اللتين صورهما هذا الفنان نفسه في عام ١٩٢٦ مستعملا اللون الأسود الذي لا يمزق ظلمته المحزنة سوى بعض الأضواء السقيمة .
و بالاختصار ، فإن اللوحات التي يصورها فوتريه منذ الحرب لا تؤثر في النفس بقبح المواضيع أو مافيها من مأساة ، بقدر مايؤثر فيها رقة التلوين وظرف المادة . ونقصد بذلك أن هذا الفنان ، رغم كونه واحداً من أهم رواد الفن اللاشكلي ورغم الأشياء والأشخاص إلى نوع من الحساء المجمد فإنه ، بعيد عن اولئك الذين يعتقدون ان أصالة الفنان لا يمكن أن تكمن إلا في الاهمال والأنتاج السريع الرديء .
ويمكن أن نورد الملاحظة نفسها بالنسبة إلى « دوبوفيه Dubuffet الذي يتفوق على فوتريه بكثرة الامكانات وتنوع الانتاج . ونجد أن التصوير الساذج المشابه لما يصوره الأطفال وللخرفشات على الجدران ، يتناوب في فن دوبوفيه مع تأليفات مستقلة ، يراها المرء فيتردد في نعتها بالتجريدية لأن مادتها وأصباغها توحي بأشياء ملموسة ، كالأرض والحصى . . . وسبب ذلك هو أن دوبوفيه ، يجب أن يضعنا في مواجهة انسانية سخيفة مضحكة تثير السخط أو الاستغراب . ومن ذلك، الصور الشخصية التي نفذها في عامي ١٩٤٦ و ١٩٤٧ ل بولهان وبونج وليوتو وليمبور .. الخ .. ، ومن الأدلة على ذلك أيضاً لوحة أجساد مشوهة تشويهاً فظيعاً ( ١٩٥٠ ) ولوحة اللحى التي تظهر فيها اللحى مكتظة ملتفة كأنها مجموعة من الطحالب الغزيرة ( ١٩٥٩ ) هذا من جهة . ومن جهة ثانية ، فإن هذا الرجل الذي لا يبدو قادراً على أن ينظر إلى الناس إلا بسخرية وملل ، يصبح حنوناً أمام الطبيعة الخام والبكماء . حتى أن عدداً من لوحاته يشبه المقاطع الجيولوجية. وقد صنفها في مجموعات سماها ( ترب وأراض ) و « الأراضي البهيجة» و ( طوبوغرافيا » و « تكاوين صخرية » . وهي تتميز بلون ضارب إلى السمرة ، لون كلون الأرض ، والوحل . ويحدث أحياناً أن يكون اللون من السماكة بحيث يشكل نتوءات كما لوان أشياء قاسية صلبة متحجرة نصف مستحاثية اختلطت بالتراب .
والذي جذب ( دوبوفيه ) إلى هذه الألوان وهذه المواضيع هو أنها لا تلقى في العادة إلا اعتباراً قليلاً . وقد كتب يقول : « لقد أحببت دائماً إلا أستعمل في انتاجي إلا المواد الأكثر انتشاراً والتي لا يفكر فيها أحد لأول وهلة لأنها كثيرة الابتذال والقرب منا، فتبدو وكأنها لاتصلح لشيء مطلقاً . ويطيب لي أن أعلن أن في هو محاولة لاعادة الاعتبار إلى القيم المذمومة . إن صوت الغبار وروح الغبار يثيران اهتمامي مرات ومرات أكثر من الزهرة أو الشجرة أو الجواد ، لأني أشعر بأنهما أكثر غرابة ... ولكن، أيعني ذلك أنه يبقي للغبار والوحل مافيهما من ابتذال ؟ كلا . انه يحولهما إلى مادة تصويرية ، يعنى أشد العناية بأن يجعلها حساسة وجذابة.
