تَعرّفْ على بودلير الباريسي؛ على باريس البودليرية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تَعرّفْ على بودلير الباريسي؛ على باريس البودليرية

    اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	IMG_٢٠٢٣٠٨١٠_٢٢٠١١٢.jpg 
مشاهدات:	6 
الحجم:	55.5 كيلوبايت 
الهوية:	144855 أحمد المديني
    لم توجد الحداثةُ الأدبيةُ بالصّدفة. ولا يمكن الانتسابُ إليها بالتقليد، فهي ظاهرةٌ، بل كيانٌ حضاريٌّ شموليٌّ يتظافر فيه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بالثقافي والمخيال الوطني، مسبوكة في الحالة الإبداعية على الموهبة الفردية، تشقّ لها طريقها فيها صانعةً ملامحها ناطقةً بصوتها في قلب تجربةٍ جماعيةٍ، هي جزءٌ منها وتقبل أن تُشتقَّ منها تجارب.
    الحداثة الأدبية، الشعريةُ، خاصة، فهذا الاصطلاح استُخدم للشعر تحديداً، صفةٌ لفرع صغير انبثق من أصل كبير، هو مجملُ التحوّلات التي اعترت المجتمعاتِ الغربية ابتداءً من القرن التاسع عشر، وكانت المدينةُ المجالَ الذي نُحِتت فيه معالمُ ومفاهيمُ اختزلها مصطلحُ المدنيّة. والمدخلُ الصحيحُ والسليمُ لمعرفة وتلقّي الشعر الحديث في مبناه ومعناه هو المدينة، أي المجالُ العمراني الجديد المؤسَّسُ بين أبنية القديم ومقوّماته، وبداخله نشأت ثقافة أخرى.

    بودلير ويُعدّ رائدَ الشعر الفرنسي الحديث، ومن قصائده بعد أن نضجت تجربتُه وكمُلت متوّجةً مجتمعةً في ديوانه الأشهر" Les fleurs du mal"1857 (أزهار الشر) ومن بعده عرف هذا الشعر تغيّراتٍ فنيةً كبرى وصلت حدّ القطيعة النسبية مع تراث أسلافه، بنماذجَ بلاغية وإيقاعية مجدِّدة وباهرة، وكلها بتوازٍ وتفاعل مع انقلاب جذري للبنيات السياسية والاقتصادية كانت معه المدنية الغربية تتوسّع خارجَ حدودها وهي تُبدّل حكمها وهياكلها وإيديولوجيتها، وضمنها الفردُ الفنانُ يصوغ تجربةً ذاتية.

    أقول الفرد الذي ولد في المدينة، كما هو بودلير في باريس (1821) وفيها ترعرع وتعلّم وتصعلك وشخّص نموجَ الشاعر الجديدِ البوهيمي، النقيضِ لفيكتور هوغو السابق عليه وهو بجواره، وفي الوقت الباني لقصيدة تبثّ روح عصرها المتحوّل يترك وراءه الرومنطيقية ويتجّه إلى واقعية مركّبة ـ لننظر من الجانب الآخر إلى بلزاك واستندال وفلوبير في ثورتهم الروائيةـ هي بنتٌ وصورةٌ له في المدينة التي عاش فيها وشَغف بها وتمثيلٌ لها في سلوكه وتجلّياته.

    لذلك فحديثنا هنا، مزدوجٌ ومتعالقٌ بين طرفين: المدينة والشاعر وبالعكس. وقد هدانا إلى إثارته سلسلة موضوعها طريف تُصدرها منذ سنوات "منشورات ألكساندرين" بعنوان "Le Paris des écrivains "(باريس الكتّاب) تختص بالكتّاب الفرنسيين من بينهم هوغو ، أندريه جِيد، بروست، سلين، رامبو، وموديانو.

    لا نجد نظيراً لها عند دور النشر العربية، وهي ممكنةٌ جدا نماذجُها متوفرةٌ ومادتها غزيرة، ما أكثر أدباءنا العرب المرتبطين بمدنهم وإنتاجُهم صورةٌ لها (القاهرة وحدها تصلح مادةً لسلسلة ابتداءً من نجيب محفوظ؛ فبغداد وبيروت وتونس وفاس).
    مدينة الشاعر
    نختار" باريس بودلير" أولاً في هذه السلسلة، نقرأها ونتابع خطوه فيها من خلال نظرات وما جمعه كاتبه André Guyaux من معلومات مستقاة من مصادر شتى، عينية ووثائقية.

