداد اللبتونية الموافقة لكل عائلةٍ من اللبتونات فلا نعرف تماماً طبيعة التناظرات التي تقتضيها وقد لا تحقّقها الطبيعة عند الطاقات العالية جداً في بداية الكون. لاتحقّق القوى النووية الضعيفة مصونيةَ عدد الغرابة S المتعلّق بعدد الكواركات الغريبة، بينما يبقى هذا العدد مصوناً عند تأثير القوى الشديدة والكهرمغنطيسية.
ب) التناظرات: SU(2) ويكون المتحوّل الداخلي هنا هو الإيزوسبين الذي يسمح، كما ذُكر، باعتبار النكليون كائناً في فضاء رياضياتي مجرّد ذا إيزوسبين I = 1/2، وتوافق حالتاه (البروتون والنترون) قيماً مختلفة للمركبة الثالثة Iz المرتبطة بشكل خطي مع العدد الباريوني وعدد الغرابة والشحنة الكهربائية. وبالطريقة نفسها، يمكن تصنيف البيونات ضمن متعدّدة ذا إيزوسبين I = 1، وبشكل عام يمكن صياغة التناظر SU(2)الداخلي هذا على أنه تناظر بين نوعي الكوارك العلوي u والسفلي d والمكسور جزئياً بسبب اختلاف الكتلة والشحنة بينهما.
ج) التناظر SU(3): ويعني تناظراً بين الكواركات u,d,sويمكن النظر إليه كأنه تجميع لمتعدّدات الـ SU(2) المتميّزة بالعددين B و Sضمن متعدّدة كبيرة تتشارك جميع أعضائها بالعدد B وتختلف بالعدد S. إن هذا التناظر مكسور بشكل أكبر من SU(2) ولكنه كان الأساس الذي اعتبره العالِمان غِلمانْ Gell-Mann وزْڤغ Zweig عام 1964 في تبيان أن جميع الجسيمات المعروفة حينئذ تتألف من ثلاثة أنواع من الكواركات. وأمكن لهما تصنيف غالبية الجسيمات ضمن متعدّدات موافقة لتمثيلات زمرة SU(3)، فهناك متعدّدة ثمانيّة من الباريونات وأخرى عشارية، ومتعدّدة ثُمَانيّة للميزونات، وهكذا.
د) تناظرات أعلى: مثل SU(4) في الفيزياء النووية، وتقرن بين السبين والإيزوسبين وتعميمه إلى SU(6) في فيزياء الجسيمات.
5) تناظرات المعيار gauge symmetry: هذه التناظرات مهمة جداً فيزيائياً ويُعتقد أنها صحيحة تماماً تحققّها جميع القوى في الطبيعة، بينما يعود كسرها إلى اختيار المنظومة لحالة أساسية ground state لاتتمتّع بهذا التناظر، أو ما يعرف باسم آلية هيغز Higgs، وليس لأن بعض القوى تكسرها. تَجَمعُ نظرياتُ المعيار، بين ميكانيك الكم والنسبية الخاصة، وهي تتعلّق بأطوارٍ للحقول غير فيزيائية ولذا يمكن تغييرها عبر تحويلات تدعى بتحويلات المعيار ولا تتغيّر فيزياء المنظومة خلالها.
آ) التناظر U(1) والإلكتروديناميك الكموميQED : نظرية ماكسويل Maxwell عن الحقل الكهرمغنطيسي عام 1864 نموذجٌ عن نظريةِ معيار، وإن لم يتضح مفهوم المعيار إلاّ في القرن العشرين. الحقول الأساسية في نظرية ماكسويل هي الحقول الكهربائية والمغنطيسية والتي يمكن التعبير عنها من خلال متغيّرات أخرى مساعدة هي الكمونات السلّمية والشعاعية. يعني تحوّل المعيار هنا تحولاً في قيم الكمون دون تغيير قيم الحقول الأساسية. تبقى هذه الصورة نفسها في الصياغة الكمومية لنظرية ماكسويل أو ما يُعرف باسم الإلكتروديناميك الكموميQED حيث التناظر الذي يحقّقه التابع اللاغرانجي هو تناظر الزمرة (U(1 والمرتبط مع انحفاظ الشحنة الكهربائية.