وليس دوبوفيه بالوحيد بين فناني هذه الأيام من حيث الاهتمام بالمواد المحتقرة وأن كان أحد الذين أصابوا القدر الأكبر من النجاح في هذا الصدد . ويمكن القول بأن اتجاهاً إلى ما يشبه العودة إلى الطبيعة قد بدأ ينتشر منذ مدة من الزمن بين التجريديين. ولكنها ليست عودة إلى الطبيعة كما ينظر إليها المذهب الطبيعي ، وإلى الأشياء كما . يجري وصفها منذ عصر من النهضة ، وإنما العودة إلى تفاصيل هذه الأشياء ، ولا سيما بنيتها . وبعبارة أخرى لا يرينا الفنان منظراً طبيعياً، وإنما شقوقاً في الأرض، ولا يرينا سماء ، وإنما هزال الغيوم . وبدلاً من أن يرينا شجرة ما ، يجعلنا نحس بقشرتها ، وبدلاً من أن يصور لنا بيتاً ، نجد أنفسنا أمام جدار أو كوم من الأحجار . ونذكر على سبيل المثال الفنان الأسباني تابیس Tapies فهو ينشر في أكثر الأحيان على مساحات واسعة ضرباً الملاط المصبوغ بلون كامد هادئ متزهد. وتارة تكون طبقة الملاط مسطحة ، وطوراً تكون ذات نتوءات وخدوش وجروح. وتارة يخيل للمرء أمام جدار رمادي صاف لخلية من خلايا دير ، وطوراً أنه أمام جدار ضارب إلى السواد لدكان حداد أو لمغسل مهجور . وقد يذكرنا الشكل والتلوين المعتم الملمع تلميعاً خفيفاً بتلك الأبواب البسيطة العتيقة المدهونة في البيوت الريفية . ولا شك في أن هذا الفن هو فن هروب يقابل الحضارة الصاخبة الصناعية والمدنية في القرن العشرين بوصف حياة هادئة في عالم قروي بسيط العيش ، انتهى أمره. وإن هذا الحنين إلى الحياة البدائية ، وهذه الحاجة إلى الانفلات من النظام الذي فرضه العصر الآلي الحديث ، قد بدأ ظهورهما منذ مدة من الزمن بشكل متزايد أنه بين المثالين والمصورين على السواء .
ثم ان هذه الحاجة نفسها أخذت تظهر بازدياد لدى ابن المدينة العادي . ولا أدل على ذلك من هذه الجماهير التي تهرب من المدينة أيام الآحاد من مطالع الربيع حتى أواخر الخريف كل سنة الأمور الراهنة أيضاً أن هذه العودة إلى الطبيعة جعلتنا نجد من جديد قيمة عدد كبير من الأشياء كنا استخففنا بها . وكذلك لا يمكن أن ننكر أن تابيس قد أسهم في ( اعادة الاعتبار ) إلى الجدران الموجودة في الواقع ، لأن لوحاته تدعونا إلى أن ننظر إلى محاسنها نظرة أفضل . بيد أننا قد نتساءل أحياناً عما إذا كان قطع شقة من جدار ونقلها إلى احدى قاعات العرض، لا يؤدي نفس المزايا ، ونفس المعاني التي تثيرها لوحات هذا الفنان ، فهذا وإن يكن ذا إحساس ، إلا أنه يقلد الواقع أكثر من أن يحوره .
وليس الأمر كذلك بالنسبة لهو سياسون Hosiasson وإن تكن لوحاته الأخيرة تذكرنا ، هي أيضاً ، بأجزاء من جدران ضخمة ، وبتراكيب من أحجار هائلة الحجم تغطيها هنا وهناك طبقة من الجبس تتقشر وتتفتت . إلا أن ترتيب الأحجار هنا يدل بوضوح على أن الجدار هو جدار وهمي. أو بالأحرى على أن المراد هو إبراز مزايا ينتمي بعضها إلى العالم الواقعي ، بينما ينتمي بعضها الآخر إلى عالم التصوير وحده . ولهذا نستشعر ثقل الكتل وقساوة مادتها أقل مما نستشعر ارتجاف النور على سطح خشن مظلل بمهارة رقيقة .... وهذا النور هو نور جنوبي . ولكنه ليس منبعثاً من الشمس وهي في أقصى ارتفاعها فيخطف الأبصار ، بل هو نور تصفيه غيوم خفيفة ، وهو ، بدلاً من أن يمحو تدرجات الألوان يبرز على العكس كل مافيها من رقة لذيذة .
والواقع أننا نرى في لوحاته تلويناً غنياً من أحمر وبنفسجي ، ومن أخضر وأزرق ، ومن أصفر وليلكي ، ولكن هذه الألوان خالية من العنف . وأكثر الصبغات تمتاز بسيولة وشفافية كالالوان المائية حتى أن بعضها لا يعدو أن يكون مسحوقاً خفيفاً فوق شحوب غير . ناعم .