    هذه مجتمعةً ترسم لنا بانوراما مدينة الشاعر لا باريس مطلقاً، أي حيث عاش وتعلّم وتلهّى وترحّل، فهو لم يقرِّ له فيها قرار، والأهمّ فيها أينعت شاعريتُه وأثمرت حداثةً فريدةً تعِب صاحبُها جدًا لبذَرها وأصبحت بعده مدرسة، وارتقى اليوم إلى مصاف الكلاسيكيين هو ومدينته.

    1- لنبدأ بالأولي: ولد شارل بودلير في 6 نيسان، (أبريل) 1821 في زقاق خلفي لما يُدعى "الحي اللاتيني"(Rue Hautefeuille)، في شقة متواضعة. بعد وفاة أبيه وهو في السادسة، انتقل مع أمه إلى زقاق قريب. بعد اقتران الأم بالضابط أوبيك (1927)، أقام معهما في بيت مريح في سان جرمان. بعد فترة دراسية أولى في مدينة ليون عاد إلى باريس ليُسجّل في أفضل ليسيه "لوي لوغران". وفي سنة 1839 حصل على البكالوريا والتحق بمدرسة الحقوق من دون حماس، هو الذي تستهويه مُتع المدينة وتظهر عليه عوارض مزاجه، ما أثار قلق زوج أمه الذي نفاه في رحلة إلى جزرٍ في المحيط الهندي. لكنه سرعان ما انقطع عنها ليعود بخُفّي حُنَين إلى باريس حيث بدأ الحياة البوهيمية.

    2ـ ثم ارتباطه بخليلة خلاسية (جين لومير) يمكن القول إنّها امرأة حياته رغم تعدّد علاقاته، عاشرها طويلاً وأخلصت له، واعتنى بها في وقت شِدّتها إلى أن ماتت، وكانت ملاذه أوانَ شِدّته.
    عانى منها كثيراً في حياته، لا بسبب الحاجة ولكن لأنّه كان متلافاً صاحب مزاج، يُنفق بلا حساب من التركة التي ورثها عن أبيه، في الحانات والمطاعم وعلى أصحابه، ويبذخ في الإنفاق على هندامه يصمّمه باختياره قوامُه الأسود غالباً قاطعاً مع ألوان وقته يدمَغه ببصمته، وكم تراكمت عليه الديون من جرّائه. والأهمّ، أنّه كان لا يتردّد في اقتناء اللوحات والتُّحف الفنية بلا تمييز. معها تربّى ذوقُه وتربيتُه الفنيةُ التي نمت وربطته بمحيط رسّامي عصره، فارتاد أهم متاحف ومراسم ومناسبات العاصمة، ومن نتائجها أن أصبح ناقداً فنياً ومعلّقاً يُعتمد رأيه.
    3- بقدر ما توزعت موهبتُه واهتماماته بين كتابة الشعر بشكل متقطّع، والترجمة، وتحرير مقالات عن زياراته للمعارض، بغرض كسب المال أولاً؛ بقدر ما توزّع جسدُه بين المضاجع في عاصمة الأنوار.
    بعد عودته من رحلة المنفى، قد لا تُحصى تنقّلاتُه، وخريطة إقاماته السكنية تحتاج إلى رسم بياني لمن لا يعرف باريس: بين شقق صغيرة ومتوسطة وفارهة، وفنادقَ بسيطةٍ ومريحة، وعند خليلته الخلاسية، وتارات باللجوء إلى بيت والدته في نويي سور سين في الضاحية. وتُعتبر l’Ile Saint Louis القطعة الأرضية بمثابة جزيرة صغيرة الواقعة بين الضفتين اليمنى واليسرى لنهر السين خلف كنيسة نوتردام، الحيَّ الذي استقرّ فيه أيام شبابه الأولى.
    هنا البناياتُ ذات معمار عريق وطراز تاريخي، ومساكن وأزقّة هادئة، أكثرها لعِلية القوم الأرستقراطية، وبعضُها حيِّزٌ صغيرٌ للرسامين والفنانين.
    تتيح السكنى هنا التنقّل بسهولة بين أحياء حيوية ومبهجة، في الضفة اليمنى كان بودلير يذهب إلى حي (le Marais) وأقام فيه وقتاً يقع بجنوبه الباستيل.
    في خريف 1845 أقام في حيّ (Notre-Dame-de-Lorette) في الضفة اليمنى في فندق دانكيرك، فترة اقترنت بعلاقات مع جماعة بوهيمية، ومع الشاعر دو نرفال، وخصوصاً تعرُّفُه إلى دولاكروا وتردّدَه بانتظام على مرسمه.
    في هذه الضفة دائماً له عاداته المميزة في مطاعم ومقاهٍ أشهرها Le Divan Le Peletier الواقع اليوم في شارع الإيطاليين قرب ميدان الأوبرا، وهنا كان يلتقي بزُمرة من فنّاني وكتّابِ وسياسيّي زمانه، وتدور فيه المحادثات من كل نوع.