ب) التناظر SU(3) والكروموديناميك الكمومي QCD: أضحت الصورة واضحة تقريباً في منتصف السبعينيات عن نظريةِ معيارٍ لوصف القوى الشديدة تدعى باسم الكروموديناميك الكمومي QCD، حيث لكلّ كوارك ثلاثة ألوان، وتتمتّع النظرية بتناظرSU(3) موافق لهذه الألوان.
ج) التناظر SU(2) ونموذج واينبرغ ـ سلام: يصف هذا النموذج القوى الضعيفة والقوى الكهرطيسية ضمن نظريةِ معيارٍ، حيث زمرة التناظر قبل انكساره كانت U(1) ×SU(2) ثمّ حصل كسر التناظر من خلال آلية هيغز المسؤولة عن توليد الكتلة للبوزوناتW,Z.
د) النظريات الكبرى الموحّدة Grand Unified Theories GUTs:هناك محاولات لدمج القوى الكهرطيسية والضعيفة والشديدة ضمن نظرية معيار واحدة، حيث زمرة التناظر الأساسية قد تكون SU(5) أو SU(10)أو غيرها.
تنبؤات مستقبلية
يسمح اللاتغيّر الرياضياتي بالتنبّؤ بوجود علاقاتِ انتظامٍ قبل إثبات التجربة لها. فمثلاً، تنبّأ باولي منذ عام 1930 بوجود النترينو لتفسير انحفاظ الطاقة والاندفاع عند إصدار أشعة β المستمر، ولم يتم اكتشاف النترينو تجريبياً إلاّ سنة 1959.
1) نتائج: كذلك بيّنت تنبؤات الـ SU(3)الداخلية مطبقةً على متعدّدة الميزونات الثُّمانيّة ذات السبين المعدوم والزوجية السالبة ضرورةَ وجود ميون ثامن غير البيونات الثلاث وميزونات K الأربعة المعروفة، وقد تمّ التحقّق تجريبياً بعد بضع سنين من وجود هذا الجسيم وسمّي إيتا η. بيّن تطبيق التناظر نفسه على متعدّدة الباريونات العشارية ذات السبين 3/2 والزوجية الموجبة ضرورةَ وجود جسيم بخصائص معيّنة، وفعلاً اكتُشف هذا الجسيم لاحقاً بالخصائص المتوقّعة وسمّي أوميغا Ω.
2) التناظر الفائقsupersymmetry: يربط هذا التناظر بين الفرميونات والبوزونات، وتكون المنظومة لامتغيّرة بالنسبة إليه إذا أمكن تحويل الفرميونات لبوزونات وبالعكس دون تغيير البنية الداخلية للنظرية. مع ذلك، تبيّنُ الحساباتُ أنه عندما يتحوّل فرميون إلى بوزون، ثم يعود ليصير فرميوناً من جديد، فإنه يكون قدّ تحرّك، وهكذا يربط التناظر الفائق بين خاصية داخلية للجسيمات، وهي السبين، وبين تحويلات بوانكاريه للزمكان. فوق ذلك يسمح التناظر الفائق بإيجاد علاقة بين جسيمات الجدول (1) الفرميونية وجسيمات الجدول (2) البوزونية، ومن ثمّ يوجد ضمن التناظر الفائق صنفٌ واحد من الجسيمات تنتمي إليه جميعها. في حال تمتّعَ كوننا بالتناظر الفائق فلا بدّ من وجود جسيمات شريكة للجسيمات المعروفة تختلف عنها في السبين، وسيكون اكتشاف أحد هذه الجسيمات مستقبلاً في المسرّعات دليلاً على صمود الكون بالنسبة للتناظر الفائق.
3) الأوتار الفائقةsuperstrings :نظرية واعدة توحّد بين جميع القوى في الطبيعة، وتقوم على فكرة أن المكوّنات الأساسية للكون ليست نقاطاً مادية، بل كائنات وحيدة البعد مثل أوتار. تتمتّع نظرية الأوتار بتناظرات كثيرة ويؤدي لاتغيّر التابع اللاغرانجي فيها بالنسبة لهذه التناظرات دوراً كبيراً في التوجه نحو الطريق الصحيح لمعرفة النظرية وفهمها.
من كل هذا يمكن القول: إن التناظر يؤدي دوراً كبيرا ً في الفيزياء، وأن عدم تغيّر القوانين الفيزيائية بالنسبة للتحويلات التناظرية يوفر أدواتٍ فعّالة وقوية في السعي لفهم طبيعة
نضال شمعون