و كذلك فإن لوحات الياباني ( كي ساتو Keysato ) تعطي
و بالاختصار ، فإن اللوحات التي يصورها فوتريه منذ الحرب لا تؤثر في النفس بقبح المواضيع أو مافيها من مأساة ، بقدر مايؤثر فيها رقة التلوين وظرف المادة . ونقصد بذلك أن هذا الفنان ، رغم كونه واحداً من أهم رواد الفن اللاشكلي ورغم الأشياء والأشخاص إلى نوع من الحساء المجمد فإنه ، بعيد عن اولئك الذين يعتقدون ان أصالة الفنان لا يمكن أن تكمن إلا في الاهمال والأنتاج السريع الرديء .
ويمكن أن نورد الملاحظة نفسها بالنسبة إلى « دوبوفيه Dubuffet الذي يتفوق على فوتريه بكثرة الامكانات وتنوع الانتاج . ونجد أن التصوير الساذج المشابه لما يصوره الأطفال وللخرفشات على الجدران ، يتناوب في فن دوبوفيه مع تأليفات مستقلة ، يراها المرء فيتردد في نعتها بالتجريدية لأن مادتها وأصباغها توحي بأشياء ملموسة ، كالأرض والحصى . . . وسبب ذلك هو أن دوبوفيه ، يجب أن يضعنا في مواجهة انسانية سخيفة مضحكة تثير السخط أو الاستغراب . ومن ذلك، الصور الشخصية التي نفذها في عامي ١٩٤٦ و ١٩٤٧ ل بولهان وبونج وليوتو وليمبور .. الخ .. ، ومن الأدلة على ذلك أيضاً لوحة أجساد مشوهة تشويهاً فظيعاً ( ١٩٥٠ ) ولوحة اللحى التي تظهر فيها اللحى مكتظة ملتفة كأنها مجموعة من الطحالب الغزيرة ( ١٩٥٩ ) هذا من جهة . ومن جهة ثانية ، فإن هذا الرجل الذي لا يبدو قادراً على أن ينظر إلى الناس إلا بسخرية وملل ، يصبح حنوناً أمام الطبيعة الخام والبكماء . حتى أن عدداً من لوحاته يشبه المقاطع الجيولوجية. وقد صنفها في مجموعات سماها ( ترب وأراض ) و « الأراضي البهيجة» و ( طوبوغرافيا » و « تكاوين صخرية » . وهي تتميز بلون ضارب إلى السمرة ، لون كلون الأرض ، والوحل . ويحدث أحياناً أن يكون اللون من السماكة بحيث يشكل نتوءات كما لوان أشياء قاسية صلبة متحجرة نصف مستحاثية اختلطت بالتراب .
والذي جذب ( دوبوفيه ) إلى هذه الألوان وهذه المواضيع هو أنها لا تلقى في العادة إلا اعتباراً قليلاً . وقد كتب يقول : « لقد أحببت دائماً إلا أستعمل في انتاجي إلا المواد الأكثر انتشاراً والتي لا يفكر فيها أحد لأول وهلة لأنها كثيرة الابتذال والقرب منا، فتبدو وكأنها لاتصلح لشيء مطلقاً . ويطيب لي أن أعلن أن في هو محاولة لاعادة الاعتبار إلى القيم المذمومة . إن صوت الغبار وروح الغبار يثيران اهتمامي مرات ومرات أكثر من الزهرة أو الشجرة أو الجواد ، لأني أشعر بأنهما أكثر غرابة ... ولكن، أيعني ذلك أنه يبقي للغبار والوحل مافيهما من ابتذال ؟ كلا . انه يحولهما إلى مادة تصويرية ، يعنى أشد العناية بأن يجعلها حساسة وجذابة.