    لا بدّ من الإشارة إلى فندق فولتير قرب متحف اللوفر حيث أقام عامين أنجز خلالهما أعمالاً جدّية منها ترجمته لإدغار ألان بو، وتقديمه للطبع النسخة الأولى من ديوان "أزهار الشر" في شباط (فبراير) 1857. وله في الضفة اليسرى أماكنُ ومجالسُ وفنادقُ ينتقل من هذا إلى ذاك عاجزاً عن الأداء أو هارباً، مفلساً غالباً من إسرافه في الإنفاق ومن دَيْن إلى دَيْن. مما أدّى إلى وضعه تحت الحَِجر وتخصيص مبلغ شهري من إرثه لم يكن يكفيه، فيلجأ إلى والدته تشدّ أزرَه ولا يكفيه أيُّ مبلغ يجنيه، تلتهمه نزواتُه وإنفاقُه أيضاً على خليلته.

    4ـ لم يكن وحده في عيش المعمعة، فلقد كانت باريس في زمن بودلير مسرحاً لأحداث جِسامٍ وتغييرات جذرية طالت الحكم (انقلاب نابوليون الثالث وإصلاحاته الكبرى) وثورة 1848 شارك فيها وراء المتاريس وتنقّل في الأحياء المتمرّدة حيث المعارك، وتغنّى بما سمّاه "السُّكْر الثوري" وأسس مع جماعة منهم الكاتب شانفلوري، صحيفةً حرّرها بنفسه ووزّعها، والتحديث الشامل على رأسه تغيير معماري حاسم للمدينة أُسند إلى البارون هوسمان الذي بخططه وأسلوبه بُنيت باريسُ الجديدةُ كما يراها الزائر اليوم نتجت من تهديم 60% من القديمة وتوسيعِ عرض الأزقة وشقّ الشوارع المديدةِ وبناءِ عماراتٍ بحجمٍ محدّدٍ ومنسَّق.

    هكذا بدأ الشاعر البوهيمي يرى معالمَ مسقطِ رأسه ومثواه ومحطاتِ ذكرياته تعمل فيها معاولُ الهدم، هو المنتمي إلى رعيل المجدّدين والمتحرّرين، الجريء في شعره، تعرّض بسببه لمحاكمة فضيحة تلت سابقة لها (محاكمة فلوبير من أجل روايته مدام بوفاري) بتهمة "المسّ بالأخلاق العامة"، التهمة الأساس التي أُدين بها التغاضي عن المسّ بالأخلاق الدينية، وشنّع عليه المحرّر الأدبي لجريدة "لوفيغارو" بـ"المنكر والكريه" وبـ"مَجمَع للصرعات العقلية" وأُدين بحذف ست قصائد من" أزهار الشر" وبغرامة مالية هو وناشره. لكنّ هذا المجددّ في الشعر، المتمرّدَ على رومنطيقية فيكتور هوغو، المدرسة الأولى للقرن التاسع عشر، كان له رأي آخر في إدخال مدينته إلى الزمن الحديث.

    5ـ على من يريد أن يتعمّق في فهم هذا التنازع بين قوتين (المحافظة والتجديد) ومعرفة الرؤية المدينية البودليرية، وتواشُج هذه مع البناء الشعري لقصيدته، نخُصُّ كيفية نسجه لقصيدة النثر، أن يضع أمامه نصّه الرائدَ لها والمعجز "Le Spleen de Paris"(وحشة باريس- 1869) هنا سيعثر على مناخ المدينة الحديثة، على مدينة هي صورةٌ لـ"نثر موسيقي من دون إيقاع ولا قافية" يطمح لخلقها. لذلك هو شاعرٌ جوال، متسكّع. في الخمسين مقطعاً من" السبلين" ثمة مشاهد باريسية خالصة للأزقة والحياة اليومية، ولحنين دفين لباريس القديمة le vieux paris أن تكون شاعراً حديثاً ثائراً على القوالب ومجدداً، وفي الوقت تسكنك نوستالجية حميمية، مفارقة سجّلها أكثر من باحث، منهم أنطوان كومبانيون بدقّة في "صيف مع بودلير"(2015)
    .
يعمل...
X