وليس دوبوفيه بالوحيد بين فناني هذه الأيام من حيث الاهتمام بالمواد المحتقرة وأن كان أحد الذين أصابوا القدر الأكبر من النجاح في هذا الصدد . ويمكن القول بأن اتجاهاً إلى ما يشبه العودة إلى الطبيعة قد بدأ ينتشر منذ مدة من الزمن بين التجريديين. ولكنها ليست عودة إلى الطبيعة كما ينظر إليها المذهب الطبيعي ، وإلى الأشياء كما . يجري وصفها منذ عصر من النهضة ، وإنما العودة إلى تفاصيل هذه الأشياء ، ولا سيما بنيتها . وبعبارة أخرى لا يرينا الفنان منظراً طبيعياً، وإنما شقوقاً في الأرض، ولا يرينا سماء ، وإنما هزال الغيوم . وبدلاً من أن يرينا شجرة ما ، يجعلنا نحس بقشرتها ، وبدلاً من أن يصور لنا بيتاً ، نجد أنفسنا أمام جدار أو كوم من الأحجار . ونذكر على سبيل المثال الفنان الأسباني تابیس Tapies فهو ينشر في أكثر الأحيان على مساحات واسعة ضرباً الملاط المصبوغ بلون كامد هادئ متزهد. وتارة تكون طبقة الملاط مسطحة ، وطوراً تكون ذات نتوءات وخدوش وجروح. وتارة يخيل للمرء أمام جدار رمادي صاف لخلية من خلايا دير ، وطوراً أنه أمام جدار ضارب إلى السواد لدكان حداد أو لمغسل مهجور . وقد يذكرنا الشكل والتلوين المعتم الملمع تلميعاً خفيفاً بتلك الأبواب البسيطة العتيقة المدهونة في البيوت الريفية . ولا شك في أن هذا الفن هو فن هروب يقابل الحضارة الصاخبة الصناعية والمدنية في القرن العشرين بوصف حياة هادئة في عالم قروي بسيط العيش ، انتهى أمره. وإن هذا الحنين إلى الحياة البدائية ، وهذه الحاجة إلى الانفلات من النظام الذي فرضه العصر الآلي الحديث ، قد بدأ ظهورهما منذ مدة من الزمن بشكل متزايد أنه بين المثالين والمصورين على السواء .
ثم ان هذه الحاجة نفسها أخذت تظهر بازدياد لدى ابن المدينة العادي . ولا أدل على ذلك من هذه الجماهير التي تهرب من المدينة أيام الآحاد من مطالع الربيع حتى أواخر الخريف كل سنة الأمور الراهنة أيضاً أن هذه العودة إلى الطبيعة جعلتنا نجد من جديد قيمة عدد كبير من الأشياء كنا استخففنا بها . وكذلك لا يمكن أن ننكر أن تابيس قد أسهم في ( اعادة الاعتبار ) إلى الجدران الموجودة في الواقع ، لأن لوحاته تدعونا إلى أن ننظر إلى محاسنها نظرة أفضل . بيد أننا قد نتساءل أحياناً عما إذا كان قطع شقة من جدار ونقلها إلى احدى قاعات العرض، لا يؤدي نفس المزايا ، ونفس المعاني التي تثيرها لوحات هذا الفنان ، فهذا وإن يكن ذا إحساس ، إلا أنه يقلد الواقع أكثر من أن يحوره .
وليس الأمر كذلك بالنسبة لهو سياسون Hosiasson وإن تكن لوحاته الأخيرة تذكرنا ، هي أيضاً ، بأجزاء من جدران ضخمة ، وبتراكيب من أحجار هائلة الحجم تغطيها هنا وهناك طبقة من الجبس تتقشر وتتفتت . إلا أن ترتيب الأحجار هنا يدل بوضوح على أن الجدار هو جدار وهمي. أو بالأحرى على أن المراد هو إبراز مزايا ينتمي بعضها إلى العالم الواقعي ، بينما ينتمي بعضها الآخر إلى عالم التصوير وحده . ولهذا نستشعر ثقل الكتل وقساوة مادتها أقل مما نستشعر ارتجاف النور على سطح خشن مظلل بمهارة رقيقة .... وهذا النور هو نور جنوبي . ولكنه ليس منبعثاً من الشمس وهي في أقصى ارتفاعها فيخطف الأبصار ، بل هو نور تصفيه غيوم خفيفة ، وهو ، بدلاً من أن يمحو تدرجات الألوان يبرز على العكس كل مافيها من رقة لذيذة .
والواقع أننا نرى في لوحاته تلويناً غنياً من أحمر وبنفسجي ، ومن أخضر وأزرق ، ومن أصفر وليلكي ، ولكن هذه الألوان خالية من العنف . وأكثر الصبغات تمتاز بسيولة وشفافية كالالوان المائية حتى أن بعضها لا يعدو أن يكون مسحوقاً خفيفاً فوق شحوب غير . ناعم .
و كذلك فإن لوحات الياباني ( كي ساتو Keysato ) تعطي
تعليق